|
إن من أهم ما يتميز به ديننا الإسلامي الحنيف هو أنه دين الوسطية والاعتدال واليسر والاتزان ولذا وصف الله تعالى أمة الإسلام في كتابه بأمة الوسط فقال : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } البقرة 144.
وأمة الوسط هي أمة الخيرية والعدل والاستقامة ..
فهي أمة الخيرية ؛ لأن الوسط هاهنا بمعنى الخيار والأجود، وهو في كلام العرب، ومنه قول أبي بكر الصديق يوم السقيفة عن قريش: "هم أوسط العرب نسباً وداراً"، أي: خيرهم، وهو المعنى المتسق مع قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..} آل عمران 110.
وهي أمة العدل؛ لأن الله جعلها شاهدة على الأمم، والشاهد لابد أن يكون عدلاً حتى تقبل شهادته، والنبي صلى الله عليه وسلم فسر الآية بقوله: (الْوَسَطُ الْعَدْلُ) . رواه البخاري.
وهي أمة الاستقامة؛ لأنها أمرت بهذا الدعاء وتحقيقه :{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7) } الفاتحة
فهي ثابتة على المنهج القويم والصراط المستقيم، مبتعدة عن الأهواء والسبل، محققة قول الله تعالى: { وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} الأنعام 153.
كما تأتي الوسطية بمعنى : ما بين طرفي الشيء وحافتيه أو بين جانبين متساويين كما في قوله تعالى: { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)} البقرة، والصلاة الوسطى: صلاة العصر كما قال رسول الله صلى عليه وسلم يوم الخندق «شَغَلُونَا عَنْ صَلاَةِ الْوُسْطَى صَلاَةِ الْعَصْرِ مَلأَ اللَّهُ قُبُورَهَمْ وَأَجْوَافَهُمْ نَارًا » (رواه مسلم) ؛ فهي وُسطى لوقوعها بين جانبين متساويين باعتبار أن مبدأ الصلوات الخمس من مبدأ النهار؛ فتكون العصر بعد صلاتي:الفجر والظهر، وقبل صلاتي: المغرب والعشاء .
كما أن معنى الوسطى يحتمل نفس المعنى الأول وهو: الخيار والأجود، فتكون صلاة العصر هي الصلاة الأفضل، وكلام العلماء في هذه الآية يطول وليس هذا محله .
فمن خلال ماسبق نستطيع أن نحدد مفهوم الوسطية بأنه : الخيرية والأفضلية, والعدل والاستقامة على الحق, والبينية: أي بين الغلو والتشدد، وبين التمييع والتضييع.
وهنا تنبيه مهم : أن البينية أي: التموضع بين طرفين أو بين نقيضين لايعني بالضرورة تجسيداً حتمياً للوسطية, فلا وسطية بين الحق والباطل، ولا بين الإيمان والفسق، ولا بين الإسلام والكفر، وإنما المقصود بالبينية: أن الأهواء والأراء لما كانت متناقضة يميل بعضها إلى الغلو والتشدد وبعضها إلى التقصير والتفريط فإن الحق الذي هو شريعة الله لابد أن يكون وسطاً بين هذه الأهواء المتضاربة، وبذلك تعلم أن البينية هنا: إنما هي نتيجة وثمرة لكون الإسلام وسطاً بمعنى الخيرية والعدالة, ولا يعني كذلك أن الحق في المسائل والأقوال هو في اختيار القول الذي يتوسط الأقوال والأراء والمذاهب وإنما يكون الحق حيث تكون الأدلة الشرعية الثابتة الصحيحة, ولذلك فإن ماقرره الفلاسفة من أن الفضيلة وسط بين رذيلتين ليس صحيحاً على إطلاقه , فلئن صحَ أن تكون الشجاعة وسطاً بين الجبن والتهور, والكرم وسطاً بين الإسراف والبخل , فإن قاعدتهم لا تنطبق على مثل فضيلة الصدق وفضيلة العدل, فالصدق يقابله الكذب والعدل يقابله الظلم, وليس أي منهما وسطاً بين رذيلتين .
****
ولما كانت أمة الإسلام هي أمة الوسط؛ فقد خصها الله بدين الإسلام، وهو دين الوسطية الذي خصه الله بأكمل الشرائع، وأجمل المحاسن، وأقوم المناهج، وأيسر الأحكام، كما قال تعالى: {.. وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ..} الحج 78
فالوسطي الحقيقي: هو من استسلم لله ورسوله، وعمل بماجاء في كتاب الله وماصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من العقائد والأحكام .. وكل من تعدى حدود الشرع، أو قصر عن القيام بها؛ فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه وتقصيره
والوسطي الحقيقي هو من لا يهون من شأن حدود الشريعة وعصمتها ويتبع ماتهواه نفسه أو جماهيره أو أسياده في منهج القضاء والافتاء والدعوة والتعليم والتعامل بدعوى التيسير والسماحة والوسطية !!
ولاشك ولاريب أن دين الله يسر، ولكن اليسر هو الوسط، إذن .. فالدين هو: الوسط ، والأمة وسط كما نطق بذلك الكتاب العظيم.
وليس من الوسطية التوفيق بين الكفر والإسلام كما في مشروع توحيد الأديان، أو التقريب بينها أي: بين الإسلام والنصرانية، ولا من الوسطية التوفيق بين الحق والباطل كما في مشاريع التقريب بين السنة والشيعة, وليس من الوسطية إباحة اختلاط الرجال بالنساء بغير ضرورة ملجئة، أوحاجة ملحة، أوالتهوين من شعيرة الجهاد في فلسطين والعراق وأفغانستان، وليست الوسطية في الترخصات المذمومة التي أساسها اتباع الهوى ثم اتباع الأقاويل الشاذة غير المعتبرة والمخالفة، بل والمصادمة أحياناً للأدلة الشرعية وهو مايعبر عنه بتتبع الرخص ويقول عنه العلماء : من تتبع الرخص تزندق ..
ولا تعني الوسطية أبداً أن نتخلى عن ثوابت الإسلام ومقتضياته من أجل أن نقترب من أعدائه, ولاتعني كذلك أن نجمع بين الفضيلة والرذيلة، ولاتعني أن نطرح الحق المستمد من الكتاب والسنة حين لا يتفق مع العقول العقيمة والشهوات السقيمة .
إن مفهوم الوسطية الحقيقي : هو التمسك بجميع تعاليم الشريعة الإسلامية السمحة ذاتها , لأن الإسلام بتعاليمه وأحكامه يمثل الوسطية الحقيقية في العقيدة والعبادة والسلوك اللهم مسكنا بالإسلام إلى أن نلقاك
*****
ولأن الكلام عن الوسطية -والشيء بالشيء يذكر- ؛ لابد –هاهنا- من وقفات مع الدكتور عمرو خالد؛ المبشر بالوسطية ،واقتلاع التطرف في بلاد اليمن !!.
الوقفة الأولى: أعترف أن واقع الأمة الإسلامية الحاضر يظهر حاجتها الماسة والملحة لمضاعفة الجهود، وإطلاق البرامج والمبادرات، وبذل الغالي والنفيس لنشر عقيدة وأحكام وأخلاق الإسلام الصحيحة الوسطية نظرياً وعملياً,لأن الأمة اليوم وهي تعاني من الضعف والذل والظلم والتسلط والاحتلال المباشر وغير المباشر؛ أصبحت كذلك تعاني من طروحات غالية متشددة غير مؤصلة –أحيانا-ً تحتكر الحق، و تلغي وتقصي الآخرين .. تستسهل القتل، وتستهين بالدماء وهؤلاء ليسو فئة واحدة في العالم، أو جماعة واحدة أو تنظيماً واحداً بل فئات وجماعات وتنظيمات , وتعاني أيضاً من خطاب هزيل ضعيف غير مؤصل دائماً؛ يتتبع الرخص و يسترضي الجلاد، ولا ينصف الضحية ..يسعى دعاته جاهدين إلى إلغاء الحواجز الدينية بين المسلمين وأهل الكتاب بلا علم ولا بصيرة، والدكتور عمرو خالد يمثل هذا الطرف -مع كل أسف- ومواقفه وتصريحاته الهزيلة السلبية في ذلك أكثر من أن تذكر، وما مبادرته الفردية، وموقفه الباهت من رسوم الدنمارك المسيئة لرسول الوسطية الذي تجاوز فيه علماء وعقلاء خُمس الكرة الأرضية خير شاهد ودليل على أن الرجل يغرد خارج سرب وسطية الإسلام.
الوقفة الثانية: الدكتور عمرو خالد ليس معروفاً بالعلم، ولاهو من أهل العلم، وهذا أمر معروف من خطابه، وطرحه فهو قليل البضاعة بشهادة كثير من العلماء أمثال الشيخ القرضاوي، والشيخ الفوزان، والشيخ محمد حسان، والشيخ أبو اسحاق الحويني، والشيخ عبد الله بن فيصل الأهدل، والشيخ وجدي غنيم وغيرهم كثير .. ولأنه كذلك فقد وقع في كثير من الأخطاء والمخالفات والشطحات؛ كالموقف من الدنمارك المشار إليه سابقاً ومما قاله هناك : "إن المسلمين لايقبلون السب ولكن يقبلون النقد" (فيلم عن رحلة عمرو خالد إلى الدنمارك) أي أننا نتقبل أن ينتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا نقبل أن يسب !
وكوصفه للنبي صلى الله عليه وسلم بالفشل في مواقف من حياته (برنامج على خطى الحبيب) ومن أعاجيبه أنه يرفع شعاراً لنفسه:"لا للفتوى" على اعتبار أنه ليس أهلاً لها -وهو كذلك-؛ ولكنه في الوقت نفسه يملاْ أشرطته ولقاءاته وبرامجه بالفتاوى الشاذة والغريبة -بل والمضحكة- في بعض الأحيان؛ كرفضه لظاهرة اعتزال الفنانات التائبات (صناع الحياة) ، حتى أن الممثل أحمد فاروق الفيشاوي -ابن الممثل المعروف- قد اعتزل التمثيل لأنه اقتنع بحرمته لكن صاحبنا أقنعه بالعودة و أنه ممكن يخدم الإسلام من موقعه (مقال: ماذا تنقمون من عمرو خالد).
ويقول : إن المرأة السافرة غير المحجبة إن كان في نيتها الحجاب وإن لم تتحجب فإنها تثاب. (المصدر السابق)
ويرد على امرأة في اتصال هاتفي: فيقول : مش عايزة تتحجبي مفيش مشكلة !!! ولكن احذري الملابس الضيقة !!. (مجلة المرأة المسلمة- قناة اقرأ)، ويقول إن التدخين ليس حراماً ولكنه يعتبره «مكروهاً»، لكن خمس سجائر تكون حراماً «بقه خمسه مكروه ما يعملوش حرام واحد؟؟ ودا حتى في الكورة كان القانون إنه أربعة كورنر يتحسبو جون» !!!! (شريط عن الأمانة).
وأعاجيبه كثيرة جداً .. وماذكرت فيه كفاية لتوضيح الصورة فأي وسطية سيبشرنا بها الدكتور !!
الوقفة الثالثة: مما سيقوم به عمرو خالد، أنه سيدرب مائة من علماء ودعاة اليمن على الفكر الصحيح للرد على الفكر المتطرف عبر دورات مكثفة في ذلك، وهذا في الحقيقة إهانة كبيرة لعلماء اليمن، ودعاته بعامة وإلى هؤلاء المائة بخاصة، وأنا لا أقبلها لعلمائنا ودعاتنا .. فكيف نظن أن علماء اليمن ودعاته -وهم مثال في الوسطية يحتذى- يحتاجون إلى من يعلمهم الوسطية، والرد على فكر الغلو التطرف بل ويكون المعلم هو الدكتور عمرو؟! .. اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها !.
ولكَ الله يايمن ألستَ بلد العلم والعلماء، والإيمان والحكماء والبلاغة والفصحاء والشعر والشعراء ؟ .. ألستَ من أنجبت الإمام الشوكاني, وابن الوزير والصنعاني, وابن عبيد الله السقاف العدناني, والعبادي والوادعي والبيحاني ؟ .. ثم إن اليمن بحمدلله وفضله لازال ولاّداً للعلماء والحكماء والعقلاء والأدباء .. لكن المشكلة في نظري على الأقل تكمن في ضعف الشخصية الجمعية للإنسان اليمني من جهة, وعدم تقدير الأطر والهامات وتهميش الطاقات و غياب التشجيع والقمع للمواهب والقدرات من جهة أخرى.
قل لي بربك : هل يرضى علماء المملكة العربية السعودية أو علماء مصر والأزهر بإن يستجلب لهم عالم من غيرهم بهذه الطريقة ( أهدافاً ووسائل ) ليعلمهم منهج الوسطية ونبذ التطرف فضلاً أن يكون المعلم هو الدكتور عمرو خالد ؟
فلماذا –إذن- توفر كل هذه الإمكانيات، وتفتح كل الأبواب لمؤسسة الدكتور عمرو خالد: "رايت ستارت"، ولا تتوفر لعلماء اليمن ومؤسساته ؟! ولماذا عمرو خالد بالذات .. ألأنه يمثل الإسلام الذي ترضاه أمريكا وأوربا ؟! . وليس سراً أن يقال : إن عمرو خالد هو عضو في مؤسسة إيمانية لمصاص دماء المسلمين في العراق وفلسطين وأفغانستان رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير !! وللتأكد: http://www.tonyblairfaithfoundation.org/pages/912
لكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح بقوة : لماذا يسكت أغلب علماء اليمن ودعاته عن هذا الأمر ؟! .. ألا يرون أ نهم يمثلون الوسطية والاعتدال ؟! وأنهم قادرون على اقتلاع جذور التطرف بنوعيه الإفراط والتفريط ؟ .. لماذا لا يطالبون القيادة بأن توكل المهمة لهم يشخصون الداء ويصفون الدواء؛ فهم أعلم بالحال وأوعى بالمأل "فأهل مكة أدرى بشعابها" و أنهم ليسو بحاجة إلى الدكتور عمرو خالد ومؤسسته فليست النائحة الثكلى كا المستأجرة.
أسعد الله أوقاتكم !
Abuhamed1000@hotmail.com
في الأحد 05 ديسمبر-كانون الأول 2010 04:38:56 م