آخر الاخبار
تقييم الليبرالية
بقلم/ عصام السلمي
نشر منذ: 12 سنة و 4 أشهر و 6 أيام
الثلاثاء 10 يوليو-تموز 2012 06:15 م

في هذه الأيام، وبعد تفجر براكين الغضب الثورية في البلدان العربية وإجبارها الواقع الفاسد على الحراك والتغيير، نشأت اليوم من جراء ذلك التغيير القسري حرب حامية بين معسكرين، الثائر الجديد والبائد المثور عليه، وهما معسكران لهما تاريخ قاسٍ من الصراع، ويقف في هذه المعركة جيشان نِدان وخصمان لدودان، الأول: القوى القديمة المنحلة ويمثل طليعتها العلمانيون والليبراليون، والثاني: القوى الثورية ويمثل طليعتها الإسلاميون بشكل عام وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون.

الفكرة الليبرالية القادمة من وراء البحار -وهي المحسوبة منتجاً غربيا فاخرا يصدر إلى بلدان العالم الثالث- تقدم نفسها باستمرار على أنها الفكرة الوحيدة القابلة للتطبيق والمقبولة عالميا، والقادرة على حل مشكلة العالم العربي المترع بالإشكالات والتناقضات الظاهرية، والذي يحاول الآن عبر هذه الثورات الشبابية الشعبية الحضارية معالجة بعض جراحاته العاجلة ليتمكن من النهوض والوقوف والبدء في الاهتمام بصحته ونفسه بعد أن كان أقعده المرض وشلت حركته أسقام داخلية قادمة من الخارج على شكل ميكروبات وفيروسات خطيرة.

في هذه المقالة أحاول تقييم الفكرة الليبرالية بشكل مبسط ومن وجهة نظر شاب عربي بسيط يعايش الأحداث وينظر إليها عن قرب، وأقصد بالقرب هنا القرب النفسي العاطفي بطبيعة الحال؛ ولأنني لست نصيرا لقضية الثقة في احتكام الأمة إلى منتج خارجي مشبوه، يبدو بمظهر خارجي جميل وفي داخله متناقض، فسأقوم خلال الفقرة التالية بذكر سبب ذلك وهي الأعراض الملاحظة على الليبرالية وأهلها ومعتنقيها.

ليس خافيا على أحد الحظوة التي لقيها الليبراليون (الفكرة والأتباع) من زعماء وأنظمة الاستبداد في الوطن العربي، نالوا ثقة الحكام وقربوهم واستخدموهم، حتى صارت قناعة في عقول الناس أن العلمانية وجهٌ للحاكم وغطاء له، حتى نادى هؤلاء الحكام بالعلمنة واللبرلة وصاروا يفرضونها فرضا على واقع الأوطان وبأساليب غير سوية، وكأن هؤلاء المستبدين قد وجدوا ضالتهم ومطلوبهم في العلمانية، لتحقيق هدفين من أهدافهم، المحافظة على عروشهم وكراسيهم من خلال تقريب جماعة من أهل المصالح والأهواء وكذلك إرضاء القوى العظمى المهيمنة التي تشارك حتى في اختيارات وتعيينات المناصب الحكومية. ولذا فلا أظنه خطأً القول بأن الليبرالية بدت –على الأقل خلال فترة الحكم الماضية- كحامٍ للاستبداد وغطاء له.

شارك العلمانيون في صياغة القوانين وتطبيقها وشاركوا أو انفردوا في بعض الأحيان في تسيير شؤون الدول والحكومات العربية ولم نجد لهم أثرا يسر القلب أو يبهج العين، فكل المقاييس الحيوية في بلداننا العربية متدنية إن لم تكن مستوياتها كارثية، فالتعليم عقيم لم يقدم شيئا ذا بال، والصحة والاقتصاد والاجتماع والإعلام كلها قطاعات سيئة المستوى بشهادة الداخل والخارج العدو والصديق، والسلم الداخلي هشٌ ضعيف بدوره، وهكذا كل أركان الدول العربية مهدمة أو مهددة بالسقوط آيلة إليه.

من يرى هذا المشهد المتداعي لبنيان الدولة في عموم الدول العربية لا يملك إلا أن يتهم العلمانيين بأنهم أداة خارجية لا تهتم بمصالح الأوطان بقدر اهتمامها بتحقيق مصالح الآخرين غربا وشرقا، استغلوا الجهل واستخدموه سلاحا مصلتا في وجوه الحركات الإصلاحية التحررية القادمة من وسط المعاناة الشعبية، فكان عندنا أفشل أنظمة التعليم في العالم ومن ثم حصلنا على أسوء المخرجات والكوادر؛ أشيعت الفرقة وكثرت التحزبات المتصارعة والجماعات المتناحرة حتى يخلو لهم الجو في تطبيق فكرتهم، وكأنهم كانوا يمهدون لأمرهم عبر خطوة أولى هي ضرب القيم الموجودة وهي الإسلام وشريعته وطريقته الربانية في الحياة ثم إحلال الليبرالية وفرض العلمانية على المجتمعات.

أنا هنا أعترف وأعلم بأن هنالك جوانب جيدة في الليبرالية كأسلوب تنظيم للدولة والحياة العامة، ولكن هذه الجوانب الجيدة لم تطبق للأسف ولم نر منها شيئا، والذي طُبق ويتم تطبيقه هي الجوانب السيئة في الفكرة، ولعل الله قد صرف بحكمته عن الأمة ذلك، وإلا لو كان الليبراليون أذكياء ومحظوظين بما يكفي وشعر الناس بنجاح المشروع وانعكس ذلك على حياتهم تعليما وصحة واقتصادا وتنمية لما كان لأحد عذر أمام الشعوب في نقض الفكرة وإحلال بديل لها محلها.

رصيد الليبراليين –في الحقيقة- مفتقر للمواقف الوطنية بدل التبعية العمياء البلهاء، ومفتقر للأثر الواقعي في حياة الشعوب بدل الادعاءات الكاذبة والزعم الباطل، وهو في ذات الوقت مليء بالتوافه –في نظري-، فلو فتشت ملفاتهم وقضاياهم لما وجدت غير قضايا تحرير المرأة وحقها في قيادة السيارة وحقها في التعريّ وحقوقها في العمل والاختلاط، وكأن هذه القضايا هي الحاجز الوحيد أو النهائي بيننا وبين انفراج أزماتنا وحل مشاكلنا وتقدم أوطاننا، أما الإعلام الذي يقومون عليه فهو غاية في الانحطاط أو السذاجة أو التدليس والكذب، ما بين إعلام العري والهز وبرامج تلفزيون الواقع الساذجة وغيرها من أدوات التغريب وبرامجه الإعلامية. وكأن مهمتهم إنما هي محصورة في تحوير هوية الأمة وسوقها باتجاه التغريب فقط بغض النظر عن أوضاع الناس وهمومهم ومصالحهم.

لقد أصبحت مؤمنا ومقتنعا بأن الليبرالية ليست فكرا ولا مشروعا ولا طريقة حياة، وإنما هي عبارة عن فقاعات تستخدم لتشويه وجه الأمة وللتشويش على مسيرتها وخطتها للنهوض (على الأقل هي كذلك عند ليبراليينا)، ولا أظن الشعوب العربية المستيقظة حديثا والمتنبهة جدا تسمح لمثل هؤلاء ثانية باعتلاء ظهورهم، بعد أن أبدوا فشلهم الذريع بل وخيانتهم الفجة لأمتهم وأوطانهم، ولا يجرب المجرَّب إلا قليل عقل أو مخبول. هذا ليس تجنٍ على ليبراليي الوطن العربي، بل إن طريقتهم ومطالبهم وتاريخهم وجل ما يعملون يفصح بوضوح عنهم ولا يوحي بوجود مشروع صالح للتطبيق مفيدٍ للأمة! ولذا –يقينا- انتهت العلمانية في واقع العرب ولن تقوم لها قائمة، ولن يركب مركبهم إلا شذاذ الآفاق ونفايات المجتمع، مع احترامي العميق لشخوص بعض المساكين المغرر بهم، وهؤلاء لا تقوم بهم دول ولا يبنى بهم مجد.

ولم يبق على العلمانية إلا التنحي عن طريق الأمة والحذر من عرقلة مسيرتها والعبث بمستقبلها، ولم يبق عليهم أيضا سوى أن يؤمنوا بأن فكرتهم الواهنة الضعيفة لا تستطيع الصمود فكيف بالانتصار، فليفتشوا في العالم عن فكرة أخرى غيرها أصلح منها وأكثر نفعا، أو على الأقل ليقوموا بتقييم أنفسهم ومعالجة أخطائهم وتعديل نظرتهم لأمتهم وأوطانهم التي تحتاج إليهم وإلى كل فرد فيها في البناء المزمع القادم القريب، والله المستعان.