,"حرية التعبير" بين نهر الساخن و"نهر البارد".. !!
بقلم/ اسكندر شاهر
نشر منذ: 17 سنة و 5 أشهر و يومين
الأربعاء 13 يونيو-حزيران 2007 08:27 م

كان من المقرر أن أنتقل – في رحلة سريعة- من دمشق الفيحاء "مدينة الياسمين" ، مقر إقامتي منذ ما يقارب العقد من الزمن إلى بيروت "اللؤلؤة التي لا يمتلكها أحد" والتي تشاطر دمشق بعد المدن اليمنية –طبعاً- كل المحبة في قلبي ، وذلك لأدلي بدلوي في إحدى القنوات الفضائية لبرنامج خاص بموضوع حرية التعبير في العالم العربي .. ولكن أحداث نهر البارد في شمال لبنان (طرابلس) اندلعت قبل يوم واحد من موعد البرنامج المفترض وأدت إلى عدم إتمام الدلو في النهر الساخن ، فُترك المجال على مصراعيه لنهر البارد ليشتد ويسخن وترتفع حرارته إلى أن وصلت حد الهيستيريا غير مفهومة الأبعاد ..

وهذا موضوع ينبغي التوقف عنده قبل أن أتطرق لموضوع حرية التعبير الذي كان موضوع البرنامج والذي ينبغي أن نؤتيه حقه -وإن بمقال- فما لا يدرك كله لا يترك جله إضافة إلى أن ثمة ارتباط تجاذبي بين موضوع الجماعات من نوع "فتح الإسلام" بقضية الحرية فأنا لا أرى في هذه المجموعات إلا عدواً لدوداً للحرية بكل أشكالها وفي مقدمها حرية التفكير قبل حرية التعبير وهذه كارثة ابتلينا بها منذ وقت مبكر وأدت فيما أدت إليه هذا الانحطاط الفكري والثقافي والسياسي والاقتصادي والعلمي والتقني والأخلاقي الذي نرزح تحت وطأته .

هذه المجموعة الملغومة –حديثة العهد- والتي يتزعمها شاكر العبسي – هي مجموعة في ظاهرها انشقت عن فتح الانتفاضة وفي باطنها ما فيه ،وهكذا مجموعات لا يمكن لها أن تعيش إلا إذا توافر لها شرطان أساسيان الأول غياب الدولة التي تعنى بالأمن والاستقرار والثاني حضور الرغبة لدى دولة أو مجموعات متنفذة للقيام بتغذيتها وتمويلها بغية تحقيق أغراض ومطامح ومصالح على الأغلب سياسية وذاتية ضيقة وإن تلبست لبوساً دينياً .

الفريق الحاكم في لبنان أو الأكثرية المسماة فريق 14 آذار تتهم فتح الإسلام بالارتباط بالمخابرات السورية ، والسوريون ينفون علاقتهم بها وقال وزير خارجية سوريا وليد المعلم غير مرة بان سوريا بلد علماني ولاعلاقة له بهكذا جماعات دينية متطرفة وأن هذه المجموعة ومجموعات متطرفة مماثلة هي مطلوبة للسلطات السورية في كثير حوادث واعتداءات وقد شهدت أنا عدداً منها أثناء فترة إقامتي الطويلة بدمشق ، وغير بعيد فقد استشاط غضباً أحد أقطاب الفريق الحاكم في لبنان جراء تصريح وزير الخارجية الإيطالي ماسيمو داليما خلال زيارته لدمشق مؤخراً والذي قرب فيه المسافة بين فتح الإسلام وتنظيم القاعدة ، وهذا القطب الغاضب المنزعج ليس حليفاً للقاعدة بل من ألد أعدائها إلا أنه عدو أيضاً لسوريا ولا يريد لغيرها شريك في إي اتهام وأي اعتداء وأي حادثة تحصل في لبنان .. وهذا الديدن في اتهام سوريا الذي بات أشبه بمعزوفة نسمعها عقب أية مشكلة تحصل في لبنان منذ اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري يجعلنا نشكك بكل تصريح محلي ونربأ بأنفسنا منها ونستقي القليل وأحياناً الكثير من الحقائق من باحثين وكتاب ومتابعين أجانب .

ولأن لبنان بلد استثنائي بكل المقاييس ومتفرد بخصوصيات عدة جعلت منه مشهداً مفتوحاً على الدوام لفسيفساء غريب تتقاطع فيه الألوان والأعراق وتتجاذب فيه المصالح ليس المحلية فحسب وإنما الإقليمية والدولية أيضاً ،فإننا محكومون في قراءة أحواله بمقدمات خاصة لنتائج أكثر خصوصية ، ففي لبنان لا يدهشك منظر سيارة السفير الأمريكي بجوار منزل أي سياسي لبناني أو رجل دين سواء كان سياسياً حالياً أم متبوعاً بكلمة "سابق" ، وكذلك الحال مع السفير الفرنسي و السعودي والإيراني وسواهم ...

هذه الحالة باتت مألوفة ، في ظل بلد لا يمكنه إلا أن يعيش فضاءات مفتوحة يحكمها "التوافق" شاء من شاء وأبى من أبى ، ونسيان هذه الحقيقة لبعض الوقت يعني تعطيل لبنان لبعض الوقت .. وهذا ماهو حاصل منذ اختلاف الفرقاء اللبنانيين على تشكيل حكومة وحدة وطنية في أعقاب الحرب الإسرائيلية الخاسرة على لبنان الصيف المنصرم ، والتي أدت إلى اصطدام مصالح كبرى بأدوات محلية بنتائج الحرب وفشلها ومن ثم سقوط رهانات والكشف عن حقائق وهويات وبالتالي الوصول إلى حالة من التخبط السياسي الذي استرعى انفلاتاً أمنياً يأتي مايحصل اليوم في نهر البارد نتيجة من نتائجه الطبيعية والتي لا أعتقد أنا شخصياً أن الحل العسكري سيكون حاسماً لها كلية وإن بدى مايشبه ذلك بصورة موضعية وذلك بالنظر إلى طبيعة هذه الجماعات وأساليبها التكتيكية فضلاً عن امتداداتها والتقائها بمثيلات لها وهذا مابرز خلال الفترة الماضية كما في حالة "عصبة الأنصار" وغيرها.. لذا فإن من الحتمي والضروري أن يعود الفرقاء اللبنانيون إلى رشدهم بعد غي نسيان الحقيقة الواحدة والوحيدة التي سبق الإشارة إليها وهي أن لبنان سمكة لا تعيش إلا في بحر التوافق ، وديمقراطيتها هي هذه الديمقراطية التوافقية النوعية وكما قال "ضمير لبنان" الرئيس د.سليم الحص في مؤتمر الدوحة الأخير المتعلق بالديمقراطية والإصلاح السياسي "عندنا في لبنان قليل من الديمقراطية وكثير من الحرية" ، وأحسب أنه يقصد بهذا القليل من الديمقراطية هو هذا النوع الخاص من الديمقراطية التي لا تعتمد على الأغلبية بقدر اعتمادها على التوافق الذي يمثل السبيل الوحيد لضمان السلم الأهلي في بلد عانى الأمرين من حرب أهلية محمومة أجزم إن العودة إلى أتونها بات هاجساً يؤرق الجميع -وأقول الجميع- لأن لا مصلحة للجميع فيها ولأنني ومن خلال متابعتي للشأن اللبناني أحسب أن الحرب الأهلية قد أخذت الخط الأحمر بامتياز في لبنان ولكن التجاذب الحاصل هو على هوامش بعيدة ومتباعدة نأمل أن يكتب لها التقارب القريب والعاجل بما يزيح عن هذا البلد الجميل هذه الغمة ويعيد لباريس الشرق ذاكرتها الجمالية ومخرجاتها الإبداعية في شتى مناحي الحياة بما احتضنت من أساطين وأعلام وقمم وقامات .

إن من جملة ما ترمي إليه هذه الحركات المتطرفة هو إشاعة الفوضى من خلال محاولة انتهاك الخطوط الحمراء في لبنان تلك التي يذكرها اللبنانيون ويكررونها والتي حددها السيد حسن نصر الله مؤخراً .. الحرب الأهلية – الجيش اللبناني – المقاومة اللبنانية – الوحدة الوطنية- ، وإذا كان الداعم لهذه الجماعات قد تصرف بشكل اندفاعي في وقت ما انسياقاً وراء مخططات وأحلام واهمة ومتجاهلاً أو متناسياً الخطوط الحمراء وعواقب التعرض لها فإن عليه أن يكون على بينة بأن التوبة وأخذ العبرة والعظة بات الآن مطلوباً بشكل مضاعف وعليه أن يبحث عن مراجعات مناسبة تخلصه من كل ارتباط بهكذا جماعات لا يعول عليها سوى التكفير والتدمير .

وأنا لاأملك معلومات دقيقة ومحققة كما هو حال السواد الأعظم من الناس ولكني أضع أمامي الكثير مما قيل وكتب في هذا الإطار ومن ذلك ماكشفه الكاتب الأمريكي الشهير سيمور هيرش قبل اندلاع أحداث "البارد" بشهور ، وهو يرفد كتاباته بوقائع ومشاهدات ولقاءات وتصريحات يقول هيرش في معرض حديثه عن خطة "إعادة التوجيه " التي اعتمدتها الإدارة الأمريكية جراء تدهور الوضع في العراق في الأشهر الماضية "قررت إدارة بوش إعادة ترتيب أولوياتها في الشرق الأوسط . ففي لبنان، تعاونت الإدارة مع الحكومة السعودية ، وهي سنية، في عمليات سرية تهدف إلى إضعاف حزب الله ،المنظمة الشيعية المدعومة من إيران (...) ، وكانت إحدى النتائج الجانبية لتلك النشاطات دعم المجموعات السنية المتطرفة التي تعتنق رؤية عسكرية للإسلام وهي معادية لأمريكا ومتعاطفة مع القاعدة" ، ويصرح هيرش بالقول بأن "التحول في السياسة دفع السعودية وإسرائيل إلى مايشبه العناق الاستراتيجي الجديد" ويتابع هيرش على لسان الباحث الستير كروك "إن إحدى المجموعات السنية المتطرفة (فتح الإسلام) قد انشقت عن مجموعتها الأم الموالية لسوريا (فتح الإنتفاضة) في مخيم نهر البارد في شمال لبنان" وأضاف "قيل لي أنه إنه وخلال 24ساعة تم إعطاؤهم الأسلحة والمال من قبل أشخاص عرفوا عن أنفسهم بأنهم ممثلون عن مصالح الحكومة اللبنانية –ربما للإجهاز على حزب الله- أكبر هذه المجموعات (عصبة الأنصار) تتمركز في مخيم عين الحلوة ، وقد تلقت الأسلحة والعتاد من أجهزة أمنية داخلية وميليشيات مرتبطة بحكومة السنيورة" ، وبصرف النظر عن مدى صحة هذه المعلومات إلا إنه من غير المستبعد أن تقوم الإدارة الأمريكية وبالاستعانة بحليفتها وصديقتها السعودية من خلال مهندسها الدبلوماسي الأمير بندر بن سلطان بخلق أوراق ضغط من أي نوع ، ولكنه إذا ماصحت معلومات هيرش فإن الإدارة الأمريكية والسعودية ومعهما الحكومة اللبنانية قد وضعوا لبنان والمنطقة في فوهة بركان باعتمادهم هذه الجماعات التكفيرية وإقحامهم إياها في ساحة الصراع الذي لا يشكل مشكلة إذا مابقي سياسياً محضاً أما وأن يصبغ بالصبغة الدينية والطائفية والأصولية من خلال جماعات لا تتورع عن القتل والتدمير فهذا الصراع سرعان ما يتحول إلى اقتتال يصعب إيقافه وينذر بكارثة خطيرة .

فهذه الجماعات لا تقل في سوئها عن من تنعتهم بالكفر وتريد أن تطهر العالم منهم وربما كانوا أشد سوءً من الأنظمة المستبدة التي تحكمنا والتي يريدون تحريرنا منها باسم الدين الذي نصبوا أنفسهم أوصياء عليه ، لذلك يبدو الرابط بينهم واضح وجلي لجهة الإقصاء وانتهاك حرية الإنسان ومصادرة عقله وروحه وحياته .

إن الذين لا يرون أبعد من أنوفهم لا يمكنهم أن يدركوا بأنهم ليسوا سوى مجرد أدوات مستخدمة كالمناديل الورقية وإن أعجبتهم ألقابهم الفخمة من مثل أمير الجماعة أو الزعيم الروحي أو أمير المؤمنين .. وهم مع كل أسف يعيشون حالة الجهل المركب فيعتقدون بأنهم أمراء وفاتحون وأئمة ولا يعلمون بأنهم أراذل القوم وأدوات تهريجية وأنهم أحد أهم أسباب تخلفنا وتأخرنا ومصائبنا فالجاهل الذي يعرف بأنه جاهل مادة حية يمكن لها أن تصبح نبض حياة وعلى أقل تقدير ليس آفة وأما الجاهل الذي لا يعرف جهله ويدعي وصلاً بالعلم فذلك الآفة والكارثة الكبرى .

وينبغي على "السعودية" الموئل الأول والممول الأكبر والراعي الأساس لمعظم هذه الحركات والمجموعات التكفيرية إن لم يكن جميعها في العالم كله أن ترفع يدها وتعلن توبتها الحقيقية وتبتعد عن التكتيك الذي تعتمده والابتزاز الذي تمارسه والذي علمت جيرانها وغير جيرانها على ممارسته ومنهم النظام في اليمن الذي يغذي جماعات إرهابية وأصولية وتكفيرية ثم يعلن لأمريكا والعالم الخارجي بأنه المخلص والشريك في مكافحتها .. هذه الأدوار المزدوجة باتت مكشوفة وينبغي أن يوضع لها حداً لأن الأبرياء الذين يسقطون بين قتلى وجرحى والذين لا ناقة لهم في الأمر ولا جمل هم فقط من يدفع ثمن صفقات تجار السياسة والحروب الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم .

إن حرية التعبير تعنى بقمعها والتسلط عليها هذه الأنظمة الفاسدة الديكتاتورية المتسلطة والرذيلة وقد تركوا الوصاية لشركائهم التكفيريين ليكونوا حراساً وأوصياء على العقول يجرمون المفكر ويحرمون التفكير ، قد يكون هؤلاء أشد خطورة من أؤلئك ، ولكن القدر المتيقن هو أنهما يلعبان دوراً تكاملياً يدفع بنا إلى الوراء والى الحضيض ويقيم العقبات في طريق الحالمين بالحرية والانعتاق والسلام والمحبة..

إن حرية التعبير والتفكير التي ننشدها ليست فتحاً صليبياً –كما يروج البعض- وإنما عقيدة لابد أن نؤمن بها ( من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) ، كما أنه لم يعد من المقبول مطلقاً اعتبارها ترفاً أو بطراً كما يعتقد المستبدون ووزراء إعلامهم الذين يتحفونا بوجوههم الآتية من رفوف الأراشيف القديمة كلما تشكلت حكومة جديدة ، وكأن نساءنا عقمت أن يلدن خلال عقود إعلامياً يصلح لأن يستوزر.

وهذه الحرية أنا ممن يعتقدون بشكل جازم بأنها لا تأتي من الخارج وإنما من خلال صراع لابد أن يعتمل بين قوى اجتماعية داخلية غير خاضعة لأية تأثيرات خارجية وخاصة الغزو والتدخل المباشر ، فلقد أثبت هذا الأمر عبر التاريخ بأنه أبرز الأسباب التي كانت وراء تقهقر الأوضاع في عالمنا العربي والإسلامي وجمود الفكر والتقوقع والتشظي ضمن نموذج يكرر نفسه باستمرار من هولاكو إلى الحروب الصليبية إلى التوسع الأوروبي وصولاً إلى سقوط بغداد على يد الهولاكيين الجدد الذين يكتبون نهاياتهم كل يوم .. وإلى يوم .

وبعيداً عن ذلك فإنني مع كل دعوة سواء أكانت من أفراد أو أحزاب أو منظمات بإلغاء وزاراة الإعلام وشبيهاتها ممن يشكلن عبئاً إضافياً وعنواناً راديكالياً مناقضاً لكل دعاوى الانفتاح والديمقراطية والشفافية والحرية والرأي والرأي الآخر ..

وفي هذا الإطار فإنه في سبيل مواجهة المستبدين ووزراء إعلامهم فإنني لا أجد من حل أنجع لنيل حرية التعبير وتحرير التفكير من الهروب إلى الأمام من خلال صناعة الصراع الإيجابي الخلاق لا الفوضى الخلاقة –على الطريقة الأمريكية- وذلك باستثمار كل مساحة ممكنة وخلق فرص للكتابة والنقد واستخدام أشد اللهجات وأقساها وأكثرها صدماً ووخزاً لأن عقول المستبدين أشبه بأحجار صلبة لا ينفذ إليها إلا الكاسر بقوة .

وأخيراً .. فإن لكل عصر ظلمات وتنويريون ، وبين مساحة الضلام وبقعة الضوء خطوة جريئة وشمعة مشتعلة .

* باحث وكاتب صحافي من اليمن

eskandarsh@yahoo.com

نقلاً عن صحيفة الوسط الاسبوعية