هل يؤدي الحج دوره المكنشود في الأمة ؟!!
بقلم/ محمد مصطفى العمراني
نشر منذ: 13 سنة و أسبوعين
الجمعة 04 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 03:49 م

 وحجاج بيت الله الحرام يشرعون في الأيام القادمة في تأدية مناسك الحج تجيش في نفسي اللوامة مشاعر روحانية غامرة وحسرة على تخلفي مكره عن تلك الفريضة العظيمة التي يعود بعدها من وفقه الله لأدائها بإخلاص وإتباع لسنة المصطفى صلى الله علية وآله وسلم مولودا جديدا يطوي صفحة العمر الماضي بكل ما فيه من خطاء وصواب ويفتح صفحة جديدة ناصعة البياض..

ليس الحج مجرد مناسك تؤدى هو رحلةً فكرية وروحيةً لتتحقق الحكمة الربانية والهدف المنشود من تشريعها وهو سمو النفس البشرية بكلا جناحيها الجسمي والروحي والمادي والمعنوي في سماء الفضيلة والكمال.

وقد قرأت للمفكر الإسلامي الكبير والراحل محمد أسد حديثا رائعا يعد من درر البيان وروائع الكلم في وصف رحلة الحج التي عايشها بنفسه لقد وجدت فيما كتبه هذا العملاق الكبير في كتابه الشهير "الطريق إلى مكة" حديثا رائعا وشاملا فهو يروي بأسلوبه الرائع تفاصيل رحلته إلى الله ويشرح حكمة الحج وفلسفته ومقاصده في مناسكه وشعائره..

 الحج من وجهة نظري اليوم لا يؤدي دوره الجمعي في وعي الأمة كما يجب فهو مؤتمر إسلامي يصل عدد أعضائه إلى أكثر من ثلاثة ملايين عضو من النساء والرجال وأي مؤتمر في العالم قد أنعقد بهذا العدد والأجواء الروحانية والانسجام في الأداء والتوحد في المشاعر واللباس والحركة والمقصد لكن هل يخرج أعضائه بقرارات تؤثر في الأمة بشكل جمعي؟!!

ذلك هو السؤال الذي يبحث عن جواب فالحج ليس إسقاط فرض على الأفراد فحسب هو مؤتمر إسلامي كبير فيه من الدروس والعبر والأسرار العظيمة والدعوات المباشرة للوحدة الإسلامية والمساواة ونبذ الخلافات وتجاوزها فنحن أمة واحدة يلتقي في ركنها هذا الشامي والمغربي واليمني والحجازي والأفريقي والأسيوي والأمريكي والفارسي والأوربي والهندي تذوب الفوارق والجنسيات والألوان والطبقات والمناصب والاختلافات ويتوحد الجميع في لبسهم لقطعة قماش في موكب مهيب يذكر المرء بيوم الحشر والقيامة ويؤكد للجميع فناء الدنيا وتفاهتها وضعفها جعلت الملك يلبس لبس المملوك والغني يمشي مع الفقير ساوت بينهم في كل شيء لتظهر إحدى تجليات هذا الدين العظيم وقد قرأت للشيخ محمد الغزالي حديثا رائعا عن الحج وجدت أنني لن أضيف عليه شيئا بل لا أصل إلى مستواه ورحم الله من عرف قدره وقد عرفت قدري فوقفت في مدرسته تلميذا بسيطا ولأن الدرس كان رائعا فأحببت أن أنقله لكم بشيء من التصرف اليسير يقول الشيخ رحمه الله :

في زحمة الحياة ومعركة الخبز التي تسود الأرجاء وترهق الأعصاب.. وفي زحام الحياة والناس يلهثون وراء مآربهم القريبة والبعيدة.. كان هناك أشخاص آخرون يخلصون بأنفسهم بعيدا ً.. ويصغون إلى نداء آخر يجيء من وراء القرون.. ويتردد صداه على اختلاف الليل والنهار.. هو في نظر الشيخ نداء قديم جديد.

قديم لأن أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام أول من أعلنه، وصدع بأمر الله حين قال له: "وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ".. الحج: 27.

وجديد لأن خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) ندب إليه وقاد قوافله ووضع مناسكه وبين ما رصد الله له من جوائز وربط به من منافع.. وكان آخر عهده بالجماهير الحاشدة وهي تصيح إليه في حجة الوداع يزودهم بآخر وصاياه وأحفلها بالخير والبر.

فوفود الحج وهي تنطلق صوب البيت العتيق مخلفة وراءها مشاغل الدنيا، وهاتفة بأصواتها خاشعة: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك".. إن هذه الوفود تؤكد ما يجب على الناس جميعا لله سبحانه وتعالى من طاعة مطلقة، وانقياد تام، وذكر وشكر، وتوحيد وتمجيد.

فالمُلبِّي حين يرفع عقيرته مناجيا ً ربه ومصدقا ً أخاه.. ومقررا ً أشرف حقيقة في الوجود يتجاوب معه الملكوت الساجد طوعا ً وكرها ً.. أو يتجاوب معه الملكوت الذي يبارك رحلته ويحترم حجته.

فلا عجب أن يتجانس الكون المسبح بحمد الله مع إنسان انخلع عن نفسه.. وانطلق في سفر صالح يبتغي مرضاة الله.

وفي هذا يقول الرسول (صلى الله عليه وسلم) " ما من مسلم يلبي إلا لبى من عن يمينه أو عن شماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا وها هنا".

إنه هتاف ينفرد به أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) وحملة راية التوحيد.. أما غيرهم فهم بين معطل ومشرك.. وجاحد ومنحرف.. إن لهم هتافا ً آخر يمثل عبوديتهم للتراب ولما فوق التراب من دنايا وخزعبلات.

وإذا كان الحج طاعة مطلقة وانقيادا ًً تامًّا.. فليس معنى ذلك أن العقل ليس له مدخل في شعائره ومناسكه يتذوقها ويقف على الحِكَم المستفادة منها.

فكثير من الناس يظن أن أفعال الحج ومناسكه مبهمة وغامضة.. وأن الله جل شأنه اختبر الناس بما يعقلون فسمعوا وأطاعوا.. فاختبرهم بما لا يعقلون حتى يتبين له كيف يسمعون وكيف يطيعون.

ويؤكد الشيخ الغزالي أن هذا كلام بعيد عن الصحة.. إذ الواقع أن أعمال الحج لها حكم معقولة.. عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.

وينبغي أن تدرس هذه الحكم بأناة.. وأن تعرف حقائقها حتى يدرك الناس أن الإسلام ليس دين أوهام أو أضغاث أحلام.. هذا دينٌ كلُّ شيء فيه له حكمته وله معناه.

فالحج عبادة رقيقة محبوبة أساسها الوقوف بعرفة.. والطواف حول البيت.. وبعض شعائر أخرى يمكن استيعابها بيسر دون قلق أو حرج.

وعند التأمل في أصل المنسك وما يتركه في القلب من مشاعر.. وما يستودعه العقلَ من دلالات نقف على الحكم المتعددة التي تستفاد من كل منسك.

فالحج وفاء لنداء إبراهيم عليه السلام.. وتلبية لأوامر الله تعالى.. وتجرد وإخلاص لا شرك فيه.. إنهم يجيئون ليترجموا عن وفائهم ويقينهم.. ولتبقى دورات التاريخ متصلة المبنى والمعنى.. لا يمر عام إلا أقبلت الوفود من كل فج كأنها الحمائم تنطلق من أوكارها.. يحثها الشوق إلى مهاد التوحيد وحصنه" ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ" الحج: 32.

وليس للطائفين نجوى إلا مع الله وحده.. شغلهم الشاغل ترديد الباقيات الصالحات.. والتقدم بضعف العبيد إلى القوي الكبير أن يجيب سؤالهم ويحقق رجاءهم.. ماذا يقولون؟

سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ثم يدعون" رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (البقرة: 201 )

إن الوفود القادمة من القارات الخمس على اختلاف لغاتها وألوانها وأحوالها يجمعها شعور واحد.. وتنتظمها عاطفة دينية مشبوبة.. وهي تترجم عن ذات نفسها بتلبية تهز الأودية!

ويتحول ما أضمرته من إخلاص إلى هتاف بسم الله وحده.. لا ذكر هنا إلا لله.. ولا جؤار إلا باسمه!.. ولا تعظيم إلا له!.. ولا أمل إلا فيه!.. ولا تعويل إلا عليه.

إن المسافات تقاربت بل انعدمت.. بين ذكر لله يمر بالفؤاد كأنه خاطرة عابرة.. وبين ذكر لله يدوي كالرعد القاصف من أفواج تتدافع إلى غايتها لا تلوي على شيء.. ولا يعنيها إلا إعلان ولائها لله الذي جاءت لتزور بيته.

ولا يقال بحال من الأحوال إن بعض الطقوس والمناسك فيها نوع من الشرك أو الوثنية.. كالطواف بالبيت.. أو تقبيل الحجر.. أو غير ذلك لما تقدم

وهناك غاية عظمى أيضا ً لا يجوز إغفالها خاصة في هذا العصر الذي يوجب على المسلمين السعي نحو القوة والتوحد.. ألا وهو أنه يجب على المسلمين أن يستغلوا هذا المؤتمر العالمي غير المسبوق ولا الملحوق في معالجة ما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم.

إن الحج من الناحية الروحية إذكاء مشاعر.. وتجديد عاطفة.. ومن الناحية الاجتماعية فرصة ثمينة للتوجيهات الجامعة التي تكفل مصلحة المسلمين العليا.

واقتداء بما فعله الرسول وخلفاؤه لا يمكن إهمال الجانب السياسي من الحج أبدا ً إذ ما يصنع الحجيج بعدما يعودون إلى بلاد اعتدى عليها المجرمون واستباحوا حرماتها؟.. أو عندما يعودون إلى بلاد كثرت فيها الفتن وماج خلالها المستضعفون.

نعم.. لا يجوز أن تترك هذه الحشود الهائلة يوم الحج الأكبر دون توجيه جامع تلقى به خصومها.. صحيح أنهم في محاريب ذكر.. وساحات تسبيح وتحميد.. وأوقات تبتل إلى الله ونشدان لرضاه.. لكن من قال: إن كسر العدو ليس عبادة؟ والسهر على هزيمتهم ليس تهجدا؟

إن صيحة الله أكبر تُفتتح بها الصلاة لينأى بها المؤمنون عن مشاغل الدنيا.. ويفتتح بها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.. ولتجف دموع البائسين وآلام المستضعفين.

ومن هنا نفهم قول الله سبحانه للمحتشدين في عرفات، ولمن وراءهم من جماهير المؤمنين في كل مكان: "قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ . وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ". التوبة: 1415… فالحج عبادة تقيمها قلوب ساجدة وأيدٍ مجاهدة.

يا قومنا، إن الحج ليس لقاء أجساد، ولا شراء هدايا، ولا حمل ألقاب، اجعلوا الموسم الجامع فرصة إعداد، وموطن دراسة علية وعملية، ورسم خطة لإنقاذ أنفسكم من طوفان مقبل.

إن الحج ليس رحلة ميتة، إن ناسا يذهبون إلى الحج الآن ثم يعودون مكتفين بأن حملوا لقبا، هل درست قضاياهم؟ لا. هل عادوا من موسم الحج بتحالف على محاربة الفساد الداخلي والغزو الخارجي؟ لا. إن الحج ليس عبادة فردية، لا في ديننا ولا في تاريخنا. فيجب أن نعلم ديننا وكفانا جهلا حتى لا نستيقظ على الويل والثبور وعظائم الأمور.

وبهذا الفكر السامق والنظر العميق والتفكر الدقيق فهم شيخنا الراحل تغشاه الله بواسع رحمته هذه الفريضة العظيمة التي جعلها الله تعالى حماية للإسلام أن يندرس ووقاية للمسلمين أن ينتهوا ويتفتتوا، ومكانا يفيء إليه المسلمون، ويتلاقى فيه المؤمنون، ويعالج فيه المجاهدون مشكلات أمتهم، فيجدون علاجها من كتاب الله وسنة رسوله.