تبادل عسكريون سعوديون النظر، وفتح رجل قصير فمَه. كانت الساعة تقترب من الخامسة والنصف مساء، والحرارة في الخارج قد هبطت على نحو ملحوظ. “احسب الكشفين يا بو زاهر”، وهز أبو زاهر كتفيه بلا مبالاة. صباح اليوم التالي استدعى مسؤولون سعوديون جنرالاً يمنيٌاً رفيعاً يرمز إليه بالحرف “م.ق.د.ش.ي”. وقف الجنرال أمامهم في غرفة واسعة ومؤثثة على نحو إمبراطوري. اتخذ له مقعداً.
“إحم” غمغم ضابط رفيع ببذلة عسكرية داكنة، ومسح على أرنبة أنفه. “حصلنا على كشفين، واحد من الشدادي والآخر من الحليلي. إجمالي عدد الجنود ٤٦ ألف، وهم يطالبون برواتب لهذا العدد من الجنود. لا مانع لدى المملكة، كما تعلم. لكن ذلك سيعني أنه لم تعد ثمة حاجة لتجنيد أفراد جدد. ونحن ننتظر أن يحسم هذا الجيش الضخم الأمور بسرعة”. مساء ذلك اليوم كان الجنرال م.ق.د.ش.ي. يجري اتصالاً مع رجل في مأرب، وقال غاضباً “أنت لديك عدد ٧٠٠ فرد فقط، ولدى الحليلي ٢٠٠٠. وهذا كل ما لدينا. نحن في ورطة الآن”. وسمع الرجل الآخر يردد “والله ورطة، يا فندم. كلمت الحليلي؟”. ورد عليه الجنرال م.ق.د.ش.ي “نعم، الحليلي يجيد لعبته. أخبرهم صراحة إنه لن يتسلم سوى المبلغ الذي طلبه، رواتب ٢٥ ألفاً. ما لم فسيعود إلى بيته ويترك حضرموت للقاعدة. اعتقد أنهم سيرضخون له”.
بدا الجنرال م.ق.د.ش.ي مرتبكاً ومكروباً. ضربتان متلاحقتان في وقت قصير، هذا أكثر من قدرته على الاحتمال. فقد استدعاه عسكريون سعوديون قبل ذلك بأقل من أسبوع واعتذروا له عن صراحتهم مقدماً. سألوه عن ال “عشرة ملايين دولار” فقال إنها لا تكفي لتشكيل كتيبة صغيرة. ورد عليه ضابط سعودي خجول، ذو زبيبة صغيرة في الجبين، بالقول “حتى قرية صغيرة. حرر بالعشرة ملايين حتى قرية”. وراح الجنرال م.ق.د.ش.ي يغمغم، ويقول كلاماً غير مفهوم.
تناهت الحادثتان إلى سمع فيللا الرئيس هادي وفريقه. قال هادي لسياسي جنوبي ذي صلعة ويتجاوز السبعين من العمر “كنت أعلم أنه من رجال علي محسن، لكنه في الآونة الأخيرة كان يشتم علي محسن أمامي بصورة متكررة. لقد ضحك علي كما فعل اللواء محمد الحاوري. كان يشتم عفاش فعينته قائداً للمنطقة السادسة”. عاتبه السياسي الجنوبي قائلاً إنه لا يمكن الركون للشماليين. إلى جوار الرجلين كان هنالك سياسي شاب مقرب من هادي. استعمل كلمات مرتبة وهادئة وذهب يشرح ما أسماه “المأزق”:
الرئيس جنوبي، نائب الرئيس جنوبي، رئيس الوزراء جنوبي، وزير الخارجية جنوبي، وزير الدفاع جنوبي. كنا مضطريين لتعيين شمالي في منصب رئيس الأركان”. هز الكهل السياسي الحليق رأسه محاولاً مقاطعة الشاب “معروف، معروف. هو رئيس أركان مأرب، الجنوب يدير نفسه بنفسه” وضحك الرئيس هادي. علق السياسي الشاب وهو يحني ظهره ويضع كفاً على ركبته اليمنى “الرئيس أعجبته كلمة رئيس أركان مأرب” وضحكوا هذه المرة جميعاً. كان ذلك السياسي الشاب الشخص الوحيد الذي يتمتع بشاربٍ بينهم الثلاثة.
في الأيام الموازية ذهب سياسي يمني يطلب لقاء مسؤول سعودي رفيع. كان ملحاحاً فحصل على موعد قريب. استمع المسؤول السعودي للسياسي اليمني، وسرعان ما وضع يده على جبينه. “أنت متأكد من هذه المعلومات” تساءل، فرد عليه السياسي اليمني “نعم، كل التأكيد. حصلت عليها من مسؤول أميركي قبل أيام. هل فهمت لماذا قال عفاش إن هادي سيهرب من الرياض؟”
وراح يقص:
“لماذا يبدو هادي متشثباً بالسلطة، بكل السلطة” سألني المسؤول الأميركي، وبدا سؤاله غريباً بعض الشيء. أضاف المسؤول اليمني: قلتُ له هات ما عندك فأخبرني بقصة نادرة إلى حد ما. قال إن هادي طلب لجوءًا إلى أميركا عقب وصوله إلى عُمان. ماطل الأميركيون ولم يمكث الرجل في عمان سوى ساعات. وعندما وصل إلى السعودية طلب فيزا إلى أميركا، عبر وسطاء، فماطل الأميركيون. وفي عدن، عقب هروبه من صنعاء، ألح كثيراً بطلب الفيزا وأبلغ الأميريكيين رغبته في الخلود إلى الراحة لكن الأحداث كانت أسرع من ترتيباته. إنه يشعر بأنه أسير في السعودية ولا تبدو الأحداث في اليمن تعنيه إلى حد كبير.
لقد انتهى كل شيء بالنسبة لهادي، وهو يريد الفرار. هذا كل ما يفكر به حالياً. وإذ لم ينجح في العبور إلى ميركا فقد أرسل مساعده الشاب إلى هناك. قد يفاجئ الجميع، وعلى الأخص السعوديين”.
استمع المسؤول السعودي إلى تلك الحكاية بعناية فائقة وأسقط في يده. “يا له من فخ” همهم، وألقى بظهره على كرسيه الدوار، وتشاغل السياسي اليمني بشرب الماء.
غادر السياسي اليمني المكان وتلقى اتصالاً. على الطرف الآخر ذهب رجل يرغي عن ما أسماه “رحلة القبائل” إلى الرياض. كان يضرب له مثالاً “تخيل أن السعودية كانت منكوبة، وتدخلت اليمن لإنقاذها، ولكن السعوديين في صنعاء عملوا كمرتزقة ولم يستطيعوا أن يحركوا قرية واحدة، كيف ستشعر أنت؟” كان الرجل قد سمع هذه المقاربات على نحو متكرر في الأيام الفائتة الأمر الذي دفعه إلى مقاطعة رفيقه، وهو شيخ لا نعرف على وجه الدقة إلى أي منطقة ينتمي. “ما الجديد الآن؟” سأله، فرد الرجل الآخر: السعوديون صاروا يحتقروننا ولولا سمعتهم أمام العالم لطردونا في طائرات شحن كما يفعلون مع المجهولين. نحن لا نستحق الاحترام”. وقال له السياسي الخارج للتو من لقاء خاص: ناهي، اللي فيني مكفيني.
كل الأوراق مكشوفة في الرياض. يعرف هادي ما الذي يجري في الخارج، ويعرف الآخرون ما يجري في فيللا هادي. اقترح سياسي جنوبي أقرَع على هادي: لنوزع الأدوار، على الجنوبيين أن يوزعوا الأدوار فيما بينهم، البعض ينادي بالوحدة، والبعض بالاستقلال، والبعض بالفيدرالية. عندما سمع الشاب القريب من هادي، يرمز إليه بالأحر “ب.ن.م.ب.ا.ر.ك” الفكرة في غياب صاحبها وصف الفكرة بالغباء وقال لهادي “دع الأمر لي”. ما إن سمع هادي فكرة الشاب حتى ابتسم وقال مازحاً “وعادهم يلوموني ليش أثق فيك”. تنفس هادي بعمق وسمح لعظام صدره أن تتحرك إلى الأمام قليلاً، وبدا له كل شيء على ما يُرام. كل شيء.
في أول لقاء، ربما جرى عن طريق الصدفة، للمُساعد الشاب مع مجموعة من السياسيين اليمنيين قال لهم “الحقوا هادي، قده أكبر انفصالي”. ولم تكن تلك الكلمة لتمر بهدوء. بعد أقل من ٧٢ ساعة قال هادي لمساعده الشاب “فكرتك ذكية، قدهم كلهم ما ذلحين يتصلوا بي ويجاملوني ويقولوا لي فخامة الرئيس من جديد” وضحك الرجلان، وانفرد الرئيس بجملة من تلك الكلمات التي لا تنشرها الصحف. استطاع الشاب ابتزاز ساسة الرياض، وكانت مناورة مفاجئة أكسبت هادي بعض الوقت.
يعيش هادي حالياً كرئيس للجالية اليمنية في السعودية. تبدو أخبار المقاومة الشعبية في اليمن بالنسبة لهادي كما لو أنها تجري في بلد يقع بالجوار. لم يصدر من كتبه حتى الآن بيان واحد، أو بضعة كلمات، عن المقاومة الشعبية. لم يقل حتى "نحن معكم" أو: تماسكوا. كمشجع مراهق يتمنى أن ينتهي به العمر قبل أن يرى فريق خصمه يكسب جولة. وبالنسبة لهادي فكل الذين يقفون إلى جواره خصوم. قسم المقاومة الشعبية على كل اليمن إلى "فرق خصوم".
وفي مرة ألمح أمامه أحد الرجال بجملة خطيرة اهتزت لها ركبتا الرئيس الكهل. بصوت واطئ ذكره أحد رجاله بتلك الأيام. "هل تتذكر كيف كان أحمد علي يعطي الطيران السعودي إحداثيات الحوثيين، وبين كل قائمة أهداف حوثية كان يدس هدفاً يخص علي محسن الأحمر". ابتلع هادي ريقه وشرد قليلاً، ثم قال لنفسه "كم هي الرياض كبيرة وواسعة". وحاول أن يبعد نفسه عن تلك الفكرة الخطيرة، وراح يتخيل صحراء الرياض التي قامت عليها كل تلك الدنيا الساحرة.
خارج قصر هادي انقسم اليمنيون السعاودة إلى جزر، وكانتونات. تنحى الجنرال علي محسن بجماعته، وانفصل هادي بجماعته. وبين الجماعتين الكبيرتين يراوح الساسة والعسكريون اليمنيون كخراف بني إسرائيل الضالة. كل الجسور بين الجماعات هشة، ومبنية من الكلمات الفارغة. استطاعت مجموعة أن تظفر بهادي، وعزلته ليس عن الآخرين بل عن البلد كلياً. لم يخرج إلى الناس بخطاب، ولم يقل شيئاً.
استطاع أن يتخلص من الأقوياء، وأن يمنع ظهورهم حوله. هادي يرى أن الطريقة الوحيدة للعمل هي أن يكون محاطاً بالمحتاجين، والخائفين. أبلغ محمد مارم، مدير مكتبه الأخير، بأنه من الأفضل أن يبقى في عدن. وما إن التقى هادي بالشاب الذي رمزنا إليه بالأحرف "ب.ن.م.ب.ا.ر.ك" حتى صارت الرئاسة في حوزة الأخير من جديد. لكن الترتيبات تغيرت، فجاء الرجل بشقيقه، مغترب في السعودية، وسلمه شؤون رئيس الجمهورية وتفرغ هو للعب دور وزير الخارجية. لقد صارت شؤون الرئاسة بين يدي مغترب في السعودية، حصل عليها من شقيقه. وشقيقه لم يعد ذلك المنصب يغويه. فهو رجل "ذو نفس تواقة".
وزير الخارجية ياسين رجل طيب، يشعر بآلام مدينته ولا يتخيل ما الذي يجري في العالم. سبق أن نصحه مسؤول قطري "اسكت، اسكت، هذه نصيحتي لك. أنت تعمل كمراسل تلفزيوني. وزير الخارجية أقل الناس كلاماً". وتألم رياض وسالت حبة عرق على فقراته كلها. ونهره مسؤول سعودي عندما جلس ياسين إليه وطلب منه تمرير فكرة استفتاء على استقلال الجنوب. قال المسؤول السعودي وهو يحاول أن يستوعب ما سمعه:
" أين هو الجنوب الآن، أي جنوب تقصد، الحوثي وصالح يحرقون الجنوب، أي استفتاء تقصد الآن. نحن نواجههم بغطاء أممي تحت لافتة الحفاظ على على وحدة اليمن واستقلاله. أتعلم ما معنى كلامك؟ أن ننسحب نحن ونترككم في مواجهة الحوثيين وإيران وصالح. أنت وفريقك تحاولون تجريدنا من الغطاء الشرعي الوحيد".
وعاد ياسين منكسراً. استغل هادي الموقف وراح يطعن في رجله أمام مجموعة أكثر قرباً "أنا ما أحبش رياض ياسين، هذا مفروض علي من السعودية لأنه من جماعة صاحبهم عبد الله الأصنج، وأنا متحمله بضغط سعودي".
ولكن لماذا فعل هادي ذلك؟ حتى بوزير خارجيته؟ لا يدري أحد. حتى هادي ربما لا يدري.
وتلك حكاية أخرى..