بعيداً عن السياسة !
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 8 سنوات و 5 أشهر و 14 يوماً
الثلاثاء 31 مايو 2016 04:54 م
 قلت لنفسي ذات ليلة: لا تفتح هذه العلبة السحرية التي ما إن تفتحها حتى تتدلى منها الجثث والدم ورائحة الموت، يجب أن تـُحرم النظر إلى الشاشة الفضية وصفحات الأخبار والأعمدة المكتوبة في صحف الصباح.
 دعك من أخبار العراق وفلسطين، ولا تدخل القرن الإفريقي وسواحل الصومال المليئة بأسماك القرش وقراصنة البحار، فرَّ من أخبار أفغانستان وباكستان وإيران فرارك من الأسد. دعك من وجع الحوثيين وأخبار الوطن، لا تنشغل كثيراً بالأزمة الاقتصادية العالمية واتركها لأوباما وبراون، لا تتدخل في المال والأعمال وهي لا تعنيك.
 لا تعنيك كذلك أخبار الخلافات العربية العربية والقمة العربية والمصالحة العربية. كف عن قراءة مقالات كتاب الأعمدة في الصحافة العربية، ومتابعة تحليلات بعض الذين يظهرون على الشاشة بأسماء مختلفة مثل: خبير في الشؤون السياسية أو خبير في شؤون القرن الافريقي، أو رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية وغيرها من الالقاب و الخبراء في الهم والنكد، هؤلاء لن ينفعوك عندما تصاب لا سمح الله بالضغط والسكري وأمراض القولون، يكفيك ما تعاني من برد وغربة، أنت رب إبلك وللبيت رب يحميه.
تركت التلفزيون جانباً واستدرت إلى مكتبة صغيرة في غرفتي وألقيت نظرة على عناوين بعض الكتب القديمة والحديثة: البيان والتبيين، نهج البلاغة، ديوان المتنبي وعناوين أخرى لشوقي والماغوط ونيرودا والطيب صالح وماركيز وكويلو، إلى آخر هذه القائمة التي وجدتني أمد يدي من بينها على البيان والتبيين لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ. قلت لنفسي: أبو عثمان على دمامته وجحوظ عينيه أخف على قلبي من مذيعات نشرات الأخبار في التلفزيونات العربية على الرغم من أناقتهن المفرطة. وقعت عيني في الفهارس على "باب في ذكر المعلمين".
 قلت في نفسي سأقرأ هذا الباب فأنا قد بدأت حياتي العملية بعمل في التربية والتعليم في اليمن السعيد. فتحت الصفحة الأولى فوجدت الباب يبدأ بالعبارة التالية: "ومن أمثالهم: أحمق من معلم كُتَّاب". قلت في نفسي: طالع سيء وبداية غير مشجعة، ولكنني واصلت قراءة الجاحظ وهو يقول: "وقد ذكرهم (أي المعلمين) صقلاب فقال: وكيف يُرَجَّى الرأيُ والعقلُ عند من يروحُ على أنثى ويغدو على طفلِ قلت: "ثكلتك أمك يا ابن بحر" لا طاقة لك بمواجهة احتجاجات نقابات المعلمين، فكيف تفتح على نفسك جبهات أخرى مع جمعيات حقوق المرأة والطفل وباقي جمعيات حقوق الإنسان.
 ثم واصلت أقوال إبي عثمان: " وفي قول بعض الحكماء: لا تستشيروا معلماً ولا راعي غنم" وعلى مضض بلعتها، لأني مارست المهنتين، وقلت لا بد من المواصلة فقرأت: "وقد سمعنا قول بعضهم يقول: الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين" امتعظت بالطبع ولكنني قلت في نفسي: أنا رجل أعيش في الغرب ولا بد أن أكون ديمقراطياً، أقبل بالرأي الآخر، ومثل أبي عثمان " من عملـْها ومثلي من حملـْها"، واصل يا ابن بحر الله لا يهينك.
وواصل وأظنه قال فيما أذكر: "ولا يؤخذ بشهادة معلم الصبيان في القضاء". صدمتني العبارة الأخيرة كثيراً وغابت معها كل الأدبيات التي لقنتني إياها نقابات المعلمين عن دور المعلم في حياة الأمم والشعوب، وغابت معها أيضاً رائعة شوقي التي مطلعها: قم للمعلم وفه التبجيلا كاد المعلم أن يكون رسولا غابت كلها إلا بيتاً واحداً منها يقول: وإذا المعلم ساء لحظَ بصيرةٍ جاءت على يده البصائر حولا أسقط في يدي.
 بعد أن رأيت أن الجاحظ ربما كان محقاً إلى حد كبير، ولكن نفسي أبت إلا أن تتساءل: ألم يكن الأنبياء معلمين؟ والفلاسفة و أئمة المذاهب وسيبويه والخليل، ألا يؤخذ بشهادة سقراط وأفلاطون وابن رشد وكنت و نيتشة ؟وماذا عن أساتذة الجامعات والمعاهد العليا، هل ينالهم نصيب مما اكتسبوا؟ ألقيت نظرة عتاب على الصديق العزيز أبي عثمان، وكأنه قد فهم معنى نظراتي، فاردف قائلاً: فما رأيك بالمعلم الذي وقف يقول لتلاميذه "إن الفـُرس كانوا في الزمن السحيق إذا ألمت بهم ملمة من الدهر أمر كسرى أن يُؤَذَّن: الصلاة جامعة"؟ عندها لم أتمالك نفسي، فضحكت ضحكاً مجلجلاً، شعرت بعدها أن الجاحظ كان يلاحظني من خلال صفحات الكتاب، قائلاً: مه! هل أدركك الآن حمق المعلمين؟ لا عجب فإن صاحبكم سيبويه قد التاث عقله على أخرة من أيامه، فكان إذا سمع الغراب ينعق: غاقْ، غاقْ. جرى وراءه صارخاً به: قل: غاقٌ يا غراب. لأن الكلمة مبتدأ مرفوع. افقت على وقع العبارة الاخيرة واعتراني الغضب لشيخ النحاة، وعزمت على معاقبة أبي عثمان، وألقيت بنسخة البيان والتبيين من يدي واتجهت إلى الشاشة الفضية وأدرت الزر، وانفتحت الشاشة على مذيعة بالغة الاناقة، تقول: "عشرات القتلى والجرحى في هجومين منفصلين في بغداد والموصل". غاص قلبي في ضلوعي، صفعت المذيعة الحسناء وأطفأت الجهاز على وقع ضحكة مجلجلة من أبي عثمان وهو يردد : "لا تستشيروا معلماً ولا راعي غنم