يمانيون على ضفاف النيل.. مواقف ومشاهد4
بقلم/ ابراهيم الجهمي
نشر منذ: 14 سنة و 3 أسابيع و 6 أيام
الأربعاء 20 أكتوبر-تشرين الأول 2010 07:41 م

الحلقة الرابعة: يمانيون في مصر : شـهـدأ وجـرحـى .. ضحايا الحرق, والغرق, والإختناق

من الأيام المحزنة والمؤلمة التي عايشتها في مصر ولا أظن أني سانساها أو أستطيع تناسيها الحدث الجلل والأليم الذي كان يوم السبت قبل ثلاثة أسابيع تحديداً يوم 25/9 حيث إستيقظت مفزعاُ على صوت رنات التلفون المتلاحقة... ورديت على محدثي وهوأحد الزملاء فوجئت بكلامه الحاد والشديد اللهجة يسألني أين أنتم؟ وأين القنصل؟ وأين السفارة ..!!؟ فقلت له خيرأً أخي اليوم سبت وهي إجازة رسمية .. وبادر بقوله نتصل بك وبالقنصل من الصباح الباكر ولم يأتي أحد ! قلت له أخي كنت والقنصل بالأمس حتى قبيل الفجر في عرس وفرح لإبن أحد كبار رجال الأعمال اليمنيين في مزرعته خارج القاهرة ! وسألته خيراً أخي مالمشكلة؟ طمني لماذا أنت متوتر !؟ قال لي ألم تسمع ؟ ألم يصلك الخبر ؟ فلقد تعرض زميلنا عبد الله بدر الدين للحرق هو وإبنه !!!! وطلب مني أن أسرع إليهم .. ! وصدمني بقوله أنهما قد توفيا !!! بصراحة لم أستطع تحمل الخبر أو إستيعابه ! كانت صدمة عنيفة ! بل هزة ورجفة وقعشريرة سرت في جسدي ! وشلت أركاني ! وتسمرتُ في مكاني برهة ! من هول الصدمة ! وأنا أردد على محدثي ماذا تقول ؟ وماذا تعني ؟ فرد بصوت مخلوط بالحشرجة وبالبكاء ! ما قلته لك حقيقة فاقبل فالشباب إحتشدوا من كل مكان والشرطة والنيابة والجميع هنا .....! لبست ثيابي ونزلت مهرولاً إلى مكان الحادث الذي لا يبعد عني سوى ربع ساعة بالسيارة وهو في منطقة العمرانية بداية شارع خاتم المرسلين على ترعة الزمر !! ووصلت الى العمارة التي بها الحادث وهي مكونة من ثلاث طوابق والحادث في الطابق الأخير ..!ووجدت كثير من الشباب الطلاب منتظرين أسفل العمارة ويبدوا عليهم الحزن العميق والتأثر الكبير! والدموع تنهمر من أعين العديد منهم ! صعدت الى الدور الثالث وفي شقة الأخ ابراهيم القهالي صديق وجار الفقيد كانت النيابة تحقق مع زوجة الفقيد وهي طريحة الفراش ! ورأيت في الصالة نساء محتشمات حضرن للوقوف مع أهل الفقيد وأولاده الأربعة وهم بجوار بعض والكل صامت وفي هدؤ ! وكان ذلك المنظر والمشهد مؤثر جداً ومحزن بأن أرى هؤلاء الأطفال في ذلك الموقف ! ففي غضون ساعة تحولت حياتهم من أفضل حال إلى أسوأه ! كانوا حتى الساعات القريبة ينعمون بدفئ حنان متدفق من الأم , ودلال وعطف منهمر من الأب ! فقد كانوا بالأمس فرحين مسرورين بعد أن ألحقهم والدهم بالمدارس ووفر لهم ملابس المدرسة وأحضر لهم كتب ومستلزمات الدراسة ! ولقد وصلوا من اليمن يوم السبت الماضي ! .

وكان السبت الماضي يوم سرور وفرحة غامرة للجميع بعد أن وطأت أقدامهم أرض الكنانة وهم يمنون أنفسهم بذالك اليوم الموعود ! يوم أن يعود الأب لإستكمال دراسته بعد أن أنهى معاملة الدكتوراه وحصل على الإعتماد والموافقة من جامعة عمران ! وأراد أن يسرع بالمجيئ إلى مصر ليلحق أولاده بالمدارس منذ بدايتها ! ولقد حجز الشقة هذه التي عاش بها مرحلة الماجستير ودفع إيجارها لمدة ثلاثة أشهر وهو باليمن ! وعاد إليها ليلقي قدره فيها !سبحان الله !! فلقد كان متمسك بالشقة ويراها الأنسب له من بين كثير من الشقق المجاورة !فهو قد ألفها وارتاح لها! ووجدت القنصل المستشار فؤاد العولقي ونائب السفير الوزير المفوض محمود شايف!وطلبنا الإذن من النيابة في السماح لنا برؤية الشقة المجاورة التي حدث الحادث فيها !وكانت الحراسة المشددة من قبل الشرطة تمنع الدخول إليها ! وأذن لنا وكيل النيابة بالدخول ! وصدمت لما رأيت الحريق قد أتى على جميع مافي صالة الشقة وأصبح رماداً والجدران قد إنسلخ الجبس المغطي لها والأرضية أصبحت تراب ورماد ! .

وكل شئ متفحم حتى النهاية والحقيقة حتى الأن لم ُيعرف السبب الحقيقي للحادث ! وإن كانت أغلب الأراء بأنها ماس كهربائي إبتدأ بالنجفة وسط السقف وأمتد للديكور الخشبي الذي يحيط بها ! ومن ثم إنتشر بسرعة أرجاء الصالة والتي تغطيها الديكورات الخشبية في السقف والحيطان والأرضية الخشبية( باركيه ) بالإضافة إالى الموكيت والسجاد !وذلك الرأي ما رأته الجهات المختصة وأيدته! وإن كانت لي وجهة نظر بتفصيل أدق وهو إجتهاد مني لا أكثر ! حيث تأملت أرجاء الصالة جيداً ووجدت في زاويتها أنبوبة غاز وبجوارها تنور بلدي قدم به الفقيد من اليمن ! فلاحظت بأن الأنبوبة لم تنفجرأثناء الحريق وهذا من لطف الله فلقد كانت مملؤئة ولكنها كانت مفتوحة وموصلة بالتنور ولما شبت النيران ووصلت إلى الخرطوم فأحرقته وأستنفذت الغاز الذي كان بداخلهامما ساعدت في إنتشار الحريق وكثافته وهو ما أكده الزملاء الذين توافدوا لمكان الحادث منذ بدايته وساعدوا في إنقاذ الأطفال ! أتوقع بأن خرطوم الأنبوبة كان مشققاً أو مترهلاً أو غير موصل جيداً مما أدى لانتشار وتسرب الغاز أثناء الليل والجميع نيام والغرف مغلقة ! وقد تكون شرارة نشبت من ماس كهربائي قد يكون بسبب إنقطاع تيار الكهرباء وارتجاعه مرة أخرى فأحدثت ذلك الماس الذي سرعان ماختلط بالغاز المنتشر أركان الصالة وذلك ما ساعد على الإنتشار السريع للحريق ! وخاصة كان الوقت قبيل الفجر والكل نيام ولم يسمع أحد أو يلاحظ أثر الخان المتصاعد ! والغرفة التي نام الفقيد فيها كان التكييف شغال وصوته مرتفع ولم يسمع أحد بشيئ! إلى أن شعرت إبنة الفقيد ذات الثلاثة عشر عاماً برائحة الدخان وهرعت للغرفة المجاورة التي بها والدها ووالدتها وأخوها الفقيد ! .

ونبهتْ أمها للحريق الذي في الصالة وعلى الفور لبست أمها كامل ملابسها وهرعت لشقة الجيران التي بجوار أمام شقتهم وفيها زميل زوجها وأسرته ! وأما الفقيد فقد هرول للصالة يريد أن يخرج من بابها الذي كان مفتوحاً بعد أن أمر أولاده المتواجدين بالغرفة الأخرى بسرعة الخروج لبلكونة الغرفة التي هم فيها نظراً للدخان الكثيف المتصاعد بالصالة ! وللأسف فقد هرول الإبن الصغير خلف والده وعاد والده لأخذه وانتشاله معه وكان حينها باب الشقة مفتوحاً قبيل خروجه وأبنه في حضنه من باب الشقة الذي اندفع بقوة بسبب سقوط الديكور الخشبي المعلق على الجدار خلف باب الشقة وانغلق باب الشقة وانحشر الخشب المتساقط من الجدار بالأرض حائلاً دون فتح الباب وكان الدخان المنبعث من الحريق سبباً في وقوع الفقيد وابنه بين النيران خلف باب الشقة ! وكان بينهما وبين النجاة باب الشقة فقط ! مسافة نصف متر ! ولكن مشيئة الله لهما بالشهادة ... قد سبقت كل مشيئة ! وهرع الناس وأصدقاء الفقيد للنجدة وكان الوقت مازال مبكراً ولا يعرف أحد مصير الفقيد أو الأولاد حينها! وأرشد أحد الجيران من العمارة المجاورة بأن الأولاد بالبلكونة ! وصعد البعض على سطح الشقة محاولاً إنقاذ الأولاد ! وهم يهتفون وينادون الفقيد يقولون نحن قادمون فساعدنا لرفع أولادك سنسحبهم من السطح ! ولا يسمعون مجيب ! والأولاد يصيحون ويستغيثون !!والدخان الكثيف والخانق ينبعث بغزارة على السطح لأعلى! والظلام ما زال مخيماً ! وصياح وهتاف هنا وهناك !واحتار الجميع حول كيفية النزول للبلكونة وإنقاذ الأطفال الذين يصرخون ويستغيثون ؟ فالنزول إليهم غاية في الخطورة وصعب جداً !! وجاء شاب مصري لم يعرفه أحد ولم نتمكن من معرفته وبحثت بعد ذلك عنه وما وجدت إليه سبيلاً !كأنه ملك أرسله الله لإنقاذ الأطفال ! صعد الشاب البطل لسطح الشقة الملتهبة بالنيران والمتصاعد منه الدخان وبجواره طالب يمني صديق وجار الفقيد ! وتسلق الشاب المصري في موقف فدائي على صندوق تكييف الشقة الذي كان من الممكن أن يسقط ويهوي به لولا ستر الله ! ونزل إلى البلكونة وبدأ بسرعة ينقذ الأطفال واحداً تلو الآخر حتى الاخير والشاب اليمني يتناولهم من فوق السطح ! وصعد الشاب البطل وانصرف دون أن ينتظر جزاء أو شكورا! وجائت المطافي ورجال الإنقاذ خلال ثلث ساعة وكانت النيران قد إلتهمت كل شيئ ! وحتى تلك اللحظة مازال الشباب يعتقدون بأن الفقيد قد نجى .. والكل منهمك هنا وهناك... ولا يعرفون بأن الفقيد قد توفاه الله ! إلا بعد أن قام رجال المطافي بكسر باب الشقة وخلفها وجدوا جثتين متفحمتين تماماً ! وأصيب الجميع بالهلع والفزع والذعر حينما عرفوا ذلك ! ولا أستطيع وصف ذلك المشهد ! وإن كنت لن أنساه ما حييت ! وانتابني شعور عظيم بأن هذه الدنيا حقيرة هينة لا تساوي شيئ سرعان ما يأتي الأجل للعبد وقد يأتيه بغتة دون سابق إنذار ! وتذكرت قوله تعالى (إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) وحضرت النيابة والبحث الجنائي والطبيب الشرعي الذي قرر بأن سبب الوفاة الإختناق قبل الإحتراق ! وكان موقف الشباب الطلاب وتوافدهم لمكان الحادث وتكاتفهم مع السفارة سبباً في تسريع النيابة بالموافقة على أخذ الجثث والتصريح بالدفن .. رغم أنه المعتاد بأن تضل مثل هذه القضايا مفتوحة وجار البحث فيها أياماً طويلة ولا يصرح بالدفن إلا بعد إستكمال كافة التحريات والتحقيقات ! وحدثت بعض المناوشات الناتجة عن تحمس وإجتهادات من قبل البعض ! وأشهد لله بأن الجميع كان متعاون (عدا مسؤل المشرحة ) وتيسرت جميع الأمور اللازمة لترحيل الجثمان ثاني يوم الحادث والشكر للسفير فقد أمر بسرعة صرف تذاكر السفر وترحيل الجثمان وكذلك لنائب السفير والقنصل الذين كانا منذ أن رأيتهما وحتى مرافقتهما لأسرة الفقيد الى الصالة الداخلية بالمطار (على غير عادة السفارة وموظفيها ) وللأب الكبير الفاضل الصادق الدكتور قائد الشرجبي الملحق الثقافي الذي أسأل الله أن يجزيه خير الجزاء ! و( لأول مرة ) التعاون التام والكامل من قبل الخطوط اليمنية ممثلة بمديرها الجديد والجديرالأستاذ فهد العريقي ! ومدير المحطة بالمطار الأستاذ عبده المصري .... أما بقية أصدقاء وأصحاب الفقيد فالعفو عن ذكرهم وهم كثر وهذا واجبهم 

وبقي أن أقول لكم بأنه من المفارقات العجيبة بأن الشارع الذي سكن به الفقيد والعمارة التي حصل بها الحريق إسم الشارع ذالك : شارع ( الشـهـيـد الـحـي ) سمي ذلك الشارع بهذا الإسم منذ عشرات السنين .. وأصبح شهيدنا الشهيد عبد الله يحي بدر الدين شهيداً حياً في قلوبنا نسأل الله أن يتقبله مع الشهداء ويلحقه بهم ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 

 :((الشَّهَادَةُ سَبْعٌ سِوَى الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْمَطْعُونُ شَهِيدٌ وَالْغَرِقُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ ذَاتِ الْجَنْبِ شَهِيدٌ وَالْمَبْطُونُ شَهِيدٌ وَصَاحِبُ الْحَرِيقِ شَهِيدٌ وَالَّذِي يَمُوتُ تَحْتَ الْهَدْمِ شَهِيدٌ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ بِجُمْعٍ –أي بحمل أو نفاس- شَهِيدٌ))

و من باب الشيئ بالشئ يذكر فسوف أذكربإذن الله بشيئ من التفصيل في طيات الحلقات القادمة عن شهداء يمنيين بمصر في السنوات السابقة ومنها :

1- منذ ستة أشهر تعرض شاب ووالدته للتسمم بعد أن أكلا وجبة مسممة !!

2- منذ أقل من عامين تعرض شيخ يمني عجوز للإختناق بالغاز وهو بالحمام ! وتوفى إثر سقوطه على رأسه في( البانيو) , في منطقة أرض اللواء التابعة للجيزة .!

3- منذ ثلاث سنوات تعرض كذلك شاب وفتاة يمنيين للإختناق وهما في شهر العسل بالاسكندرية وتوفيا داخل الحمام

4- منذ عامين حادثة تعرض ثلاثة من الشباب اليمنيين للأختاق بالغاز الطبيعي

5- المنيل منذ سنتين ونصف غرق ثلاث أطفال في نهر النيل وهم يسبحون في منطقة المنيل

6- منذ سبع سنوات طالب وصديقه يسقطان من اعلى الكوبري بالسيارة ويفارقان الحياة

7- منذ اربع سنوات طالب يمني غرق في عبارة السلام قادماًمن العمرة

8- حرائق متعدةة تعرض لها البعض من اليمنيين بمصر... ولكن الله سلم !!

والله المستعان ,,,,,,

Jahmy2010@yahoo.com

الحلقة القادمة/ 

 في اليمن ضُِربَ وأُهين .. وفي مصر أُكرم ونال حظاً بالغاً وشهرةً واسعة ... قصة نجاح