في ضرورة حفظ شرف الجامعة واستقلالها
بقلم/ د. سامي أمين عطا
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و يوم واحد
الأحد 07 أغسطس-آب 2011 09:43 م

تنويه: نشر هذا المقال سابقًا في صحيفتي «النداء» و«التجمع» اليمنيتين, مايو2010م. يعيد «مأرب برس» نشره.

***

كل أنظمة الاستبداد والطغيان تتشابه. إذ تنبع من أرومة واحدة (السقاف). وما من نظام اتسم بتدمير قيم المجتمع النبيلة واستبدلها بقيم التفسخ والرذائل إلاّ ويمكن وسمه بنظام استبدادي.

في عهد النظام الفاشي الإيطالي مثلاً عندما حاول نظام موسوليني السيطرة على الجامعات وتوجيهها وفقاً لقيمه لم يقف ضد هذه المساعي من بين 1200 أستاذ سوى 12 أستاذًا. يقول المفكر الإيطالي أمبرتوأيكو «صحيح أنهم فقدوا وظائفهم, لكنهم حفظوا شرف الجامعة وقيمها حتى الآن».

كما وقف الفيلسوف الأسباني ميغال دو أونامونو رئيس جامعة سلمنقة ـ أعرق الجامعات الأسبانية ـ ضد السلطة الفاشية بقيادة فرانكو. ففي خطابه الشهير في مدرج جامعة سلمنقة بمناسبة إحياء (عيد العرق) يوم 12 أكتوبر عام 1936 الذي قال فيه: «تتطلعون جميعاً إلى ما سأقوله, وأنتم تعرفونني وتعلمون أنني غير قادر على التزام الصمت. خلال ثلاث وسبعين عاماً من الحياة لم أتعلم الصمت, واليوم لا أريد تعلمه. الصمت أحيانًا يعادل الكذب؛ لأن الصمت في بعض الأحيان علامة رضا. وأنا لا أستطيع البقاء مع وجود تعارض بين قولي وضميري اللذين كانا دائماً في تعايش رائع.

سوف أوجز الكلام, والحقيقة تكون أكثر صدقًا عندما تظهر من دون تجميل وإسهاب مخل. أود التعليق على الخطاب الذي ألقاه الجنرال ميلان أستري ـ أحد جنرالات الطغمة الفاشية الحاكمة بقيادة فرانكوـ الموجود بيننا, وسأتجاهل الإهانات الشخصية عبر هجمة القدح في الباسك والكتالون.

لقد وُلِدتُ في مدينة بيلباو في ظل الحرب الكارلية الثانية, وفي وقت لاحق تعلقت بهذه المدينة سلمنقة, التي أحببتها كثيراً من دون أن أنسى مسقط رأسي. والأسقف ـ أحب ذلك أم كره ـ ولد في برشلونة, فهو كتالوني.

ورد كلام عن حرب عالمية دفاعًا عن الحضارة المسيحية. لقد استخدمتُ قبل ذلك مثل هذه اللغة. لكن حربنا اليوم غير حضارية. الانتصار لا يعني الإقناع مع أن الأمر يتمثل فيه أولاً, كما أن الكراهية التي لا تترك مجالًا للرحمة تعجز عن تحقيقه.

كما ورد حديث أيضًا عن الباسك والكتالون ووُصفوا بالمعادين لأسبانيا, ويمكنهم لعدة أسباب أن يقولوا الشيء نفسه عنا نحن. وأمامنا مولانا الأسقف, الكنالوني الأصل, الذي يعلمكم العقيدة المسيحية التي تُصرُّون على تجاهلها. وأنا من أصل باسك, وقضيت عمري أعلمكم اللغة الأسبانية التي تجهلونها».

مقاطعة أولى: نداءات في القاعة من طرف أنصار الجنرال ميلان أستري: يحيا الموت.

يواصل أونومانو الخطاب:

«سمعت الآن صرخة أكَلَة الجيف: (يحيا الموت), التي ترنّ في أذنيّ كالقول: (الموت للحياة). وأنا الذي قضى حياته في نحت المفارقات التي تغضب كل الذين لا يفهمونها. سأقول لكم بكل ما أمثِّله من مرجعية في هذا الشأن: إنني أجد هذه المفارقة سخيفة. وبما أنها موجّهه إلى آخر الخطباء لتكريمه, فسأعدّ أن هذه المفارقة فعلًا موجهة إليه (أي: الجنرال ميلان أستري). صحيح أن ذلك يتم بطريقة ملتوية وغير مباشرة؛ مما يشهد أنه هو في حد ذاته رمز للموت.

ثمة أمر آخر, هو أن الجنرال ميلان أستري مُعاق, ولا داعي لقول ذلك بصوت منخفض. إنه مُعاق حرب, وكانت هذه حال سيرفانتس* أيضا, إلا أن الشواذ لا يشكلون القاعدة. يوجد اليوم كثير من المٌعاقين, وللأسف سيتكاثرون إن لم يرحمنا الله. وإنني أتألم لأن الجنرال ميلان أستري قد يضع قواعد سيكولوجية الجماهير؛ فمٌعاق دون العظمة الروحية لسيرفانتس الذي كان رجلًا ـ وليس سوبر رجل ـ فحلًا, وكاملًا على الرغم من عاهته. لكن المٌعاق الذي لا يتمتع بالتفوق الفكري لسيرفانتس قد يبحث عن سعادته في تزايد عدد المٌعاقين من حوله. لا يعد الجنرال ميلان أستري من بين العقول المستنيرة مع عدم شعبيته, أو بالأحرى بسبب عدم شعبيته. ويريد الجنرال ميلا أستري جعل أسبانيا الجديدة على شاكلته؛ لذلك يريدها معاقة, وهذا ما يشير إليه من دون وعي».

مقاطعة ثانية: نداءات في القاعة من طرف أتباع الجنرال ميلان أستري: يسقط المثقفون, الموت للخونة.

ويواصل أنامونو خطابه:

«هذه الجامعة هي هيكل الثقافة, أنا كاهنه الأكبر. إنكم أنتم الذين تُدنِّسون هذا الحَرَم المٌقدس. وعلى الرغم مما يقوله المثل (أنا نبيّ بلدي), أقول: ستنتصرون, لكنكم لا تُقنعون. ستنتصرون لأنكم تملكون كتلةً هائلةً من القوّة الغاشمة, لكن لن تتمكّنوا من الإقناع؛ لأنه يعني امتلاك القدرة على تحقيقه, وهذا بدوره يتطلب منكم ما لا تمتلكون: الحجة والحق بالنسبة إلى معركتكم. ويبدو لي أنه من العبث حثّكم على التفكير في أسبانيا. قلت ما سمعتم»**.

وبعد هذا الخطاب أُقيل أونامونو من منصبه ومات بعد أشهر من ذلك الحدث, لكن موقفه ظل محفورًا في الذاكرة الجمعية لأسبانيا.

___________________

*ميغال دو سيرفانتس (1547 - 1616م) أديب اسباني شهير ومؤلف رواية «دونكشوت», أصيب في معركة «ليبناتو» الشهيرة ضد الأتراك عام 1571.

** عن محمد السبيطلي, مجلة الفيصل الثقافية, عدد يناير - فبراير2010.