الاثر والبخور واليمن السعيد
نشر منذ: 18 سنة و 7 أشهر و 7 أيام
السبت 20 مايو 2006 09:13 م

في الطرف الغربي من جنوب الجزيرة العربية، ولثلاثة آلاف عام خلت، ازدهرت ممالكُ عرف فيها التاريخ الإنساني قدرا عاليا من الإنجاز البشري الحضاري الذي تأسس على ريادة أهل اليمن القديم في مهنة التجارة، واجتهادهم في تحويل الصحراء البوار إلى حواضر غنّاء عامرة

شكّلت حركة الاتجار والتسويق في بلاد اليمن أهمية قصوى بالنسبة للاقتصاد العالمي القديم الذي ساهمت في ازدهاره دول وحضارات منيفة مثل روما ومصر واليونان وبلاد الرافدين واليمن السعيد.

وقد عُرف اليمن مركزا ومَصدرا تموينيا لتجارة مادتي البخور والمُرّ في العالم. وكان حلقة وصل بين البحر الأبيض المتوسط وشرق آسيا على طرق القوافل التجارية، وغدا فيما بعدُ ميناء رئيسا لحركة التجارة البحرية إلى الشرق الأوسط وأوروبا.

واليوم في العاصمة الأميركية واشنطن، شَرَعَ معهد سميثسونيان أبوابَ واحدٍ من متاحِفِه، وهو متحفُ آرثر ساكلر، الذي يحتفيَ على مدار العام بعروض متوالية لفنون القارة الآسيوية وحضارتها. وكان لحضارات ممالك اليمن في التاريخ نصيبٌ عظيمٌ في صيف هذا العام حيث انتظم معرِضٌ لفنون وحضارات تلك الحقبة الغابرة من تاريخ تلك المنطقة فيما أطلق عليه اسم "ممالك القافل".

سبأ وأخواتها

يُبرز المعرض من خلال 132 قطعة أثرية نادرة الجمال الدورَ الذي لعبته ممالك بلاد اليمن التي شكلت ما يشبه المركز التجاري والتسويقي الأكثر حراكا في منطقة الشرق الأوسط تحديدا في الفترة الممتدة ما بين عام 1200 قبل ميلاد المسيح إلى عام 200 بعد الميلاد.

مملكة سبأ هي واحدة من تلك الممالك التي ورد ذكرها في الكتب السماوية. وكانت، إلى جانب مملكتي معين وحِمْيَر، واحدةً من"ممالك القوافل" - نسبة إلى طرق القوافل التجارية البرية - التي طورت أساليب للري أغنت الحياة الحضرية وحوّلت الصحراء البوار إلى جنات عدن فائرة بالخضرة والخصب ما أدى إلى تأسيس المدن وتنظيم شؤونها فيما يشبه النظام المؤسسي المعاصر؛ وازدهار صنوف الفنون على أنواعها من عمارة، ونحت، وكتابة؛ إلى انتشار مظاهر الرفاه الاجتماعي على أنواعها بمقاييس ذلك العصر.

تفيد الشواهد التاريخية أن منطقة مأرب الواقعة على مسافة 170 كم شرق العاصمة اليمنية صنعاء، بحاضرتها مدينة مأرب عاصمة مملكة سبأ التاريخية، تُصنَّف اليوم واحدةً من أعرق الحضارات القديمة التي ازدهرت في جنوب الجزيرة العربية، وصارت المرتكز الأساسي للحضارات اليمنية المتعاقبة التي سادت منطقة جنوب الجزيرة العربية والبحر الأحمر حتى مناطق أريتريا وأثيوبيا الشرقية في القرن الأفريقي.

تقول الدكتورة ماريا إيليس المديرة التنفيذية للمعهد الأميركي للدراسات اليمنية في ولاية بنسلفانيا: "يستطيع الدارس للاكتشافات الأثرية المستجدة في اليمن أن يتبيّن الدرجة المتقدمة للحالة الحضرية التي كانت تعيشها تلك الممالك في ذلك الزمن البعيد. فقد تم العثور على نماذج أولية لمحركات هيدروليكية تعمل على طاقة المياه استخدمت في استصلاح الأراضي القابلة للزراعة، وكذا السدود المنيعة بتشكيلها المعماري الفريد في عصره، وفي مقدمتها سد مأرب. لقد امتدت ظلال هذه الحضارة الوارفة من بلاد الأندلس غربا إلى تخوم اندونيسيا في الشرق".

وبخلاف جيرانهم في الشمال، فإنّ أهل تلك الممالك لم يكونوا أقواما رُحّلا متجولين، لكنهم ابتكروا دواعي الاستقرار والمدنية التي يشكل الماء العنصر الفصل منها، فبنوا السدود وامتهنوا الزراعة وشيّدوا المدن العامرة. وكذلك فقد أصبحوا أغنياء بسبب تجارة البخور والمر. وكان المُر- وهو مادة لبان صمغي يستخدم في صناعة العطور والبخور- رائجا ومستهلكا على نطاق عالمي لاستخدامات المعابد والقصور، ولشؤون الزينة الشخصية، فضلا عن بعض الاستخدامات الطبية والعلاجية. وكان يُستَخْرج من أشجار صغيرة في المنطقة ومن الشمال الجنوبي من أفريقيا المجاورة، وهو ما يُدعى اليوم بالصومال.

يقول الدكتور ياسين الشيباني الملحق الثقافي في سفارة اليمن في واشنطن: "نشأت معظم الحضارات القديمة على أطراف الأنهر، فيما ازدهرت حضارة اليمن القديم على حواف الصحراء وفي الوديان معتمدة على مياه الأمطار، وعلى نظام ري وشبكة سدود مائية بالغة الكفاءة بمقاييس المعرفة المتاحة في ذلك الزمن".

أما المملكة الأخيرة بين الممالك الثلاث فكانت مملكة حِمْيَر. ففي القرن الأول قبل الميلاد تقريبا، حلّت تجارة مملكة حِمْيَر البحرية محل التجارة البرية التي كانت تستخدم فيها وسائل النقل والطرق البرية. وبسيطرتها على التجارة من البحر المتوسط إلى المحيط الهندي، استوردت المملكة الأنماط الحياتية والحرفية من الشرق الأوسط وأوروبا ما ساهم في نشوء حضارة هي محصلة لرموز وإغداقات الثقافات المحيطة.

تقول الدكتورة آن جنتر أمينة متحف آرثر ساكلر: "إن مبتغانا من إقامة المعرض هو لفت انتباه زواره إلى ذلك المشهد المذهل الجمال للمناطق الجبلية وسفوح الوديان التي تكسوها الحواكير الزراعية بالتلازم مع صحراء داخلية واسعة".

أصول الأبجديات

ومن أجل تدوين الأحداث المفصلية في حياتهم، سجّل أهل اليمن القديم نصوصا بأبجدية ذات خطوط عمودية ومنحرفة تحاكي الخط العربي الطولاني والمتعرج.

فقد اجتمع في اليمن القديم نسبة عالية جدا من المتعلمين الذين يحسنون القراءة والكتابة باللغة السبأية، وهي لغة تنتمي إلى اللغات السامية وتتكون حروفها من 29 حرفا. وهناك أكثر من 10 آلاف من المخطوطات التي تم اكتشافها تِباعا في القرن العشرين، والعديد منها عُرض في قاعة ساكلر ابتداء من اللوحات والتماثيل الصغيرة وصولا إلى القطع الأثرية الضخمة حيث الكتابات محفورة على واجهات وأفاريز المعابد والقصور.

وتشير الدراسات إلى أن الحروف الأبجدية للغة السبأية إنما هي مشتقّة من الأبجدية الفينيقية، وهي لغة الشعوب الكنعانية التي ازدهرت على ساحل البحر المتوسط. والاعتقاد السائد لدى الباحثين المتابعين لشأن نشوء اللغات أن الأبجدية السبأية قد مهدت لولادة حروف الأبجدية اليونانية والعبرية، إضافة إلى اللاتينية الموجودة اليوم في الاستخدام الغربي الحديث.

رحلة الحياة.. والموت

معظم التماثيل التي رَصّعت بجمالها العرض اليمني الفريد كانت مصنوعة من المرمر ــ وهو صنف الرخام الشديد الشفافية والناعم الملمس ــ معظمها ذات نظرة حالمة ومحيّا أقرب إلى الابتسام، وأذرعها ممدودة إلى الأمام في إشارة إلى الخير والرغبة في العطاء، بما يميزها عن ملامح تماثيل حضارات الجوار، كالإغريقية والرومانية، التي كانت تتسم بالنظرة الحادة والوضعية الإستيتكية والصارمة لشخوصها.

من هذه التماثيل، تمثال الحاكم "معد يكرب" الملفوف بإزار من جلد الأسد الذي يكاد يكون القطعة الفنية الأثمن والأجمل في العرض السخي بالتاريخ اليمني القديم وأوابده الباهرة التي تأخر اكتشافها حتى أواسط القرن العشرين.

أما تماثيل "ملوك أوسان الثلاثة" التي تستقبل الزوار حين ولوجهم عتبات المعرض، فإنما هي النموذج الأمثل للرقي الفني الذي عاقره أهل سبأ في حقبة موغلة من التاريخ.

تقول الدكتورة إيليس: "بعض زوار المعرض الأميركيين الذين قابلتهم في صالة ساكلر كانوا يجهلون تماما وجود هذه الحضارة العريقة. ومن الجدير ذكره أن العديد من علماء الآثار والمنقبين الأميركيين ساهموا في الاكتشافات الأثرية الهامة مؤخرا في اليمن، وصدر كتابٌ عن معهدنا بهذا الشأن يحمل عنوان (مساهمات أميركية في التنقيب عن آثار اليمن) وتُرجم إلى اللغة العربية".

وكما اهتم المعرض بصور الحياة اليومية في حاضرة اليمن وحراكها الدائب، فهو لم يغفل استعراض تفاصيل الموت وطقوسه، وكذا المعتقدات الدينية في شأن الحياة الآخرة، وذلك من خلال مجموعة من النصب الجنائزية وشواهد القبور والمعابد الخالدة، ما يكشف عن منهج الهندسة المعمارية التي كانت سائدة في تلك الحقبة.

ويعتبر معبد أوام الأقدم والأعظم بين أوابد اليمن إلى جانب معبد بران المعروف بمعبد عرش الملكة بلقيس، ملكة سبأ.

وقد تم العثور في مقبرة أوام على أكثر من 400 قطعة أثرية منها تماثيل لأشخاص وحيوانات.

وفي المعبد ما يقارب 20 ألف مدفن يعود تاريخها إلى ما بين القرن التاسع إلى الرابع قبل الميلاد.

يقول الدكتور الشيباني: "تفيد مجريات التاريخ أن مسيرة الحضارة الإنسانية لا تنقطع. ومعظم المجتمعات تساهم في تلك المسيرة ولو بدرجات متفاوتة، فجوهر الحضارة والتقدم إنما يَكْمُن في المعرفة المضافة".

ويتابع: "لقد كان لإقامة المعرض في واحد من كبريات المتاحف القومية في واشنطن دورٌ كبيرٌ في الإقبال الجماهيري اللافت على العرض. وفي الاطلاع على سجل الزوار، الذي قضيت في قراءته نصف نهار، خير دليل على شغف الجمهور الأميركي إلى التعرف على حضارة اليمن في عرض متكامل وثرّ".

آثار مأرب تحكي قصة جنتي مملكة سبأ ومجدها الحضاري
صنعاء: سحر وتاريخ وعروبة
مدينة مأرب تحتضرأغلقوها أمام أفواج السياحة ودعوها ترحل بسلام
سعيد علي اليوسفيعدن .. جنة اليمن السعيد ..مدينة ترقد في حضن البحر وتتوسد الجبل
رحلة في بيئة النباتات الطبية في اليمن
مشاهدة المزيد