السلفيون والعمل السياسي: جدلية العلاقة بين المركز والأطراف وصورة المستقبل 1-3
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 15 سنة و 3 أشهر و 18 يوماً
الخميس 30 يوليو-تموز 2009 09:07 م

ازدادت في الأوساط الفكرية والسياسية والتربوية -في الآونة الأخيرة- وتيرة الجدل عن السلفية ومستقبلها السياسي في اليمن، لاسيما بعد انعقاد الملتقى السلفي العام الذي بادرت إليه جمعية الحكمة اليمانية الخيرية في الفترة من 3-4/6/1438هـ- الموافق 27-28/5/2009م، تحت شعار (الوحدة اليمنية والتحدّيات الراهنة: رؤية شرعية واقعية)؛ وما إذا كان ذلك بمثابة الخطوات الأكثر جدّية في سياق التحضير لإعلان حزب سياسي (رسمي) لبعض تلك الفصائل .

وقبل المضي في مناقشة ذلك، لامناص هنا من تقرير الحقيقتين التاليتين:

الحقيقة الأولى :

يقصد كاتب هذه السطور بالسلفية في سياق قراءته هذه : التيار السلفي المدرسي نشأة وتكويناً وأهدافاً، ليخرج من النقاش من لا ينتمي إلى تلك المدرسة على ذلك النحو، من فصائل الحركة الإسلامية  والعمل الإسلامي، بل الصحوة الإسلامية (غير الشيعية)، بمختلف فصائلها واتجاهاتها، ممن ينتمي إلى عقيدة أهل السنة والجماعة ومدارسها على نحو مجمل، بما في ذلك المدرستان الفكريتان الأوسع انتشاراً في العالم الإسلامي، وهما: الأشاعرة( نسبة إلى أبي الحسن الأشعري، ت: 330 ونيف) والماتريدية( نسبة إلى أبي منصور الماتريدي، ت: 333هـ) .

الحقيقة الثانية : 

بعد التطورات التي بلغتها الحالة السلفية على مستوى العالم الإسلامي؛ لابدّ من التمييز بين اتجاهات ثلاثة رئيسة للسلفية هي:

الاتجاه الأول : السلفية العلمية التقليدية (الماضوية) :

وهذه المدرسة وإن اتكأت في نفوذها على المؤسسة الدينية(الرسمية)بالعربية السعودية، ممثلة في هيئة كبار العلماء التي تأسست عام 1970م، ووجدت من بعض أبرز رموزها الدعم الحقيقي لأنشطتها ونفوذها؛ غير أن الممثل الرسمي المباشر لها في بلد المركز أضحى الشيخ ربيع بن هادي المدخلي : الأستاذ بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنوّرة. 

ويتسم هذا الاتجاه بتبعية مطلقة للنظام السعودي في المركز، وفي بقيّة الأطراف التابعة خارجها، وأبرز ما يميّز مدرسته عن غيرها من الاتجاهات السلفية الأخرى هو الاتجاه (الماضوي) المتطرّف قبالة التاريخ، حيث الغيبوبة الحضارية عن الواقع وتحدّياته ومشكلاته الكليّة الفعلية، في مقابل التنشئة على استدعاء فهم السابقين، والدعوة لإحياء مشكلاتهم التاريخية، بوصفها منهج السلف، حتى وإن لم يكن لها ثمّة مبرّر من واقع، أو ضرورة من أي وجه، و لا فرق في ذلك عندها بين الغايات والمقاصد من جهة وبين الوسائل والأساليب من الجهة الأخرى، ودونما التفات إلى المنهج الحاكم لمسار التفكير والسلوك لدى السلف، وهو ما يفترض أن يكون حاكماً كذلك لمن يزعم انتساباً إلى منهجهم بعدهم إلى اليوم، لا أن يقع في شرك اغتراب الزمان، كما وقع دعاة التغريب والعلمنة في شرك اغتراب المكان، كإصدار بعض رموزه بعض الفتاوى الغريبة، مثل تحريم تنظيم المسيرات والتظاهرات، للاحتجاج على وقوع مظلمة، أو المطالبة بردّ حق إلى أهله أو نحو ذلك، ومثل تجريم كل أسلوب نقدي سلمي معلن ضدّ الحاكم بوصف ذلك تحريضاً يتسبّب في الخروج عليه، والدعوة- من ثمّ- إلى تبني أسلوب المناصحة السرّي المغلق، أو التعبير عن رفض سياسة بعض الأنظمة والحكومات الأجنبية بمقاطعة بضائعها بدعة منكرة ، وهكذا عدّ القيام بالعمليات الاستشهادية ضد العدو المحتل في فلسطين عملاً انتحارياً غير مشروع، أو الوقوف اللافت ضدّ الحركات الإصلاحية الكبرى ورموزها، ومؤخراً أدرجت كل الاتجاهات السلفية الأخرى في ذلك، بوصفها جميعاً تنافي المنهج السلفي الحق، وذريعة هذه المدرسة في ذلك كلّه أن السلف لم يعهد مثل تلك الوسائل والأساليب التي تنادي إليها تلك الجماعات ورموزها!! 

ونموذج هذا الاتجاه الأصلي في اليمن: الاتجاه الوادعي (نسبة إلى الشيخ الراحل أبي عبد الرحمن مقبل بن هادي الوادعي، ت: 1422هـ- 2002م)، ومن بعده زوج ابنته: أبو عبد الرحمن يحي بن علي الحجوري، الذي يزعم أن لديه وصية من الشيخ الوادعي بالجلوس على كرسيّه، والخلافة من بعده، على حين ينازعه في ذلك واحد من أبرز طلبة الشيخ الوادعي الكبار، وهو أبو الحسن مصطفى بن إسماعيل المأربي (المصري)، الذي يتمركز في محافظة مأرب، وله فروع محدودة في بعض المحافظات، وقد ساعده في ذلك: التحالف الملحوظ الذي بات يربط بينه وبين جمعية الحكمة، بعد أن انتصر عليه الحجوري، باستصدار حكم بانحرافه عن الدعوة السلفية، أصدره راعي دعوتهما معاً – قبل الخلاف- الشيخ المدخلي، الذي صرّح بأن الحجوري هو الممثل الشرعي لدعوته في اليمن، وأن أبا الحسن المأربي قد انقلب عليها(راجع القصة الكاملة لذلك الخلاف في: أحمد محمد الدغشي: الخلاف السلفي السلفي في اليمن: فقه العبرة وحتمية المراجعة، 1425هـ- 2004م، صنعاء: مركز عبادي للدراسات والنشر، ص 65-100). وقد انعكس ذلك الموقف من المدخلي وانحيازه لصف خصمه، على مجمل فكر المأربي في تحوّلاته الجديدة، بحيث غدا قريباً من فكر مدرسة جمعية الحكمة، بل أضحى يتسابق معها -بعد أن عجز بحسب مراقبين عن إيجاد ذلك التحالف مع تجمّع الإصلاح- في بعض التحوّلات اللافتة، مثل الاعتراف بحق غيره معه في العمل الإسلامي، بما في ذلك من وصفهم في بعض حواراته الصحفية المتأخرة بالمعتدلين من الصوفية، والتسامح مع الأحزاب الوطنية السائدة، وإيجاد تأويلات لها على نحو تجاوز به حلفاءه في جمعية الحكمة، وإجازته لإعلان حزب سياسي إسلامي للسلفية، والقبول بالتعامل مع الديمقراطية كأمر واقع (راجع حوار أبي الحسن المأربي مع صحيفة الناس (أجرى الحوار فايز المخرفي)، العدد(456)،27/7/1430هـ- 20/7/2009م، ص 8-9 )، غير أن ذلك لا يغيّر من تصنيف اتجاه المأربي في إطار هذه المدرسة، لأن ذلك التحوّل –في ظن صاحب هذه السطور- ليس نابعاً عن قناعة علمية أو فكرية،أو دراسة منهجية جادّة، بل عن ضرورة ألجأت إليها الانشقاقات في إطار مدرسته الأم، بمعنى أنّه من غير المستبعد رجوعه إلى مدرسته القديمة فيما لو حدثت متغيرات ما، تدفع المدخلي للتخلي عن خصمه( أي الحجوري) وإعلان قبوله للمأربي بديلاً عنه !

الاتجاه الثاني: السلفية الجديدة :

وهي التي تضم أشتاتاً من العاملين في حقل الدعوة (السلفية)، وتضم شخصيات علمية وشرعية وفكرية ودعوية، كما تشمل بعض الناشطين في مجال العمل الخيري والاجتماعي، وفي إطار هذا المجال؛ تمارس أنشطة اجتماعية وعلمية وتربوية وسياسية تختلف من قطر لآخر. ومركزها العربية السعودية وكذا الكويت. وتتمثل في السعودية ببعض الرموز العلمية والفكرية التي وقّعت على مذكرة النصيحة في عام 1992م، حيث وجّهت خطابها – على نحو غير مباشر- إلى العاهل السعودي الأسبق فهد بن عبد العزيز، على خلفية موقف السعودية الخارج – بنظرها- عن الموقف الشرعي من أزمة الخليج، وإن اشتمل الخطاب – في حقيقة الأمر- على جملة من القضايا الكلية بما فيها السياسة الخارجية للملكة، ومن أبرز تلك الشخصيات سواء التي وقّعت عليها أو زكّتها، وهي مصنّفة - بصورة عامة- على هذا الاتجاه: سفر الحوالي، وسلمان العودة، وعبد الوهاب الطريري، وسعيد آل زعير، وعائض القرني، مع الإشارة إلى أن هنالك شخصيات من هيئة كبار العلماء ومن غيرهم أيّدت المذكرة، وإن لم توقّع عليها. ويروي المفكّر السعودي الدكتور محسن العواجي في بعض مذكراته التي وردت ضمن شهادته في برنامج (مراجعات) على قناة الحوار الفضائية، أن من بين من أيّد المذكرة بقوّة في ذلك الحين: الشيخ عبد المحسن العبيكان المستشار الحالي لوزارة العدل هناك.

أمّا نموذج هذا الاتجاه في اليمن فيتمثل في نموذجي جمعيتي: الحكمة اليمانية الخيرية، وجمعية الإحسان الخيرية، وأبرز قياداتهما في الأصل من طلبة الشيخ الوادعي الأوائل ومناصريه، وفي مقدّمتهم- بالنسبة لجمعية الحكمة- : محمّد بن محمّد المهدي، وعبد العزيز بن عبد الله الدبعي، وأحمد بن حسن المعلّم، وعبد الله بن غالب الحميري، وعقيل المقطري ، وعبد القادر الشيباني، ومحمد الحداء، وغيرهم. وتبقى الإشارة جديرة إلى أن جمعية الحكمة اليمانية الخيرية تمتاز على جمعية الإحسان الخيرية بمتابعتها شبه المؤسسية لجمعية إحياء التراث بالكويت في اجتهاداتها المتوالية التي تبرز بحسب الانتماء السلفي الخاص للشخصيات التي تسيطر عليها، وبحسب القرب والبعد من السلطة هناك، غير أن أبرز نلك الشخصيات تأثيراً- رغم كل التطورات اللاحقة على مسار الجمعية- ظل المؤسس الفعلي الأول لها: الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، صاحب الاجتهادات السياسية الأكثر إثارة للجدل في الوسط السلفي منذ وقت مبكّر ، فيما ظل الشيخ محمّد بن سرور بن نايف زين العابدين ذو الجنسية السورية، الشخصية التاريخية الأبرز تأثيراً في ذهنية مدرسة جمعية الإحسان ومسارها العملي، على الرغم من حدوث بعض التباينات في بعض المسائل الاجتهادية في الآونة الأخيرة.

 أما أبرز قيادة جمعية الإحسان ورموزها من طلبة الشيخ الكبار الذين اختلفوا معه كذلك، حين أعلنوا تأسيس جمعية الحكمة في البداية، قبل الخلاف بين الجمعيتين فمنهم : عبد المجيد الهتاري الريمي، ومحمّد بن موسى العامري البيضاني ، وعبد الله بن محمّد الحاشدي، وسواهم . ولكل من الجمعيتين العديد من الجمعيات الفرعية والمراكز والمعاهد والمساجد بأسماء وعناوين مختلفة .

الاتجاه الثالث: السلفية القتالية(الجهادية) :

 ويقصد بها تلك المجموعات التي أعلنت الجهاد (القتال) – وفق رؤيتها الخاصة لمدلول هذا المصطلح ولوازمه- سبيلاً ومنهجاً في التغيير للأنظمة السياسية والمجتمعات، وسواء رفعت شعار تنظيم القاعدة، والتبعية لأسامة ابن لادن، أم لم ترفع؛ فإن السمة القتالية، هي أبرز ما يميزها عن نظيريتها السابقتين. 

ويلاحظ في ختام هذا التوصيف أنه رغم مظاهر التباين بل التشظي والتناحر الذي يطبع العلاقة بين كل من الاتجاهات السابقة وبعضها أحياناً، بل بين كل فصيل وآخر في إطار الاتجاه الواحد أحياناً أخرى؛ فإن القاسم المشترك الأبرز الذي ظل الرابط الرئيس بينها جميعاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار؛ هو إعلان مناصبة العداء، والتسابق اللافت في عدّ فرق الشيعة وفصائلها– ولاسيما الاثنا عشرية الجعفرية الإمامية- الخصم الحقيقي، والعدو اللدود، الذي لا مجال للتصالح معه، أو إمكانية التعايش وإياه، في أيّة مرحلة، وتحت أي ظرف، بوصفه العدو التاريخي لأهل السنّة بكل فصائلهم وعناوينهم!!