سامحينا يا نادية.. سامحنا يا يمن
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 12 سنة و 3 أشهر و 12 يوماً
الجمعة 03 أغسطس-آب 2012 09:41 م

التاسعة صباحاً على موعد أنا مع أحد الذين نشرت حواراتهم في صحيفة الشرق الأوسط في وقت سابق، قبل دخولي المطعم في صنعاء، قابلتها. نادية بنت العشر سنوات، وقفت أمام باب السيارة، وهي تنظر إليَّ نظرات ينسكب منها غيرُ قليل من البؤس. لم تتكلم ولكن عيونها المشحونة بالبراءة والآمال المكسرة كانت تقول الكثير. قلت لها هل تناولت طعام الافطار؟ قالت نعم، الحمد لله.

أدخلت يدي في جيبي وأخرجت بعض النقود غير أنها رفضت أخذها وقالت:أريد شيئاً غير ذلك. قلت: مذا تريدين؟ قالت عندما تخرج من المطعم سأقول لك. قلت: وأنا لن أتأخر. أكملت الحوار وخرجت من المطعم، ركبت السيارة، ناسياً مع زحمة وصخب الحوار عيون نادية الجميلة ونظراتها المنكسرة، وما أن هممت بالتحرك حتى وقفتْ أمامي قائلة: نسيتني يا عم؟ قلت سامحيني، في رأسي هموم كثيرة شغلتني. وأدخلت يدي في جيبي، وأخرجت مبلغاً من المال، وناولتها . قالت نادية لا أريد مالاً. قلت : فماذا إذن؟ قالت: أريد جزمة للمدرسة. لم أعد قادرة على تحمل زميلاتي في الفصل وهن يعيرنني بجزمتي هذه القديمة المقطعة. لمحت جزمتها التي خيل إلي أنها مسحت بها شوارع صنعاء كلها، وقلت: لكن ليس معي الآن قيمة الجزمة، خذي هذا المبلغ، وسأعود غداً ومعي المبلغ المطلوب، وتشترين جزمة جديدة. اعتذرتْ عن قبول المبلغ، وانصرفت إلى ركن بعيد، وأنا أناديها للعودة، لكنها لم تلتفت. مكثت حائراً في السيارة. ماذا أفعل؟ نزلت من السيارة لاقناع نادية بأخذ المبلغ. وفوجئت بها تدس رأسها بين يديها وهي تبكي بكاء صامتاً تتقطع له نياط السماوات القصية. قلت لماذا تبكين؟ خذي هذا المبلغ، أو اصبري حتى أذهب إلى أحد محلات الصرافة، لأصرف بعض النقود. واصلت بكاءها الصامت، دون أن تنبس ببنت شفة. قلت لها مداعباً: ما جزائي إذا اشتريت لك الجزمة؟ شعرت نادية بأنني قد بدأت أسير في الاتجاه الذي تريد، ورفعت إلى أهداباً تعلقت بها بقايا دموع وبقايا أحلام. قالت: يصلح الله لك أولادك. قلت وماذا: قالت أقرأ لك سورة المدثر. قلت اتفقنا. قالت نادية: مكان بيع الجزمات على الرصيف الثاني. أخذتها من يدها وعبرنا الشارع ودخلنا محل بيع الجزمات. عرف صاحب المحل نادية، وداعبها ضاحكاً: يبدو أنك ستشترين الجزمة اليوم. قالت بلغة الواثق: إن شاء الله. وبدأ صاحب المحل يعرض عليها بعض الجزمات، وهي تقلبها، بشغف لم أر مثله في عيني طفل من قبل، وأخيراً اختارت واحدة، وقلت للبائع ليس لدي المبلغ المطلوب بالعملة اليمنية، وناولته ورقة نقدية حملتها معي من بريطانيا ليصرفها. وافق وأخذت نادية الجزمة، وقرأت سورة المدثر وخرجنا من المحل وهي في غاية السرور. قالت لي: غداً سأذهب إلى المدرسة دون خوف من تعليقات زميلاتي في الفصل، ثم شكرتني ومضت تفتح غلاف الجزمة في فرح طفولي غامر. ركبت السيارة ونظرت إليَّ نادية وهي تلبس الجزمة الجديدة بفرحة تملأ السماء. قلت لنفسي: ما أقل ما يرضي نادية، وما أكبر فرحتها. كان بودي لو جلست مع نادية لتحدثني أكثر عن ظروفها وأسرتها، لكن فرحتها، وضيق وقتي حال دون ذلك، ومضينا: أنا إلى وجع يمني آخر، ونادية إلى فرحة ولو إلى حين.

امتد بي حبل التأمل، وجدتني أرى في نادية صورة اليمن، البلد الذي افقره الفساد والجهل والقات والحروب المتوالية. وأنا أتجول في صنعاء وأرى المحلات تزدحم بالباعة، وأرى فروعاً لشركات عالمية، ووكالات لمنتجات من مختلف الأنواع في صنعاء، وأرى صديقي القديم يحمل جهاز (آي فون فور أس)، وأرى كيف يتكوم المال في بعض أجزاء صنعاء وبعض شوارعها في وقت تبدو شوارع أخرى غير بعيدة أشبه بشوارع حلت بها مأساة من حجم إغريقي. تكوم المال في شارع دون غيره في صنعاء يعني أن اليمن ليست بلداً فقيراً، ولكنه يحتاج إلى نظام عادل في توزيع الثروة، عمود هذا النظام يقوم على جباية الضرائب والزكاة التي هي حق ديني ووطني للدولة تنفقها على الفقراء وفي المشاريع العامة. وهذا جوهر الحل. نريد فقط نظاماً ضريبياً عادلاً وشفافاً لكي لا يستمر تكوم المال في شوارع بعينها على حساب شوارع أخرى في المدينة ذاتها.

اشترت نادية الجزمة هذه المرة. من سيشتري لنادية جزمتها في المرة القادمة؟ من سيقدم الغذاء لربع مليون طفل يمني على وشك الموت جوعاً؟

ويل للفاسدين من دموع نادية، من جوع أطفال أبين وحجة والحديدة. ويل للمتصارعين على كعكة السلطة من ثورة الجياع إذا سالت بهم مرة أخرى شوارع صنعاء. وحينها لن تسامحهم نادية، لن يسامحهم اليمن.