العلمانية ليست حلَّاً سحرياً لمجتمعاتنا3
بقلم/ أ. د/أ.د.أحمد محمد الدغشي
نشر منذ: 14 سنة و شهر و 7 أيام
الجمعة 08 أكتوبر-تشرين الأول 2010 04:53 م

تتلخص فكرة هذه الحوارية في تعقيب أحد الأصدقاء ويرمز له باسم ناصر على كاتب هذه السطور بعد حوار صحافي على صفحات (مأرب برس وصحيفة الناس) تناول جملة من قضايا الفكر والتربية و بعض إشكالات العمل الإسلامي، فكانت هذه المحاورة للصديق ناصر في سلسلة حلقات، متمركزة حول العلمانية وما إذا كانت مخرجاً لمجتمعاتنا أم كارثة جديدة!

تساؤلات مشروعة:

ولك الآن أن ترجع بفكرك بعيداً لهذه الممارسة التاريخية ذات الأهمية البالغة، كي تستنتج من خلالها أن لا مشكلة جوهرية بين الممارسة(الديموقراطية) التي أحبذ وصفها شخصياً بـ(الشوروية)، وبين ما تنادي به -كما آخرون- من ضرورة التفويض الشعبي...إلخ بيد أن ذلك لايؤذن باستعارة كاملة للنموذج الغربي(الديموقراطي)، إذا ما أدركنا حقيقة الذات قبل الانبهار بحقيقة الآخر. واسمح لي أن أصارحك القول - وأنت أخ سبَّاق إلى ذلك- : إن مشكلة المشكلات عندنا ضعف إدراكنا بحقيقة الذات من خلال معين القرآن الكريم وصحيح السنة المطهرة، قبل أي مصدر آخر. وأدرك أنك ستبادر إلى القول ولكن وفق فهم أي مدرسة أو مذهب، وهنا أرجو أن تصلك نسخة من دراسة سابقة لأخيك حول إشكال من يمثل الإسلام؟ تلك التي صدرت قبل أكثر من عامين عن مركز الناقد الثقافي بدمشق، مع جملة دراسات أخرى، بهذا العنوان.؟ واسمح لي فقط الآن أن أذكّر بجزئية منها فيما يتصّل بظاهرة المدارس المتعارضة، فهذه حقيقة ثابتة – أعني التعارض والاختلاف حتى في الأصول والكليّات- في كل الأديان والفلسفات والمدارس والأفكار والاتجاهات الدينية والسماوية، العلمانية والأرضية، المؤمنة والملحدة، غير أن ذلك لايؤذن لدى أيّ منها بضياع الحقيقة، أوبسلامتها جميعاً، من حيث السويّة في الفكر أو الاستقامة في المنهج، وإلا فأنت تعلم -قبل غيرك- أن الديمقراطية ألوان شتّى، وأن الاشتراكية كذلك مذاهب قِدداً، بل العلمانية – أيها العزيز- نماذج وصور فيها من التناقض والاحتراب أحياناً ما لايخفى على مثلك، فهل العلمانية الفرنسية كالبريطانية كالأمريكية – على سبيل المثال- ؟ بالقطع ليست كذلك؟ وها أنت ذا تدعو للأخذ بهذا النموذج فأي النماذج تعني؟ وهلاّ وقفت مع نفسك وقفة تساؤل علمية موضوعية صادقة- كعهدي بك- أيّ النماذج نأخذ؟ ومن الذي يمنح واحدة منها المشروعية ويحرم سواها؟وكيف سنواجه من سيعارض النموذج المختار من قبل فئة، نفذت إلى السلطة، بأي طريقة، مشروعة أو غير مشروعة، أو تمكنّت من إقناع صانع القرار بالعلمانية؟ على افتراض أن ذلك أمر ممكن الورود، ولن يواجَه من عموم المجتمع المتديّن، بانتفاضة أو ثورة شعبية شاملة؟ أرجو أن لا تقول لي فقط: مهما يكن الأمر فليس أحد يدّعي لأي منها قداسة السماء، بخلاف اختلاف (المتديّنين)، حيث يدّعي كل منهم وصايته على الدين باسم السماء. ولئن قلت لي ذلك أولم تقل فلا أستبعد أن يقول ذلك بعض من قد يطلّع على حوارنا، أو من يؤمن بالعلمانية كـحتمية (دوغماء) لاتقبل سوى الانصياع والإذعان. وحينها أجدني مضطرّاً لأن أسترسل فأذكّر بأن ليس لأحد أن يصف الفكر الإسلامي الوسطي{ وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً}(البقرة:143) بصفات التحدّث باسم السماء، أو أن يشبّهه بالحكم الديني الثيوقراطي الكهنوتي(الكنسي) الذي حدث في أوروبا على مدى قرون متطاولة، على يد رجال الديّن هنالك، ذلك أنه وإن وجد عندنا من قد يمارس مسلك (البابوات) و(رجال الدّين)؛ فإنّه يمثل وضع الشذوذ، وإلا لما كان لسان حال الأئمة العظام ومقالاتهم كالأئمة الأربعة وسواهم تؤكّد أن ليس للعالم أو المفتي أن يجزم بالحل والحرمة في كل مسألة تعرض له، وإنما يقدم رأيه وفهمه لا أكثر ولا أقل، ولولا خشية الإطالة لأوردت عليك بعضاً من ذلك، لكني جمعت بعض أقوالهم في هذا الباب في دراستي المشار إليها في كتاب( من يمثل الإسلام؟)، وحسبي في هذا السياق الإشارة إلى ذلك التوجيه النبوي العظيم الذي يخاطب فيه النبي – صلى الله عليه وآله وسلّم- قادته العسكريين – على سبيل المثال – بقوله: ( ........ وإنك إن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على رأيك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا )(مسلم، صحيح مسلم (بشرح النووي) ، كتاب الجهاد والسير، باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث ووصيته بآداب الغزو وغيرها عن بريدة بن الحصيب، د.ت ,د .ط , القاهرة المكتبة الأميرية ومطبعتها، جـ 12 ص39 – 40). فالاتجاه الغالب – أيها العزيز- في كل عصر هو اتجاه الوسطية الإسلامية، أي السواد الأعظم من المسلمين، من مختلف المذاهب والطوائف المعروفة بـ(أهل القبلة)، استناداً إلى الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن أنس بن مالك" من صلّى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم الذي له ذمّة الله ورسوله"، وهذا الاتجاه يبرأ في مجمله من ذلك المسلك (البابوي) الشائن، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فذلك الوصف ذاته أعني احتكار الحقيقة والتحدّث باسم المطلق والنهائي؛ ينطبق على الاتجاه العام لـ (العلمانية)، من حيث التطبيق والواقع، في الغالب الأعم، لا من حيث الشعار والإعلان، ولا يعنيني أكثر من الأول، ذلك أن الشعار مالم يجد له مصداقية مجسّدة لأحقيته كاتجاه عام أو غالب يظل شعاراً فارغ المحتوى والفاعلية. وكي لا نقع في ازدواجية المعايير فإنك إن قلت لي: الأخطاء في التطبيق لاتعني فساد النظرية ضرورة فسأجيبك لماذا تستقيم هذه القاعدة في اتجاه العلمانية ولاتستقيم في اتجاه الفكر الإسلامي، مع فارق جوهري لصالح الفكر الإسلامي يكمن في أنّه ظل فاعلاً مؤثّراً – بأقدار متفاوتة- طيلة أكثر من أربعة عشر قرناً على حين أن كل المقدّسات والأيديولوجيات (الوضعية) تلاشت في بضعة عقود، ولم يبق لها سوى نخب متناحرة غالباً، معزولة عن الفاعلية والتأثير المجتمعي، وما ظل منها حاكماً فقد نُسخت نظريته عملياُ، ولم يبق من جوهر الفكرة الأصلي سوى العنوان، أمّا تطبيقها فلايقارن بتطبيق النظرية السياسية الإسلامية، على مدى القرون السابقة، أيّاً ماشاب بعضها، من خلل أو انحراف، ولعلك تلاحظ معي أنّ كل الضربات التي وجّهت للإسلام؛ لم تقض عليه بل زادته قوّة إلى قوّته، إذ يخرج كل مرّة، أكثر قوّة وصلابة من السابق، كالذهب الذي لا تزيده قوّة الطرق إلا لمعاناً، ولك أن تلاحظ هذا في حجم التآمر على الإسلام في أيامنا داخلياً وخارجياً، مع ما يعلمه الجميع من الوضع البائس للمجتمعات الإسلامية، وذلك يؤكِّد أن قوّة الإسلام الذاتية المستمدة من قوة أساسه، وثراء ينبوعه هي المحكّ الفاصل بينه وبين كل الأيديولوجيات والمقدّسات البشرية؟!!!

مفارقة : المقدّس الديني أم العلماني؟

 * ما يوصف بالمقدّس(( Sacred الديني ليس المشكلة الكبرى حقيقة، بالقدر الذي يؤكّد أن إحلال العلمانية ليس الحلّ السحري لمجتمعاتنا. ومع التأكيد على أن الاستبداد والعسف والطغيان قد يرد تحت دثار الدِّين أو العلمانية؛ لكن المفارقة التي ينبغي أن لانمرّ عليها مرور الكرام تشير إلى أمر غاية في المفارقة، ذلك أن كل من أراد أن ينال من المقدّس إنما يشير إلى المقدّس الديني، دون غيره من مقدّسات العلمانية، على حين أن كل الشواهد تدلّ أن أبرز الطغاة الذين حكموا العالم المعاصر الشرقي والغربي أغلبهم إن لم يكن جميعهم ممن ينتمون إلى تيار العلمانية، وليس التيارات الدينية، وإذا كنتُ جريئاً فأذكر بعض رموز العلمانية الشيوعية السوفيتية أو الغربية أو الصينية أو سواها كاستالين ولينين وهتلر وموسوليني، أو ماوتسي تونج وحتى بوش الابن، وسواهم من مختلف القارات والبلدان، غير أني أصدقك القول: إني لا أجرؤ أن ألمِّح إلى بعض (المقدّسات) العربية العلمانية– كي لا أفقد بعض أصدقائي وربما بعض قرّائي- ذلك أن حجم الهالة وضخامة التقديس بل (إخلاص العبادة) على الطريقة العلمانية طبعاً، تلك التي صنعت حولهم هالة (الكهنة)، بحيث لا يسمح بانتقاد أو حتى إبداء ملاحظة لدى بعضهم، تحول دون ذلك التصريح، أو الجبن – إن شئت الدّقة- !! ورحم الله الراحل العزيز حميد شحرة الذي أشار في ذات مقال بمجلة نوافذ إلى أن كثرة الحديث عن المهدي المنتظر لابد له من مراجعة، إذ لا يعقل أن يظهر المهدي – وفق مذهب المؤمنين بقدومه- في عالم لايزال يقدّس أمثال الرمز فلان وفلان وهم على غير منهج المهدي قطعاً(وعدّد شخصيات مقدّسة عند اليمين واليسار)، فلم يغفر له بعضهم وجهة نظره، بل لقد قال لي رحمه الله في ثنايا استغرابي لسرّ ذلك الهجوم العنيف عليه: أتدري ممن أتى أقسى الردود؟ فسألته ممن ياتُرى؟وظننت أنّه سيشير إلى أحد المراهقين المتهوّرين، لكنه ذكر لي شخصية يسارية مسنّة نسبياً، يعلو سمتها الظاهري الوقار، واشتهرت منذ سنوات بالتنسّك والزهد، ذلك أن (حميداً) مسّ مقدّسه (الفرد)!! 

فبالله عليك – عزيزي ناصر- ما المقدّس في أعلى درجات الغلوّ إن لم يكن ذلك تقديساً للعباد، لكن تركيز بعضنا السلبي –للأسف- على المقدّس الديني وحده، أفقده التوازن، وراح يجري وراء سراب (مقدّس) لاشعوري هو العلمانية ؟!

 بتعبير آخر أليس مثيراً للعجب حقّاً أن يأتي من يعمل على إقناعنا اليوم بأن سبيل التحرّر من القمع وانتهاك الحقوق والحرّيات، وإخراجنا من دائرة الاستبداد والظلم والتخلّف إنما يكمن في إعلان موقف رافض للدين بمفهومه الحضاري الشامل، واستيراد (دين) بِدْعي غريب جديد على مجتمعاتنا–وإن لم يعترف بذلك أنصار العلمانية لكن العبرة بالتطبيق لها كمنهج حياة-.

يقول المفكّر المصري رفيق حبيب ( وهو من عائلة مسيحية شهيرة في مصر) :" والحق أن العلمانية ليست التعبير الدقيق فالفكرة والكلمة في القاموس الغربي هي الدنيوية في مقابل الدينية، وهي أيضاً غير المقدّس في مقابل المقدّس . ومن هذه الرؤية تم نزع الضمير عن العقل وأصبح الأخير مرجعه بيولوجياً ومادياً، لأن العقل هو أكثر جهاز بيولوجي متقدِّم ووظيفته أصبحت تحقيق الّلذة البيولوجية ، لذلك أصبحت المادة (تتقدّم) من خلال مرجعية مادية متحرّرة من كل قيد (معنوي)،غير مادي مفارق للمادة ومتجاوز للطبيعة.

ولنا أن نرى الصورة بأسلوب آخر فليس صحيحاً أن الحضارة الغربية بلا مقدّس، بل هي بلا ضمير مقدّس، فنزع القداسة عن الدِّين والضمير والأخلاق ، أو بمعنى آخر تنحية هذه التكوينات المعنوية كان – وما زال- يعني أنّ القداسة تمّ سحبها من مجال المثال المتجاوز للمادة إلى المادة نفسها، فالحاصل أنّ الّلذة أصبحت مفهوماً مقدّساً، وكذلك مجتمع الوفرة والرفاهية والاستهلاك ، وكل هذه المنظومة المادية . لذلك فالعقل الحرّ يمارس حرّيته من خلال اعترافه الضمني بقداسة الرؤية المادية ، فأصبح حرّاً من الضمير ، وأسيراً للرؤية المادية ، لذلك فإن أيّ تفكير ينزع القداسة عن المادة ، يعتبر تفكيراً ظلامياً وخارج العصر" ( رفيق حبيب، المقدّس والحرّية،ص 10- 11، 1418هـ- 1998م، الطبعة الأولى، القاهرة وبيروت: دار الشروق).

ويتابع:" بهذا المعنى نرى أن لكل حضارة مرجعية مقدّسة، لا يمكن المساس بها. وهذه المرجعية قد تكون مستمدة من الضمير والقيم والدّين، أي متجاوزة لعالم العمادة، وقد تكون ملتصقة بالمادة ونابعة منها. لهذا فروح العصر تقدّس المادة، عندما جعلت العقل مرجع نفسه، والإنسان مركز الكون، ثمّ تحولّت القداسة شيئاً فشيئاً فيما يسمّى بعد الحداثة. فأصبحت القداسة للمادة التي أصبحت مركز الكون. تلك الرؤيا السائدة لدى الحضارة الغربية، هي ما يتمّ زرعه في أوساط العرب والمسلمين، منذ قرنين من الزمان تقريباً. ومع نهاية القرن العشرين أصبحت هذه الرؤية سافرة على أمّة الوسط ، في محاولة لزرع قداسة العقل والإنسان والمادة، في مواجهة قداسة الأخلاق والقيم والدّين"( المرجع السابق، ص 11).

 ويوجز رفيق حبيب رأيه في هذا بقوله:" وحتى نحرّر المسألة؛ نؤكّد ما وصلنا إليه سابقا، من أن العلمانية هي نزع القداسة عن الدّين، أي عن المقدَّس، وجعل المادي والدنيوي وغير المقدّس مقدَّساً ضمنياً. وما أردنا تأكيده أن أيّ حضارة تبدأ ببديهيات لا تقبل الجدل ومسلّمات يفترض صحتها ولا يتم التشكيك فيها، وهذه النقاط المرجعية هي المقدّس، حتى وإن كانت أفكراً مادية وغير إنسانية. وبالتالي نتصوّر أنّ المقدّس ضرورة، لأنه الغاية النهائية الكامنة في أيّ رؤية ، والتي تحدّد تمسك الرؤية واستمرارها وقدرتها على إعادة إنتاج أفعالها ... من هنا نؤكِّد ضرورة المقدّس، وعليه يجب أن نحدّد موقفنا لابين الارتكان للمقدّس من عدمه بل بين أن يكون المقدّس هو الضمير أو يكون العقل الحرّ النفعي. فالتصوّر العلماني يفرض علينا مقدّسات، تحت شعارات تنادي بتحرير العقل من قيود المقدّسات.

وبالتالي فما نواجهه اليوم هو صراع بين مقدّس وآخر، أي بين قبول الرؤية المادية كمقدّس، أو إعادة إفعال مقدساتنا، والتي تنتمي للضمير والدّين والأخلاق . فالاختيار بين تقديس المادة، وتقديس المعنى. وفي النهاية فالقداسة ضرورة والاختيار بالتالي حتمي" ( المرجع نفسه، ص 12-13). 

وحاصل القول: إنّه إذا كان دين الإسلام يمنح كل من يعيش في كنف حضارته حرية فردية وجماعية قلّ نظيرها، بشهادة بعض رموز الديانة المسيحية ( راجع: القرضاوي: بيّنات الحل الإسلامي،ص 231- 247 )؛ فإن الدين الجديد (العلمانية) ليس بأكثر من قهر لأغلبية المجتمع، وإقصاء للمخالف من داخل الدائرة، وسقوط في شرك الازدواجية فجّة في المعايير، على حين يتم استعارة خرقاء لمقدّس الآخر المهيمن ونموذجه ومعاييره، كي تصبح وحدها المطلق والنهائي والقول الفصل !!

ألا ترى أن بعض العلمانيين يدّعي لعلمانيته أو اتجاهه الفكري أو الأيديولوجي (قداسة) من نوع ما قد تكون أبلغ من قداسة السماء، ولا تختلف في شيء عن قداسة غلاة المتدينين وتطرّفهم؟ وإلا ففسّر لي ظاهرة الاحتراب المسلّح بين الفئات العلمانية في أكثر من قطر، ولعلك تذكر – على سبيل المثال- أن الحركات القومية واليسارية في عالمنا العربي – على سبيل المثال- علمانية ( لا نزاع في ذلك)، وقد حدث بينها من الاقتتال تحت عناوينها (المقدّسة الخاصة)( القومية- العروبة - الوحدة- - الاشتراكية- الدفاع عن الطبقات الكادحة- العدالة الاجتماعية- الوطن- العروبة...إلخ) ضد قائمة الشرّ المطلقة ( الرجعية- الأصولية- القوى المتطرفة الإسلاموية- حركات الإسلام السياسي ...إلخ)، وفي سبيل القضاء عليها استباحت كل محرّم كتدنيس قداسة الدّين، أو انتهاك العرض والشرف والكرامة، أو التفريط بالسيادة، والتبعية لهذه القوة المهيمنة أو تلك، وهل الصراع الداخلي الشهير يبن جناحي حزب البعث في العراق وسوريا طيلة العقود الماضية، أو صراع المجموعات الماركسية المسلّحة التي كانت تحكم جنوب اليمن، وما عرف بمحرقة 13 يناير عام 1986م، إلى حدّ أن بلغت درجة التصفية على الهويّة – على سبيل المثال-، عدا الصراع الشهير بين البعثيين والشيوعيين في العراق أو سوريا أو مصر، إلا أمثلة محدودة من أمثلة عدّة، لكن كأني بآخرين ممن يشايعون مقولة (الحلّ العلماني) سيقولون: سلّمنا بأن البلاد ذات الأغلبية المسلمة المتجانسة لاتستدعي العلمانية فكيف بالبلدان ذات الإثنيات والطوائف الدينية والعرقية المختلفة الكبرى كلبنان أو العراق، أو حتى الهند أو نحوها، هل يمكن النزاع بأن العلمانية هي الدواء الناجع والحل الحتمي في مجتمعات مختلفة كهذه؟! وأجدني من منطلق العقل والشرع والواقع أنازع في ذلك جدّا، بل أرى أن ذلك إنما يؤيّد وجهة النظر الأخرى القائلة إن العلمانية في المجتمعات الإسلامية كارثة مجتمعية محقّقة، وفي غير الإسلامية لا تمثّل حلّاً كاملاً، بدليل جملة من الوقائع التي أكّدت ذلك، وسأشير إلى طرف يسير منها لاحقاً، ولكن قبل ذلك دعنا نناقش النموذج العلماني الفاقد لروحه التي يزعم أنها سرّ بقائه وتفوّقه وهي (الديمقراطية)، على حين أنه لايعلن اعترافه بخطيئة دعواه، حين يجد نقيض ذلك على الأرض، في غير ما تجربة، بل يمضي ليقدّم تبريرات (متهافتة)، تشعرك بأن العقل والأخلاق معاً غير معتبرين في مقاييس النماذج العلمانية، بل المصالح وحدها، حتى لو كانت ظالمة فاشية قاتلة للديمقراطية (المفترى عليها)، وذلك هو الانعكاس العملي للفلسفة التربوية البراجماتية في أبشع صورها، وهو ما سأناقشه –معك- في الحلقة القادمة بإذن الله- ! .

أستاذ أصول التربية وفلسفتها - كلية التربية – جامعة صنعاء

addaghashi@yemen.net.ye

المصدر: صحيفة الناس