آخر الاخبار
فحص ما قبل الزواج.. صراع مع العادات والتقاليد
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 14 سنة و 6 أشهر و 20 يوماً
الإثنين 26 إبريل-نيسان 2010 06:35 م

*السياسية تحقيق: وئام سروري

مجتمعنا اليمني لا يزال منذ فترة طويلة، وحتى الآن، يشكو من امتلاء المستشفيات بأطفال مرضى وحالات صحية حرجة تحت العناية.

أمراض: الدم، الكلى، القلب، التخلّف العقلي، الإعاقات، والمتهم الأول في ذلك هو الوراثة، عادات وتقاليد درج عليها آباؤنا، فهذا ليس له إلا ابنة عمه، وهذه لا تتزوج إلا ابن خالها، وهؤلاء عادتهم ألاّ يُخرجوا بأنسابهم عن حدود العائلة، لهذا وذاك بدأت رحلة قرار الفحص ما قبل الزواج رحلة امتدت سنوات كان فيها آراء مختصين ورجال دين، وأخيرا خرج إلى النور، ولكن خروجه كان وما يزال قراراً عقيماً، إذ أنه ما يزال يخضع لعادات وتقاليد مجتمعنا المُحافظ الذي لا يتقبّل فكرة فحص الأبناء ما قبل الزواج، والسؤال المطروح: ماذا لو تم الفحص، وثبت أن الطرفين غير مناسبين لبعضهما؟ فهل يقرران الانفصال فعلا أم يدافعان عن حبِّهما ليترك لهما في الأخير حُرية إتمام الزواج، والتي يبدأ معها رحلة الشقاء بعلاج أطفال غير أصحاء؟ وهل يعتبر فحص ما قبل الزواج حُكماً ظالماً في حق مشاعر الخطيبين بعد حب استمر أعواما طويلة؟ أم أن العقل في هذه المرحلة يجب أن يتحكم في مشاعر الطرفين؟ وهل من الضروري وجود مركز طبي متكامل لأطباء وراثيين وأخصائيين نفسانيين واجتماعين مختصين لفحص المقبلين على الزواج ودراسة مدى توافق الخطيبين قبل إقدامهما على هذه الخطوة المصيرية؟

"السياسية" وضعت هذه التساؤلات على الجهات المُختصة لمعرفة أهمّية الفحص ما قبل الزواج، وهل بالإمكان علاج الأمراض الوراثية في مرحلة متقدمة قبل الإقبال على هذه الخُطوة.

لا نتقبّل الأمر

"مجتمعنا اليمني –للأسف- لا يتقبّل فكرة أن يذهب الخطيب قبل موعد زواجه للفحص ولا تتقبل أسرة الفتاة هذا الأمر، حيث يعتبر التفكير به نوعا من الحرج"، هذا ما قالته إحدى طالبات كلية الآداب في القسم الفرنسي. وتضيف: "العادات والتقاليد في بعض المحافظات تمنع العريس من رؤية زوجة المستقبل قبل عقد القران، فكيف ستسمح له بأن يطّلع على الفحص الطّبي الخاص بها في حال أقدمت على الفحص وثبت وجود بعض الأمراض الوراثية، وما هي الضمانات للفتاة في حال فسخ العقد لأي سبب من الأسباب في عدم التشهير بها وإشاعة أن أسباب فسخ العقد هو إصابتها بأحد الأمراض". وتؤكد سحر: "أنه في هذه الحالة فإن الفتاة سوف تفقد سُمعتها ومستقبلها وأحلامها في بناء أسرة وبيت".

الشباب يؤيد الفحص

أما الشاب لؤي فيقول: "أنا من المؤيدين لأهمية قيام المقبلين على الزواج بإجراءات الفحص الطبِّي ليس للاطمئنان فقط، ولكن لتفادي أمراض مزمنة أو وراثية قد لا يكون لها علاج في المستقبل، فإجراء الفحص الطبّي ضرورة لا يمكن تجاهلها الآن حتى يثبت خلو الزوجين من أي مرض من الأمراض المزمنة، ولكن بعض العائلات والأسر في مجتمعنا اليمني –للاسف- يرى أن إجراء هذا الفحص يمثل فضيحة، ولا يجب عمل ذلك لا قبل الزواج ولا بعده، وهناك الكثير من الحالات، وخاصة زواج الأقارب من الدرجة الأولى، نجد فيها حالات كثيرة لأطفال يحملون أمراضاً وراثية نتيجة إصابة أحد الأبوين بها، أو يحملون إعاقة معيّنة تتسبب في وجود أطفال مُعاقين ومصابين، يعانون طوال حياتهم من الإعاقة والمرض، ولا يكون هناك أدنى أمل حتى في الشفاء أو التقدّم في حالتهم الصحيّة".

أما الشاب أسامة، والذي يعمل في أحد المرافق الحكومية، فيقول: "الفحص قبل الزواج شيء جيّد، ونحن كشباب نرحّب بهذا القرار، ولا نعتبر أن فيه أي إساءة للشاب أو الفتاة". ويضيف: "قد تكون هناك معارضة من البعض في بداية تطبيق قرار إجراء الفحص؛ لأن عادات وتقاليد المجتمع ترفض مجرد أن يرى الشاب الفتاة التي سوف يتزوجها، إلا بعد عقد قرانها، ولكن مع التوعية بخطورة الأمراض التي قد تنتقل للأبناء فقد تكون هناك استجابة لإجراء الفحص".

ويضيف: "يجب أن تكون هناك حملات لتوعية الناس بأهمية الفحص وتوعيتهم بأن الفحص يقي أطفال المستقبل من انتشار الكثير من الأمراض وإنجاب أطفال غير أصحاء يعانون من المرض المزمن؛ لأن المجتمع لن يتقبّل بسهولة إجراء الفحص الطّبي للفتيات؛ لأن هناك بعض العائلات والأسر ترى أن إجراء هذا الفحص يمثل فضيحة، ولهذا يجب أن يكون هذا القرار إجباريا لكل من يقدم على هذه الخُطوة".

معاناة أم

أما فاطمة فهي أم لثلاثة أولاد جميعهم مصابون بفقر دم، تقول بحزن: "تزوجت منذ أعوام من خارج إطار العائلة، ودون إجراء فحص طبي بحكم عاداتنا وتقاليدنا، ولم أكن أعلم أن إنجابي لهؤلاء الأطفال سيُمثل عبئا ثقيلا، حيث إنني أذهب أسبوعيا لنقل الدّم، وهذا يُكلّفني مبالغ كبيرة تفوق إمكانيات زوجي، بالإضافه إلى الأعراض الجانبية التي يشعر بها أبنائي بين الحين والآخر، فأحدهم يشعر بالفتور، وآخر بصداع شديد، وفي بعض الأحيان يُغمى عليهم، ولهذا أنصح جميع الشباب والشابات المقدّمين على الزواج بألاّ يستهينوا بفكرة الفحص، فإنجاب أطفال غير أصحاء ربّما يقلب حياتهم السعيدة رأسا على عقب، ويُحوّلها إلى شقاء وعناء".

مركز استشارات ما قبل الزواج

تؤكد الأخصائية النفسانية نادية محفوظ "أن وجود مركز يهتم بدراسة الجوانب النفسية والإجتماعية والفحص الطبي "الإكلينيكي" أمر في غاية الأهمية، والتي تقيمها الكثير من الدول المتحضرة، والتي تعنى عناية فائقة بالشريكين قبل الإقدام على الزواج، فمثل هذه المراكز تهتم بالتاريخ الشخصي الوراثي لشجرة العائلة لكل من الخطيبين، وتخضع للفحص، واستمارات البحث في هذا المجال، وتعطي نوعا من الأمان والاطمئنان لمستقبل الزوجين فيما بعد، من خلال التردد على هذه المراكز، والاستشارات المستمرة والإثبات بخلو الزوجين من أي أمراض عقلية، وإعطائهم المعرفة والضوء والإدراك".

وتقول: "مثلا في الجانب النفسي، هناك إرشادات نفسية موجهة تُعطى للشريكين قبل الزواج لمعرفة التوافق النفسي داخل إطار البيت الزوجي، ومن المعروف أن كلا من الخطيبين جاء من مناخ وبيئة وتربية وسلوك اعتاد عليه، ويختلف عن الشريك الآخر في كثير من الأوجه، ولهذا يأتي الإرشاد من الأخصائي النفساني، الدارس لشروط وخطوات الحياة الزوجية، ومدى التفاهم والثقة التي يجب أن تكون بينهما".

وتشير الأخصائية نادية إلى أنه "إذا تبيّن من البحث الطبي والنفسي والاجتماعي خلو الشريكين من الأمراض العضوية أو النفسية والعصبية وخلوهم من المعاناة المرضية قبل الزواج استطاعا بكل ثقة واعتزاز الدخول في تكوين أسرة خالية من الأمراض، والتي تلعب فيها المناعة الجسدية النفسية دورا في الصحة النفسية والسواء النفسي والعقلي على أتم وجه".

بند في القانون اليمني

وتؤكد الأخصائية نادية أن على الإعلام ومراكز الإرشاد والمؤسسات المدنية والوزارات الاجتماعية أن تلعب دورا فعّالا لتوضيح ضرورة الفحص ما قبل الزواج لتأسيس أسرة خالية من الأمراض الوراثية، والتي قد تؤدي إلى حدوث أمراض نفسية مستقبلا، مثل: التخلف العقلي أو أي مرض من شأنه أن يُرهق الأسرة ماديا ونفسيا واجتماعيا، وتنوه إلى أن المجتمع اليمني يجب أن يولي اهتماما بهذا الجانب من خلال وضع بند في القانون اليمني ينص على وجوب الفحص للمقبلين على الزواج.

من جهتها تؤكد الأخصائية الاجتماعية وفاء عبد القادر الشبري أهمية فحص الخطيبين قبل الزواج "لأن ذلك سيقلل من بعض المشاكل (ما بعد الزواج)؛ لأننا نسمع عن الكثير من الأمراض والمشاكل التي لم نسمع عنها من قبل، مثل: الإعاقات وأمراض مختلفة، ولهذا فنحن بحاجة إلى أن نبحث بصورة جدية في هذا المشروع مثل عمل استبيان حول هذا الموضوع وأخد آراء الشباب فيما إذا كان هناك رفض أو قبول لمثل هذا المشروع مع أهمية وضرورة وجود مركز متكامل بالأخصائيين لمعرفة مدى توافق المقبلين على الزواج".

وتشير وفاء إلى أنه من الضروري أن تكون هناك حلقة نقاش مع بعض الجهات المختصة، يشارك فيها الشباب، لأخذ آرائهم، وأهمية وجود توعية للشباب أو للمجتمع الشبابي؛ لأهمية الموضوع.

5 % من أطفال العالم مصابون بأمراض وراثية وجينية

إن التطوّر الحديث في مجال العلوم البيولوجية الذرية، وعلم الوراثة قد أدى إلى زيادة الاهتمام بالأمراض االوراثية والمكتسبة. حيث إن 5 بالمائة من أطفال العالم، وحسب إحصائيات منظّمة الصحة العالمية، مصابون بأمراض وراثية أو أمراض جينية بدرجات مختلفة وأحيانا بشكل ظاهر للعيان. وتشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن الأمراض الوراثية والجينية تسبب 25 بالمائة من وفيات الأطفال دون السنة على مستوى العالم. وتسبب 23 بالمائة من وفيات الأطفال دون الخمس سنوات عالميا.

ماذا يقول الطب؟

وبهذا الصدد تؤكد الدكتورة ريم عبد القادر مبجر الأستاذ المساعد بوحدة الوراثة والمناعة في كلية الطب م/عدن أن الكثير من الأمراض الوراثية لا يوجد لها علاج أو يصعب علاجها، وذات تكلفة عالية، فالفحص قبل الزواج يُشكّل وسيلة ملائمة لمكافحة الأمراض الوراثية ووسيلة للوقاية وبأقل كُلفة، مقارنة بالفوائد الكبيرة التي تتحقق إذا ما تم حماية المجتمع من الأمراض الوراثية، والتي يكلّف علاجها مبالغ طائلة.

أطفال الأنابيب هو الحل الأمثل

وعن إمكانية علاج الأمراض الوراثية قبل الزواج، تقول الدكتورة ريم: "للأسف لا يمكن إصلاحها في الأشخاص الحاملين للمرض، كان ذلك قبل الزواج أو بعده ، ولكن قد يكون السؤال الأهم: كيف نتجنّب حدوث المرض الوراثي لو كان كلا الزوجين حاملين للمرض؟ فمن الصعب التعميم في هذه المسألة، ولكن لو تحدّثنا عن أمراض الدّم الوراثية فإنه –للأسف- لا يمكن إصلاح الأمر، وإن كان هذا لا ينطبق على جميع الأمراض الوراثية. ولكن هناك أمورا يمكن القيام بها بعد أخذ رأي الشرع فيها، وهي عملية الكشف على الأجنّة خلال الحمل، ومعرفة ما إذا كانت مصابة أم لا، وإذا عُلم أنها مصابة فتسقط. ويمكن القيام بهذه التحاليل والوصول للنتيجة في خلال الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل. أما إذا لم يقر الشرع هذا الأمر، فإن الحل هو إجراء فحص للبويضة الملقّحة (وذلك عن طريق زراعة الأنابيب)، ومعرفة ما إذا كانت البويضة الملقّحة سليمة أم مصابة، وإذا كانت سليمة فتغرس في الرحم، وإذا كانت مصابة يتخلّص منها. هذه الطريقة قد تكون هي الأقرب لمجتمعنا الإسلامي، ولكنها تحتاج إلى مبالغ باهظة ومُختبرات خاصة".

مركز للأخصائيين النفسانيين

وعن مدى أهمية إنشاء مركز متكامل لأخصائيين نفسانيين واجتماعيين وأطباء وراثين لمعرفة مدى توافق الخطيبين قبل الزواج، تقول الدكتورة ريم: إنشاء مثل هذا المركز ليس ضروريا لفحص المقبلين على الزواج فقط، وإنما أيضا للمُتزوجين، فلقد طوّرت منظمة الصحة العالمية برنامجا خاصا لمتابعة الأمراض الجينية والوراثية يعتمد في أساسياته على: الالتزام الأدبي بسريّة المعلومات المتعلّقة بالأمراض الوراثية وارتباط هذه السريّة بشرف المهنة وأخلاقياتها. وتنتشر في بلاد العالم المتقدّم مراكز متخصصة بالاستشارات الوراثية، حيث يعمل فريق من الأطباء والباحثين الاجتماعيين على خدمة أهالي المرضى المصابين بأمراض وراثية، حيث يتم إجراء الاستشارات الوراثية لتلك الفئات العالية الخطورة، كمن تظهر عندهم إصابة في ولادة طفل سابق أو في حال وجود أقارب مصابين بأمراض وراثية، حيث يتم مناقشة تلك الأمور بوجود الزوج والزوجة، ويتم تحديد المرض المشتبه به، وهذا يحتاج لفحص سريري دقيق، وفحوصات مخبرية بما فيها الفحوصات الوراثية.

فحوصات يجب إجراؤها

وتشير الدكتورة ريم إلى أن وزارة الصحة في أي بلد تقوم باختيار الفحص الطّبي قبل الزواج في أي بلد للكشف عن الأمراض المنتشرة فيه، ويمكن تقسيم هذه الأمراض إلى نوعين: أمُعدية ووراثية. والهدف من إدخال الأمراض المُعدية هي محاولة تجنّب بعض هذه الأمراض عن طريق العلاج أو أخذ اللقاح الواقي أو من أجل المعرفة فقط، وتبليغ الطرف الآخر بخطورة انتقال المرض إليه. ومن هذه الأمراض: التهاب الكبد الوبائي من نوع "ب" و"جـ"، ومرض الإيدز (نقص المناعة المكتسبة). أما بالنسبة للأمراض الوراثية، فالهدف هو اكتشاف الأشخاص الحاملين للأمراض الوراثية، ويمكن أن نقسّم هذه الأمراض إلى ثلاثة أقسام، الأول: أمراض الدم الوراثية، وعلى رأسها فقر الدّم المنجلي (الأنيميا المنجلية)، وفقر دم البحر المتوسط (الثلاسيميا). الثاني: الأمراض الإستقلابية، وهذا القسم عبارة عن أمراض متعددة تتجاوز 400 مرض، ولكن يمكن اختيار بعض الأمراض التي تنتشر في البلد. أما الثالث: أمراض متفرّقة، ترجع إلى التأريخ العائلي، والمرضي لكل عائلة، ويُجرى لها تحليل إضافي، على حسب نوع المرض المنتشر في تلك العائلة. طبعا هذه التحاليل والزيارات مكلّفة، ولذلك يصعب إجراء فحص لجميع الأمراض الوراثية. كما أن الكثير من هذه الأمراض لا يوجد لها تحليل في أي مكان في العالم، أو يكون التحليل صعبا لاكتشاف الشخص الحامل للمرض، والذي لا يعاني من أي مشاكل صحية.

كيف يتعامل الخطيبان مع نتيجة الفحص؟

وتؤكد الدكتورة ريم أن ظهور نتائج غير مرغوبة في هذه الفحوصات أمر عصيب ليس فقط على الطرفين وأهلهم بل يصل إلى الطبيب الذي عليه أن يوصل تلك المعلومات بالشكل الصحيح. "وهنا أود أن أوضح أمرا في غاية الأهمية، وقد يُساء فهمه. فالفحوصات التي تجرى هي للكشف عما إذا كان الشخص حاملا للمرض أم لا. والشخص الحامل للمرض ليس شخصا مريضا، بل هو شخص سليم، ولكنه يحمل صفات وراثية يمكن أن ينقلها لذريّته إذا حدث وكانت زوجته أيضا حاملا لنفس المرض هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى ليس هناك -بإذن الله- مشكلة لو كان أحد الطرفين حاملا للمرض والطرف الآخر ليس حاملا. المشكلة، فقط، تحدث إذا كان الطرفان كلاهما حاملين للمرض. أما لو حدث وكان كلا الطرفين حاملين للمرض نفسه، فإنهما يبلغان بشكل سري عن نتيجة التحليل، ويشرح لهما الاحتمالات التي يمكن أن تحدث لذريتهما لو تزوجا، والطبيب لا يتدّخل في القرار النهائي، فالرجل والمرأة أحرار في اتخاذ القرار المناسب.

لماذا لا يتقبّل المجتمع فكرة الفحص؟

وعند السؤال عن أسباب عدم تقبّل المجتمع لفكرة الفحص، قالت: "مجتمعنا لا يتقبّل الكلام عن الفحص، ويقول البعض إن القدر سيأتي رضينا أم أبينا، ولا شك أن القضاء والقدر من أركان الإيمان، ولكن هناك فرقا بين التوكل والتواكل. وما نشجّع عليه هو الحرص على تجنّب المخاطر قدر الإمكان مع التوكّل على الله. أما من لا يريد أن يعمل شيئا وهو متأكد أن الأمر واقع لا محالة فكأنه يقول لا تعملون ولا تقدّمون العلاجات والفحوصات فهذه أمور مهما عملنا للوقاية منها فإنها واقعة لا محالة، فهذا الرأي غير صحيح، وفهم خاطئ للتوكّل، ولو عملنا بهذا المفهوم المتكاسل لما عملنا أي عمل في هذه الدنيا".

رأي الدين في الإجهاض

لا شك أن الإسلام حثّ على منع أسباب المرض والتوقي منه ما أمكن ذلك، على قاعدة "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، وتعاليم الإسلام تحث على حفظ الصحة وعلى حماية الجنين ووقايته من كثير من الأمراض، ولهذا فقد أجمع الفُقهاء على حُرمة قتل الجنين بعد نفخ الروح؛ لأنه بعد نفخ الروح يصبح إنسانا ونفسا لها احترامها وكرامتها، ولأن الإجهاض بعد نفخ الروح جريمة لا يجوز الإقدام عليها إلا في حالة الضرورة القصوى. قال تعالى: "ولقد كرّمنا بني آدم".

وإذا قدّر الله سبحانه تعالى تشوّه الجنين لسبب أو لآخر فقد ذهب فريق من العلماء إلى تحريم إجهاض الجنين المشوّه لو تبيّن التشوّه قبل نفخ الروح، لكن الرأي الراجح هو ما ذهب إليه الفريق الأكبر من العلماء، فقد اتفقوا مع أصحاب القول الأول في أن الجنين المشوّه إذا نُفخت فيه الروح فلا يجوز إسقاطه مهما كان التشوّه إلا إذا كان في بقاء الحمل خطر على حياة الأم، كما في حالة تسمم الجنين، فيجوز في هذه الحالة الإجهاض للمحافظة على حياة الأم عملا بقاعدة "ارتكاب أخف الضررين"، وذلك لأن الجنين بعد نفخ الروح أصبح نفسا يجب صيانتها والمُحافظة عليها، سواء كانت سليمة من الآفات والأمراض أم كانت مصابة بشيء من ذلك، سواء رُجي شفاؤها ممّا بها أو لم يُرج، ذلك لأن الله سبحانه وتعالى له في كل ما خلق حكم لا يعلمها كثير من الناس، وهو أعلم بما يصلح خلقه، قال تعالى: "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير".

أما قبل نفخ الروح إذا ثبت تشوّه الجنين بصورة دقيقة لا تقبل الشك، وكان هذا التشوّه غير قابل للعلاج، أو لا يمكن للجنين أن يعيش معه، فإنه يجوز إسقاطه؛ نظرا لما قد يلحقه من مشاقٍ وصعوبات في حياته، وما يسببه لذويه من حرج، وللمجتمع من أعباء ومسؤوليات وتكاليف في رعايته والاعتناء به.