عن مخاطر التدخل الأجنبي الغربي على الثورات العربية
بقلم/ مأرب برس - سلمان العماري
نشر منذ: 13 سنة و شهرين و 14 يوماً
الخميس 13 أكتوبر-تشرين الأول 2011 04:37 م

صدر مؤخراً عن مركز (الكلمة الطيبة للبحوث والدراسات) بصنعاء الكتاب الثاني والثلاثون من سلسلة إصدارته تحت عنوان (الدولة المدنية الديمقراطية وخطرها على الثورات العربية) لمؤلفه البرلماني المعروف ، عضو هيئة علماء اليمن ، ولجنة تقنين الشريعة بمجلس النواب اليمني ، الشيخ عارف بن أحمد علي الصبري .

 وفي بضع وثمانين صفحة من القطع المتوسط خلص الكتاب إلى أن ثمة خطر يتهدد الثورات العربية في الآونة الأخيرة ، في إشارة واضحة من المؤلف إلى محاولة إحلال المنظومة الغربية على أرض الواقع المعاش وإسقاطها خلفاً للأنظمة الديكتاتورية في المنطقة العربية والبلاد الإسلامية .

بين يدي الدراسة :

وقد ذكر مؤلف الكتاب في مقدمته أن هذا الكتاب جاء لتوضيح ما يشنّه أعداء الإسلام في حربهم المسعورة ضد ديننا ومبادئه وقيمه السامية ، وأن ذلك لم يكن حدثاً عارضاً أو عفوياً،ولكنها سنة الله في الصراع الحتمي بين الحق والباطل ،هذا الصراع مستمر ما بقي في الحياة كفر وإيمان ، قال تعالى : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(البقرة:120) ،وقال سبحانه : (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا)(البقرة : 217).

 وأرجع موقفه هذا إلى كون أن هذا الأمر يأتي في ظل ضعف تمسك المسلمين بدينهم وعجزهم وتخلفهم وتناحرهم وتفرقهم ، في حين تعلن قوى الكفر والظلم والطغيان والاستكبار حربها على العالم الإسلامي تحت مسمى (الحرب على الإرهاب) ومن جهة أخرى تسعى إلى عولمة كفرها وفرض قيمها المادية الإلحادية الإباحية على العالم بالقوة ،وإن صوّرتها أحياناً باسم نشر الديمقراطية أو تحت شعارات خادعة كالدولة المدنية ، والمجتمع المدني ، والمواطنة المتساوية .

وتضمينها في الاتفاقيات والمواثيق الدولية والإعلانات العالمية لما يسمى زوراً باسم (حقوق الإنسان ، وحقوق المرأة ، وحقوق الطفل) التي تمثل بعض أدواتها لعولمة الكفر والقيم الغربية الليبرالية .

 وأشار في مقدمته إلى بيان خطورة هذه العولمة الفاجرة التي تهدف إلى القضاء على الإسلام ، وإخراج المسلمين عن دينهم ، وإلغاء مبدأ التحاكم إلى الشريعة الإسلامية الغراء ، وفرض القيم الليبرالية الإلحادية كمرجعية عليا وشرعة عالمية ملزمة تتهاوى أمامها جميع الشرائع والأديان والدساتير الأخرى.

ويأتي إصدار هذا الكتاب متزامناً مع قيام الثورات العربية ضد الحكام الظلمة المستبدين ، بياناً لحقيقة هذه الثورات ؛ ليعلم العالم كله ـ وأمريكا وأوروبا على وجه الخصوص ـ أن هوية الثورات العربية غير هوية الثورة في أوروبا ، وأن مبررات الثورات في البلاد العربية غير مبررات الثورة في أوروبا ،فأوروبا ثارت ضد الدولة الدينية (الثيوقراطية) التي كان الملوك والقساوسة فيها يحكمون شعوبهم باسم دين محرف ، فساموا الناس سوء العذاب ، فأنتجت ثورتهم دولة مدنية علمانية لا دينية ، كردة فعل ضد الدولة الدينية الكهنوتية،أما نحن كمسلمين فإننا نؤمن ونعتقد اعتقاداً جازماً بأن دولة الإسلام هي دولة الحق ، والعدل المطلق،والشورى ،والخير،والرحمة للعالمين .

 لذلك كانت ثوراتنا ضد هذه السلطات الحاكمة المستبدة التي جاء ظلمها واستبدادها نتيجة لعدم تحكيم شريعة الله كما يجب فظلمونا لأنهم لم يلتزموا بديننا،فأوروبا ثارت ضد حكام حكموا بدين محرف ، ونحن ثرنا ضد حكام انحرفوا عن الدين الحق ، وشتان بين الثورتين ،ومن هنا كانت مطالب الأوربيين هي قيام دولة مدنية علمانية لا دينية،وأما نحن فمطالبنا التي لا يجوز لمسلم أن يطالب بغيرها هي قيام دولة دينية إسلامية .

ويؤكد الشيخ عارف الصبري على أنه من غير المقبول أن يتدخل الغرب في شئوننا الداخلية أو يفرض علينا قيمه ومبادئه المادية الإلحادية اللادينية التي أشقتهم ودمّرت إنسانيتهم .

وأنه لا يجوز لمسلم أن يوافقهم أو يقبل بأي تشريع مهما صغر يخالف الإسلام ؛ لأن ذلك ينافي الإيمان ويخرج صاحبه عن دائرة الإسلام .

ولبيان أن مبادئ الإسلام الربانية العظيمة أكثر تقدماً من كل ما عرفته البشرية ، وأقدر على تحقيق الخير والسعادة والطمأنينة والتقدم والرفاهية من كل أداة مدنية أخرى ، وأشمل وأكثر مرونة من سائر النظم الأخرى ،وأنه إذا دانوا بالإسلام عقيدة وشريعة ، واعتقدوه منهجاً وحيداً فريداً للنجاة من النار والفوز بالجنة وطريقاً للسعادة والفلاح ، وأنه متى طبقه المسلمون وسلموا له وحكَّموه في كل شيء سعدوا في الدنيا والآخرة .

الدولة المدنية الديمقراطية .. مصطلحات ومفاهيم :

يذكرالمؤلف في المبحث الأول للدراسة أن نشأة فكرة (الدولة المدنية ، والمجتمع المدني) في أجواء تحوَّل الأوربيون بعد التَّحرر من طغيان الكهنوت الكنسي للقساوسة وطغيان الملوك الذين كانوا يحكمون أوروبا بما كان يعرف في الفكر السياسي المسيحي بنظرية الحق الإلهي للملوك ، وتُشدِّد هذا النظرية على أن الله سبحانه يمد من يصطفيه للحكم بروح من عنده ، وهذا يحتم على الأفراد طاعة ذلك الحاكم والانصياع له وعدم الاعتراض عليه .

 ويعرّف الدولة المدنية بأنها مفهوم مترجم ومعرب عن الثقافة الغربية الحديثة ويقصد به الدولة التي تستقل بجميع شؤونها عن الدين وعن الدولة الدينية التي كانت تمثلها الكنيسة ، وهو ما يعني أن الدولة المدنية دولة علمانية لا دينية ، وهذا ما لا خلاف فيه بين أحد من فلاسفة الغرب .

لقد مثَّل (الدين المحرَّف) المتمثل في الكنيسة العدو الأول لدعاة الإصلاح في أوروبا ،وغدت الحرب على الكنيسة وإقصاؤها غاية في حد ذاتها بصرف النظر عن الاستبداد أو الطغيان ذاته ،ومصطلح (الدولة المدنية) يمثل لافتة العلمانيين والليبراليين الجدد في البلاد العربية والإسلامية في حربهم ضد الإسلام ، حيث أخذ الليبراليون يتلصصون تحت شعار الدولة المدنية الحديثة في حربهم ضد الثوابت والعقائد والقيم الراسخة التي صارت تمثل الفارق الصارخ بين فلسفة الغرب المفلسة قيمياً وسلوكياً وبين مبادئ الإسلام الماجدة الخالدة .

الغرب وعلمنة المجتمعات المسلمة :

وفي المبحث الثاني يؤكد المؤلف على حتمية صراع المسلمين مع الغرب ، ومرتكز ذلك الإسلام ، خصوصاً بعد أن آل إلى الأمريكيين كرسي القطبية الدولية الوحيدة،وأصبحت وريثة كل الإمبراطوريات الأخيرة في التاريخ ( الفرنسية والإنجليزية ، والألمانية والتركية ) تلك التي تراجعت بتفاعلات الحرب العالمية الأولى ثم الثانية ، فكان تفرُّد الولايات المتحدة بعد انتصارها على الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة في العقد الأخير من القرن العشرين ، فأرادت أمريكا عولمة قيمها الليبرالية الإلحادية الإباحية،وفرضها بالقوة ، فوضعت العالم كله أمام خيارين لا ثالث لهما : إما معها أو ضدها ، واعتبرت كل فكر يرفض الديمقراطية وقيمها عدواً وهذا ما عبَّر عنه (جورج دبليو بوش) الرئيس الأمريكي السابق بمقولته الشهيرة : «من ليس معنا فهو ضدنا» بما ترتب على هذا الشعار من تقسيم العالم إلى : (محور للخير) تقوده أمريكا بقيمها الليبرالية ، و(محور للشر) يعادي أمريكا ويرفض قيمها ، حسب تصوّرها .

وعلى هذا النحو قول (بيل كلينتون) الرئيس الأمريكي الديمقراطي الأسبق : «إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري ، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا»، وإن هذا التوجه الأمريكي في عولمة قيمه الليبرالية لم يعد يأبه بخصم قوي منافس سوى (القيم الإسلامية الماجدة الخالدة) فأعلن الأمريكان حرباً شعواء لا هوادة فيها ضد الإسلام وقيمه ، بل أعلنتها حرباً عالمية على العالم الإسلامي باسم (الحرب على الإرهاب) بعد أن لعبت بمصطلح (الإرهاب) لكي يكون مرادفاً للإسلام شيئاً فشيئاً .

ويعرج المؤلف على نصَّ تقرير لجنة التحقيق في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م على ذلك التوجه حيث جاء فيه : «إن العدو الرئيسي لأمريكا هو تيار إسلامي راديكالي متطرف تعود مرجعيته إلى أفكار ابن تيمية وسيد قطب ... ولا يوجد مجال للتصالح مع هذا التيار ، ولابد من عزله وتصفيته تماماً ، لكن لابد أولاً من منازلته في ميدان حرب الأفكار من أجل كسب الغالبية المحايدة التي لا يمكن أن تتحول إلى متعاطفة معه» ، والهدف هو إخراج المسلمين من الإسلام ، وجعل علاقة المسلم بدينه مجرد انتماء تاريخي لا غير .

 ولذلك فقد تكاثرت في السنوات الأخيرة نداءات المخططين والمنظرين والمنفذين في الغرب بضرورة إشعال (حرب الأفكار) وتوسيعها وتطويرها ضد العالم الإسلامي ، ومن ذلك ما قاله وزير الحرب الأمريكي السابق (رامسفيلد) في حديث لصحيفة الواشنطن بوست في : 27 / 3 / 2006م قال فيه : «نخوض حرب أفكار مثلما نخوض حرباً عسكرية ، ونؤمن إيماناً قوياً بأن أفكارنا لا مثيل لها» ... إلى أن قال : «إن تلك الحرب تستهدف تغيير المدارك ، وإن من المحتم الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها».

وفي المبحث هذا ثمة تفصيل واسع لمسألة طبيعة الصراع مع الغرب ،وبيان المؤلف لكثير من القضايا ، ومن العناوين البارزة فيه (مراكز الأبحاث وإدارة الحرب على الإسلام) ،و(آلية الحرب الفكرية ضد العالم الإسلامي) ، والحرب على الإسلام تحت مسمى : (الحرب على الإرهاب) ، وهم يقصدون بالحرب على الإرهاب قطعاً الحرب على الإسلام ، بدليل أنهم لم يعرّفوا الإرهاب بصورة مباشرة ، لكنهم لجأوا إلى تعريف الإسلام المعتدل بمفهوم أمريكي ليصبح معياراً للتفريق بين المسلم المعتدل والمسلم الإرهابي ، ليصبح الإرهابي هو الذي لا تنطبق عليه معايير الاعتدال الأمريكي ،وهذا هو ما أوصى به تقرير راند ، بأن يكون مفهوم الاعتدال وفقاً للتصور الأمريكي كمصطلح رئيسي في المواجهة الفكرية ، واعتبار أي مقاومة للاعتدال بالمفهوم الأمريكي هو تعبير عن التطرف والغلو الذي يجب مقاومته باسم القوانين الدولية .

مسببات ومبررات الثورات العربية :

يقول المؤلف في هذا المبحث،وهو الثالث من مباحث الدراسة ، أن الحال بعد سقوط الخلافة العثمانية ، أنْ تمزقت الأمة الإسلامية إلى دويلات ضعيفة مهترئة متناحرة ، فمزقت الأرض إلى دويلات ،والأمة الواحدة إلى شعوب ،والدستور الواحد إلى دساتير والخليفة الواحد إلى حكام ،وتبعاً لذلك حصل الإخلال بمبدأي المشروعية والشرعية ، ونعني بالمشروعية : المنظومة التشريعية الحاكمة ، ونعني بالشرعية : السلطة السياسية الحاكمة ، فأما السلطة السياسية في هذه الدويلات فقد كانت مُغتصِبة للحكم متربعة على الكراسي بالقهر ، والقوة والغلبة والجبروت ، وتوزعت هذه الحكومات ما بين حكومات جاءت إلى الحكم عن طريق الانقلابات العسكرية ، وأخرى على أساس الوراثة المحصورة في بيوت مخصوصة ، وثالثة عن طريق الانتخابات الصورية المزورة باستعمال القوة .

 

 وأما السلطة التشريعية فقد تم إقصاء الشريعة الإسلامية عن منصة الحكم ، ولم يبق في الغالب من أحكام الإسلام في كثير من هذه الدويلات سوى بعض الأحكام المتعلقة بالأحوال الشخصية ، وبعض أحكام القانون المتعلقة بالمعاملات،حيث سارعت معظم هذه الدويلات التي قسّمها الاستعمار إلى إعلان نفسها كأنظمة جمهورية ، إشارة إلى إقصاء الشريعة بمعنى أن الحكم للجمهور ، وهذا هو المعنى المرادف للديمقراطية ، أي حكم الشعب نفسه بنفسه ، فحصل الإخلال بسيادة الشريعة الإسلامية .

الثورة اليمنية مثالاً :

يقول الشيخ الصبري : إن اليمن عاشت كبقية دول العالم العربي والإسلامي ظرفاً استثنائياً ، تعطَّلت فيه كثير من مصالح الشعب الدنيوية والأخروية ، في ظل نظام حاكم ظالم مستبد عطَّل الشرع ،وأضرّ بمصالح الشعب في كل المستويات وعلى كل الأصعدة .

مما جعل الناس مُطالَبين شرعاً وعقلاً ، بتغيير هذه الأنظمة الحاكمة المستبدة ؛ لأن الشريعة الإسلامية تقضي بحرمة أن يبيت المسلمون يوماً وليلة بدون تنصيب ولي أمر شرعي يحرس الدين ويسوس الدنيا به .

ولاشك ببطلان كل ولاية تفتقد الشروط الشرعية ،أو لا تحقق المقصود من الولاية ، فضلاً عن تحوَّلها إلى العمل على خلاف مقصودها .

والملاحظ أن الأمة الإسلامية منذ سقوط الخلافة العثمانية إلى يومنا هذا تعيش مرحلة (الحكم الجبري) الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي المرحلة التي اختلّت فيها منظومة الحكم مشروعية وشرعية .

 ويبين الصبري أن الاختلال في مبدأ المشروعة يتمثل في تنحية الشريعة الإسلامية عن منصة الحكم في معظم البلدان العربية والإسلامية حيث أدخلت في الدساتير مصادر أخرى تلغي تفرد الإسلام بالحاكمية خلافاً لقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء:65) ، ولقوله تعالى : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ)(يوسف:40)، ولقوله سبحانه : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب:36).

ويذكر في معرض الدراسة أنه في تاريخ : 1/6/2010م جاءت رسالة من نائب رئيس الوزراء للشئون الاقتصادية وزير التخطيط والتعاون الدولي إلى رئيس مجلس النواب بعنوان : (هام وعاجل) يطلب فيها من رئيس مجلس النواب التدخل في إقرار حزمة القوانين المتعلقة بالأجندة الوطنية للإصلاحات ومنها : (مشروع قانون سن الزواج) الذي تريد الحكومة فيه منع وتجريم الزواج قبل إتمام سن الثامنة عشرة ، وعللت الرسالة ذلك بأن تأخير إقرار هذه القوانين له آثار سلبية على المساعدات التنموية المقدمة من الدول والمنظمات المانحة ، والتي تتابع الحكومة بشأنها بشكل مستمر ، وأن بعض المساعدات مشروطة باستكمال إجراءات المصادقة على هذه الإصلاحات .

 و يوضح أن الاختلال في مبدأ الشرعية ـ أي : السلطة السياسية ـ يتلخص في فقدان الحاكم للشروط الشرعية المطلوبة في ولي الأمر ، والذي تجعله غير صالح لولاية الأمر وتوجب عليه التنحي عن الحكم حتى لو لم تطالب الأمة بعزله ؛ لأنه مع فقدانه الشروط ليس من أهل الولاية ، ولا يصح للأمة ولا يجوز لها أن تولي - ابتداءً - غير مستجمع للشروط الشرعية للولاية .

وكذلك في اغتصاب السلطة ؛ لأن الأمة هي صاحبة الحق في تعيين ولي الأمر واختياره ، وهؤلاء الحكام لا يمثلون الأمة ولا ترتضيهم ، ولكنهم تربعوا على العروش بالقوة والقهر والجبروت ، فمنهم من جاء إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكرية ، ومنهم من ورث هذا الكرسي عن أبيه ،ومنهم من جاء عن طريق انتخابات صورية مزورة ، والكل مغتصب للسلطة .

 ويذكر في نهاية هذا المبحث أن إدراكنا لكل ما سبق يتعين علينا أن نعلم أن الثورة ضد هؤلاء الحكام الظلمة المستبدين كانت فريضة وضرورة،فخرجت الشعوب ثائرة ضد الظلم والطغيان والاستبداد ، بعد أن أفتاها العلماء بشرعية إسقاط هؤلاء الحكام الذين حصل ظلمهم وطغيانهم واستبدادهم نظراً لعدم تطبيقهم لشرع الله تعالى .

 ولكن بعض المتلصصين في ساحات التغيير أرادوا أن يحرفوا الثورة عن مسارها الراشد ، استقواءً منهم بالغرب الصليبي الحاقد على الإسلام والمسلمين ، فأخذوا يرفعون شعارات مخالفة لشرع الله تعالى،ومنادين بإقامة دولة مدنية ديمقراطية ، وصاروا يشرحون معناها وبيان أركانها في أدبياتهم بما يوافق معناها لدى الغرب وهي الدولة المدنية العلمانية .

ويعرفونها في أدبياتهم وفي مقابلاتهم في الفضائيات بأنها : دولة المواطنة المتساوية ، أي التي تساوي بين جميع المواطنين ذكوراً وإناثاً ومسلمين وغير مسلمين مساواة مطلقة دون أي تمييز على أساس الجنس أو اللون أو الدين أو العرق .

ومستغلين كذلك جهل العامة بحقيقة هذا المصطلح ، والذي يرددونه كذلك مع آخرين في الساحات ، وهم لا يقصدون قطعاً بالدولة المدنية ما يقصده أولئك الأتباع للغرب .

بل يفصحون عن مرادهم من الدولة المدنية بقولهم : إنها دولة المؤسسات والنظام والقانون والعدل والشورى.

وأنها الدولة التي لا يديرها العسكر ، بل ويقولون : إن الدولة الإسلامية هي دولة مدنية بالمعنى الذي يقصدونه،وأغراهم كذلك سكوت آخرين لتكتيك آني حتى لا تتسع دائرة الخصوم للثورة ، كما يبررون سكوتهم ، ويعللون موقفهم ذلك بأنهم لن يسمحوا قط لأحد بإقامة دولة تخالف الإسلام أدنى مخالفة . فأردت أن أبين حقيقة هذه المسألة وخطورة هذا المصطلح والآثار المترتبة على ذلك ، مع بيان الحكم الشرعي فيها. 

الآثار المدمِّرة المترتبة على قيام دولة مدنية ديمقراطية :

ويخلص المؤلف في المبحث الرابع إلى أن الآثار المترتبة على الركن الأول من أركان الدولة المدنية الذي ذكره في المبحث الأول للدراسة ، هو أن «الشعب مصدر التشريع» كونه يناقض أعظم ثابت من ثوابتنا السياسية الشرعية ، وهو أن السيادة العليا والحكم الأعلى لشرع الله تعالى وحده ، فمن المقطوع به والمعلوم من الدين بالضرورة أن الحجة القاطعة والحكم الأعلى والمرجعية العليا لكل التشريعات هي لشرع الله تعالى وحده ،وهذه الحقيقة هي الإسلام ، فالقبول بها قبول بالإسلام والكفر بها والإعراض عنها مروق من الدين وكفر بالإسلام ، والدليل على هذه الحقيقة هو الدليل على الإسلام نفسه .

 ويقول بأنه قد انعقد إجماع الأمة كلها في مختلف الأعصار والأمصار إجماعاً لم يشذ عنه كبير ولا صغير ولا ذكر ولا أنثى ولا حر ولا عبد ولا طائع ولا عاص ، أنه لا دين إلا ما أوجبه الله ولا شرع إلا ما شرعه ، ولا حلال إلا ما أحله ولا حرام إلا ما حرمه ، وأن من جادل في هذه البدهية فأحل ما حرمه الله أو حرم ما أحله الله ، أو رد شيئاً من حكمه أو أعطى غيره حق التحليل والتحريم والإيجاب والندب - فهو مارق من الدين كافر بإجماع المسلمين .

قال تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(النساء:65).

 

 وفي نفس المقام ذكر أن الآثار المترتبة على الركن الثاني من أركان الدولة المدنية قيام دولة مدنية تعتمد على المواطنة المتساوية ، وسيلزم من ذلك تغيير جميع القوانين التي تتضمن أحكاماً خاصة بغير المسلمين والقوانين التي تتضمن الأحكام الخاصة بالرجل والأحكام الخاصة بالمرأة .

وأما ما يتعلق بغير المسلمين فلابد من المساواة بين المسلم والكافر ، وما يتضمنه ذلك من ردِّ حكم الله تعالى القائل : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ . مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(القلم:35-36).

وهذا يقتضي تغيير كثير من الأحكام الشرعية منها :

- إلغاء المادة التي تقول : لا يقتل مسلم بكافر ، ثم المساواة بين المسلم والكافر في الدية .

- إلغاء شرط الإسلام في رئيس البلاد ليتمكن الكافر واليهودي من الترشح لمنصب ولي أمر المسلمين وذلك يعارض قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)(النساء:141).

وأما القوانين الخاصة بالمرأة التي سيتم تغييرها فمنها :

ما يتعلق في باب المواريث : فسيطالبون بالنص على أن الذكر والأنثى في الميراث سواء خلافاً لقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ)(النساء:11) مع أن هذا التفريق مبناه على الحكمة البالغة والعدالة الكاملة كما وضحته في كتابي (معالم حقوق وواجبات المرأة في الإسلام) .

وفيما يخص قانون الأحوال الشخصية :

- إلغاء ولاية الأب على ابنته البالغة ، مما يبيح لها أن تزوِّج نفسها بدون ولي خلافاً لقوله صلى الله عليه وسلم : «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَالِيهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» .

- إلغاء قوامة الزوج على زوجته ، وإسقاط طاعة المرأة لزوجها ، ومنع خدمة المرأة لزوجها في بيته خلافاً لقوله تعالى : (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ)(النساء:34) .

- إباحة خروج المرأة من البيت متى شاءت بدون إذن وليها (أبوها أو زوجها).

- السماح للمرأة أن تسافر داخل البلاد أو خارجها بدون محرم ، خلافاً لقوله صلى الله عليه وسلم : «لا يَحِلُّ لامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لَيْسَ مَعَهَا حُرْمَةٌ».

- إعطاء الحرية للمرأة أن تمتنع عن زوجها في فراشه وتجريم الزوج إذا جامع زوجته بغير رضاها واعتبار ذلك اغتصاباً للزوجة .

- إلغاء اشتراط الذكورة في الولايات العامة مما يتيح للمرأة أن تكون رئيساً للبلاد خلافاً لقوله صلى الله عليه وسلم : «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» .

والخلاصة أن القبول بالدولة المدنية الديمقراطية يعني محاكمة كل تشريعاتنا وتغييرها بما يتواءم والفلسفة العلمانية الإلحادية الإباحية على إنها الحرب على الإسلام وقيمه ومبادئه والاعتراض على شرع الله تعالى ،والحرب على هويتنا وقيمنا ، وتدمير الأسرة المسلمة وتفكيكها وإشاعة الفاحشة والانحلال وارتفاع معدلات الجريمة ، وإخراج الإنسان عن إنسانيته وآدميته لتصل مجتمعاتنا إلى ما وصلت إليه المجتمعات الغربية من الفساد والانحلال ،وصدق الله تعالى : (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً)(النساء:27)،وقال تعالى : (وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً)(النساء:89) .

شبهات وردود

وفي نهاية الدراسة عرض المؤلف جملة من التساؤلات ،وأورد جملة من الشبهات أجاب عنها في معرض ذكر السؤال مع الجواب عليه ، والشبهة وتفنيدها ،وقد تطرق في ذلك إلى تناول بعض القضايا،والمسائل التي هي على صلة بالدراسة من مثل : توصيف الدولة المدنية ، وتعارضها مع الدولة الإسلامية ،ومطالبة الثوار في الساحات لأكثر محافظات الجمهورية ، وأسباب تعثر نجاح الثورة في اليمن ، وغير ذلك من التنبيهات والموجهات التي أبان وأفصح عنها المؤلف بشيء من التفصيل ، والتبيان.