ماذا يريد الرئيس قيس سعيد بالضبط؟
بقلم/ محمد كريشان
نشر منذ: 3 سنوات و 9 أشهر و 19 يوماً
الأربعاء 27 يناير-كانون الثاني 2021 08:38 م
 

في كل مرة يتحدث فيها إلا ويثير اللغط حول ما قاله وما لم يقله.

هكذا هو الرئيس التونسي قيس سعيّد منذ وصوله إلى هذا المنصب قبل أكثر من عام لم يتخل خلاله عن أسلوب يبث الحيرة في التونسيين ويزرع الشك أكثر مما يطمئن أو يحفّز، أسلوب يعتمد الغموض والغمز واللمز بحيث بات ما يصرح به في كل مرة مجموعة أحجية وألغاز ترفع منسوب التأزيم في البلاد ليس إلا.

وبعيدا عما يعبر عنه أحيانا من رغبة في تغيير مجمل النظام السياسي في البلاد دون أن يقدم على خطوات واضحة لنقاش وطني حول هذا الموضوع، فإن الرئيس التونسي استمرأ على ما يبدو توجيه اتهامات خطيرة، من قبيل الخيانة والعمالة ومساعي تدمير الدولة، إلى جهات لا يحددها، مع أنه يقول في كل مرة إنه يعرفها تماما، بل ويقول إن التونسيين يعرفونها كذلك!!.

عندما كانت السيدة رشيدة النيفر مسؤولة عن الإعلام في القصر الرئاسي، سمحت لنفسي، بحكم زمالتنا الصحافية قبل أربعين عاما عندما كنا ننشط معا في «جمعية الصحافيين التونسيين» ثمانينيات القرن الماضي، أن أبعث لها رسالة نصية على هاتفها أقول لها فيها إن الصحافيين سئموا من كتابة الجملة التالية في كل مرة : «واتهم الرئيس قيس سعيّد جهات لم يسمّها»!!.

اللافت للإنتباه أن الرئيس أيضا لم يعد يرى من حرج أن يأتي الإعلام لتصويره وهو يلتقي بكبار مسؤولي الدولة ليبدو كمن يحاضر عليهم بل ويوبخهم أمام الجميع وهو أمر غير مقبول في عرف أي دولة تحترم نفسها. فعل ذلك سابقا مع رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب في مشهد أقرب إلى مُدرّس يقرع تلاميذ صغارا فلا ينبسون أمامه ببنت شفة.

آخر ظهور للرئيس سعيّد كان مساء أول أمس الاثنين وفيه اعترض على التعديل الوزاري الكبير الذي ينوي رئيس الحكومة القيام به، متحدثا بلغة الواثق مما يمليه دستور البلاد من مقتضيات في ظل غياب المحكمة الدستورية، مع أنه هو نفسه قال كلاما مناقضا عندما كان خارج الرئاسة عن وضع مماثل بين الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي ورئيس حكومته وقتها يوسف الشاهد. كما أن الرئيس لم يفوّت هذه الفرصة دون الإعلان عن أن لا أحد من الوزراء الذين تحوم حولهم «شبهة فساد» يمكن أن يؤدي اليمين الدستورية أمامه، مع أنه هو نفسه من عيّن رئيس حكومة بمثل هذا الوصف ودعم وزيرا أيضا في الحكومة الحالية، ومع ذلك لم نسمع منه نقدا ذاتيا لما فعله أو حتى نقدا لهؤلاء الذين قد يكون توسّم فيهم الخير ولم يكن يدري بما اكتشف عنهم لاحقا. كل هذا من شأنه أن يجعل من «محاربة الفساد» سلاحا يستعمله رئيس الدولة، كما يستعمله كثيرون غيره، في سياق الصراع السياسي وليس في سياق المحاربة الجادة والمنزهة عن الأهواء.

هذا ليس دفاعا لا عن رئيس الحكومة الحالي هشام المشيشي ولا عن رئيس البرلمان راشد الغنوشي، اللذين حضرا اجتماع مجلس الأمن القومي الذي تحدث فيه الرئيس مساء الاثنين، فالأول ما زال في خطواته الأولى في هذا المنصب أما الثاني فيحتاج هو الآخر بدوره لمقال خاص يستعرض عثراته الكثيرة في دولة يتضح يوما بعد يوم للأسف الشديد افتقارها للكفاءات المناسبة، بيمينها ويسارها، كما أن مجمل طبقتها السياسية لم تبد يوما على هذا النحو من الخواء وقلة الحيلة.

عندما زار الرئيس سعيّد الدوحة نوفمبر- تشرين الثاني الماضي، نظمت السفارة التونسية لقاء له مع الجالية، تدخل خلاله عدد لا بأس به لإثارة نقاط هامة مختلفة لكن مداخلتي كانت الوحيدة التي تناولت الرئيس شخصيا. قلت له مباشرة:

«سيدي الرئيس، عندما انتخبك الناس بنسبة كبيرة، فذلك لتوسمهم الخير فيكم لأنكم جئتم من خارج الأحزاب والمنظومة السياسية السائدة، التي مجّها التونسيون، ولأنكم كنتم خارج المماحكات والتجاذبات السياسية السائدة. كان الأمل كبيرا في أن تكونوا فوق هذه الأحزاب جميعها وخلافاتها، ولكن للأسف الشديد، وبعد زهاء العام من توليكم الرئاسة، نلاحظ أن بعض هذه الأحزاب باتت تستأسد بكم، في صراعاتها مع بقية الأحزاب، مقابل توجهكم أنتم لتوجيه اللوم لبعض الأحزاب دون غيرها، بمعنى أنكم، سواء بإرادتكم أو بحكم الأمر الواقع، صرتم جزءا من التجاذبات القائمة في البلاد وليس فوقها. سيدي الرئيس، ما يدعو كذلك إلى ضرورة استعادة مكانتكم كحكم بين الجميع ومُجمّعا للجميع، هو ما تعانيه البلاد من انهيار كبير سياسي واقتصادي واجتماعي وأخلاقي، وعلى جميع المستويات. أنا لم أفقد الأمل بعد بالكامل في استعادتكم هذا الموقع».

تقبل الرئيس سؤالي بكل هدوء، وقال إنه حاول قدر جهده أن يكون مجمّعا، لكن الأمور لم تسر كما شاء، لكنه لم يخض في التفاصيل.

ما زال إلى الآن من يحاول في تونس جاهدا التمسك بمثل هذا الأمل، رغم أنه يتضاءل باستمرار وبسرعة، فيما فقده آخرون، وهذا كارثي لأنه يتزامن كذلك مع الخيبة وفقدان الثقة في الجميع بلا استثناء.