ثقافة الصوم
بقلم/ بروين حبيب
نشر منذ: 6 سنوات و 5 أشهر و 28 يوماً
الإثنين 21 مايو 2018 11:52 م
 

في عام 370 قبل الميلاد قال الطبيب اليوناني أبقراط إنه من الأفضل أن يعالج الإنسان أوجاعه بالصوم أفضل من اللجوء إلى الأدوية. هو الذي كان أعظم طبيب في زمانه، ويعتبر أول من أخرج مهنة الطب المتوارثة داخل عائلات قليلة إلى عامة الناس، لإنسانيته وإدراكه أن احتكار مهنة الطب ليس بالهدف السامي للمهنة.

ومع أن الصوم علاج طبيعي، تلجأ إليه الحيوانات وكائنات هذا الكوكب عند الحاجة في صمت لم يكشفه إلاّ ذوو الاختصاص، إلا أن المسلمين تحديدا يعتبرونه طق سهم الديني المتفرّد، وقد ارتبط مع الأيام بسلوكات غريبة خرجت عن المعقول تماما، سواء في ما يخص كمية الأكل التي يأكلها الصائم بعد إفطاره، أو في ما يخص الجشع التجاري وأمور أخرى.

ولأن الصوم اليوم في فضاءات غير إسلامية أصبح موضة، ونهجا طبيا جديدا لتنظيف الجسد، والتغلب على أمراض مستعصية لا تعالجها الأدوية تماما، فضلت أن أخوض في الموضوع من بابه الثقافي، وتحديدا من باب تقاطعات ثقافية مختلفة، كان الصوم نقطة تلاقيها. بعد أبوقراط إذن جاء الطبيب الروماني كلود غاليين بحوالي 600 عام ليقول، إن الصوم هو الطريقة الوحيدة للحفاظ على التوازن بين المزاج والجسم، وكان مرضاه يخضعون بدون نقاش للفترة التي يقترحها عليهم فيصومونها، وكانت تختلف حسب نوع المرض. بعد 700 سنة أخرى جاء الطبيب الفارسي إبن سينا ليعالج مرضاه بصوم لا يتجاوز الثلاثة أسابيع، وفي حكايات قديمة عنه، يقال إنه يبدأ بفهم طبيعة ونوع مرض صاحبه منذ دخول الحي الذي يقطن فيه، إذ أن المرض يبدأ من الفضاء المكاني إلى ثقافة المأكل والمشرب.

في القرن السادس عشر أثار الطبيب السويسري باراسيلس بنظريته التي تقول إن «الصوم يجعل الجسم يقوم بتنظيم ذاتي لنفسه» الأسئلة، لكنه اتخذه نهجا للعلاج. بعد مئتي عام على ذلك جاء الطبيب فريدريك هوفمان، طبيب العائلة الملكية لبروسيا ليؤكد أن الأمراض الخطيرة قد تعالج بالاعتدال في تناول الطعام والصوم.

في عام 1830 أحدث الطبيب الأمريكي إسحاق جينينغس المفاجأة الشبيهة بالمعجزة حين عالج طفلة مصابة بالتيفوس بالصوم والرّاحة. وفي عام 1900 التحق الطبيب الأمريكي بقافلة من يشجعون الصوم، وفتح مدارس عدة للحديث عن فضائل الصوم والتشجيع عليه. أما عام 1950 فيعتبر عاما فاصلا لتكاثر عدد الأطباء الذين يعالجون بالصوم، ويشجعون عليه في العالم الغربي، ومنهم هربرت شيلتون الذي أسس طب العلاج الذاتي بالصوم، وإدوارد بيرهوليت، وبول كارتون، وآخرون يعملون على تعليم مرضاهم كيفية الصوم والدخول في خطاب ذاتي مع أجسادهم لإعادة تنظيم عمليات أيضهم.

آلاف البشر اليوم خارج الطائفة الإسلامية يختبرون الصوم خارج الترهيب الديني الذي عمده شيوخنا، حتى أصبح الشهر الفضيل شهرا ترتعب منه الناس، فتتغير أمزجتهم، ويقل منتوجهم ـ على قلته أصلا ـ ويزداد شرههم، وتنفجر أعصابهم، وتختل حركة الحياة كلها بسبب توقف هذا الصائم عن تناول وجبة واحدة في منتصف النهار ألا وهي وجبة الغداء، ففي النهاية الصائم عندنا لا يتخلّى سوى عن هذه الوجبة، مع تمديد زمني قصير بين وجبتي السحور فجرا والإفطار عند المغرب.

ولعلّ «الجنون الرمضاني» الذي نصاب به خلال شهر كامل، يعود لغياب الرؤية العلمية للصوم، وجعل الصوم ثقافة تميزنا، وركنا من أركان حياتنا، لا سلوكا دينيا مفروضا بدون فهم أبعاده إنسانيا. وإن كان قديما شيخ الدين هو العالم الشامل الذي يحدث الناس عن كل صغيرة وكبيرة من شؤونهم، فإن توزّع الأدوار اليوم مختلف، مع كثرة الاختصاصات، وانكشاف المستور مما خفي عنّا تاريخيا وعلميا.

عجزنا في تقبل الآخر انعكس على رفض كل ما يتعلّق بثقافته، كما أن يقيننا الثابت من أن الإسلام نزل مكتملا بكل طقوسه ليخصنا نحن فقط بفرادته، ألقى بنا في أنفاق مظلمة، فقد تصرفنا كمسلمين كما تصرف غيرنا من ذوي الديانات التبشيرية بإقصاء الآخر إن لم ينسلخ من معتقده وينضمّ إلينا.

في هذا الشهر الفضيل الذي أعتبره فرصة حقيقية لعيش تجربة الصوم، بما تحمله من جمال في تخليصي من شتاتي والتّبعثر السنوي بين أعباء العمل والسفر والمجاملات الاجتماعية، أستعيد علاقتي بنفسي أولا، وأجد الدفء العائلي الذي يعود بكل شحناته العاطفية كما لو أنني تحوّلت إلى طفلة، أمّا فرص الصفاء التي تنتابني وتحرضني على الكتابة أواخر الليل وما قبل السحور فهي لحظات لا تختصرها لغة.

وإن كنت اليوم أتناول هذا الموضوع، فلأنه أصبح حكرا على شيوخ الدين ونجوم الدراما والفنانين، وكأن المثقف غير معني بما يعيشه، أو كأن موضوع الصوم ليس من اختصاصه، أليس المثقف أكثر شخص يمكنه الحديث في هذا الموضوع كونه أكثرهم حشرا لأنفه في كل شاردة وواردة من أمور الحياة؟

سؤال قد يصدم القارئ العادي، لكنّه لا يصدم من يعرف ما أرمي إليه، فالمثقف الحقيقي هو ذلك الشخص الذي يزهد في الحياة مقتنعا بامتلائه وثرائه من الداخل بمعارفه، وكونه أيضا يتعاطى مع كل الظواهر حوله بعقله، لا بانفعالات هشة كما يحدث مع العامة.

في العالم كله يصغي الناس للعقل، إلا في هذه الرقعة التي تدعي القداسة، لا نزال نتخبط بين فتاوى محبطة وانفلات إعلامي عجيب يعطي الأفضلية لآراء سطيحة لنجوم المجتمع.

لقد حدثني صديق عن مركز أبقراط في فلوريدا الذي يعالج حتى بعض الأنواع العصية من السرطانات، وعن مراكز مشابهة في كندا واليابان وروسيا، فشعرت بالحزن على أنفسنا، كوننا نكتب دوما في موضوعات لا تلامس الإنسان العادي، وكأننا نُسلمه قصدا للمغالطين.

ما دورنا كمثقفين إن لم نطالع كل جديد في العالم خارج عوالم الأدب والشعر؟

أطرح السؤال على نفسي وأعرف سلفا أنه سيجد مهتمين أكثر من مواضيعي السابقة، بين طبقة واسعة من قراء نهملهم لأسباب تفرض علينا أحيانا، وأخرى نحن نفرضها على أنفسنا، من باب أننا أرفع أو أدنى من أن نخوض في موضوعات كهذه، حتى وجدنا أنفسنا خارج كل ما يهم الناس بدءا بالتفاصيل الصغيرة من حياتهم إلى أكبرها، إذ سُرِقت أدوارنا خلال انشغالاتنا بقراءة الرّاهن الثقافي، بدون أن نزحزح ألواحه المتراصة بماض ضخم من الجهل والعثرات المتكررة لشق طريق مختلف عن ذاك الذي سلكناه ولا نزال في خطّه.

لقد سألني قارئ ذات مرة لماذا أعطي أمثلة غربية دائما؟ ومع أن منطلق سؤاله غير صحيح، إلا أني أجيبه اليوم أنني بدون قصد أفعل ذلك، إذ دوما أبحث عن المعلومة التي كرّست الشك، وانبثقت من العقل، وليس من اليقين الذي دمّرنا، أبحث عن أفق حر لأطرح أفكاري، مادامت قضبان اليقين عندنا أغلقت أبواب السؤال، والاجتهاد معا.

أحلّق في فضاءات حرة لأن فضاءاتنا المغلقة لا تناسب أجنحتي، أنا مزيج ثقافتي الإسلامية التي لم ترفض مطلقا تجارب الإنسان السابق وإنسان المستقبل، أكتب من عمق ثقافتي الخاصة المركبة، فقد ولدت وكبرت في عائلة مسلمة، ثم شققت طريقي المعرفي بدون خوف من ثقافات الآخر بأنواعها، وما أجملها من طريق، في ظلال المعرفة واكتشف كل ما خفي عنا في محيطنا الضيق.

والخلاصة التي ليست خلاصة تماما، أتمنى صوما مباركا للجميع، بإدراك عميق للتجربة بما فيها من فرص للتصالح مع الذات، ودعوة المثقف لأخذ مكانه الصحيح للحديث عن ثقافته في منبره الذي استولى عليه المتطفلون.