لاقتصاد العادل
بقلم/ أ.د سيف العسلي
نشر منذ: 15 سنة و شهرين و يوم واحد
الأحد 13 سبتمبر-أيلول 2009 03:55 ص

يمكن القول بأن هناك اقتصاداً عادلاً -اي اكثر عدالة.. واقتصاد غير عادل- أي اقل عدالة. فالاقتصاد يشير الى التعامل مع الثروة و المال و السلع و الخدمات التي تشبع الحاجات الإنسانية بمختلف أنواعها و أشكالها. و من مسلمات علم الاقتصاد ان الموارد المتاحة لإشباع هذه الحاجات محدودة مما يتطلب اتخاذ قرارات اقتصادية و التي تتمثل في تحديد الحاجات التي لها أولوية في الإشباع و تلك التي ليس لها أولوية في ذلك.. لا شك بأن اتخاذ مثل هذه القرارات هو الذي جعل أهمية للمال و للثروة. فحجمهما يحدد حجم و نوعية السلع التي سيتم إنتاجها لأن المجتمع قد اعطاها أولوية في الوقت الحاضر. وكذلك فإن حجم المتوقع منهما في المستقبل سيحدد حجم و نوعية السلع التي تم تأجيل انتاجها الى المستقبل.

و مما يجعل تحديد الأوليات على هذا النحو -عملية مهمة و معقدة في نفس الوقت- هو تعدد الأفراد في كل مجتمع من المجتمعات وتنوع رغباتهم و تفضيلاتهم. و لذلك فإن عملية التنسيق بين هذه الأوليات و الرغبات وبالتالي تحويلها الى قرارات و انجازات على ارض الواقع أمر في غاية الأهمية والتعقيد والصعوبة. وتكمن الصعوبة هنا في إعطاء أوزان مناسبة لكل منها و خصوصاً عند تحديد المعايير المقبولة من جميع الافراد او على الاقل من غالبيتهم.

و تتضح اهمية ذلك من حقيقة ان ذلك يؤثر على تحديد أوليات الإنتاج -أي تحديد حجم و نوع السلع و الخدمات التي ينبغي إنتاجها من خلال توجيه عناصر الإنتاج المتاحة إليها. وكذلك تحديد من سيستهلكها. وينبغي هنا ان نشير الى حقيقة ان العمليتين متقاربتان لكنهما لا تتطابقان في غالب الأحوال. فهناك تمايز بينهما من الناحيتين العملية و الزمنية وخصوصا في الاقتصاديات الحديثة.

و الدليل على ذلك تعدد القضايا الاقتصادية مثل قضايا الإنتاج و الاستهلاك و الادخار و الاستثمار و الدخل و الانفاق و الأسعار و النقود و البنوك و أسعار صرف العملات و التجارة و غير ذلك من القضايا الاخرى.

و على الرغم من قيام عدد من المؤسسات للتعامل مع هذه القضايا و لعل من أهمها الأسرة و المؤسسات الاقتصادية و الدولة فإنه لا يزال تباين في التصورات حول الوضع الامثل للتعامل معها. و لذلك فإن المجتمعات الحديثة تتباين من حيث القضايا التي تخصص فيها بعض هذه المؤسسات و من حيث القضايا الاقتصادية المشتركة فيما بينها.

ولقد ترتب على ذلك ان أصبحت عملية التعامل مع الموارد المحدودة و الحاجات غير المحدودة عملية اكثر تعقيداً في العصر الحاضر. و على الرغم من التقدم الكبير الذي حققه الإنسان في عملية إنتاج السلع و الخدمات و في أنظمة توزيعها فإنه لا زال هناك العديد من القضايا التي لم تحسم بعد و بالتالي تعدد تجارب الدول و المجتمعات في ذلك.

لقد أوضحت العديد من الأدبيات الاقتصادية ان أي توزيع للدخل وفقاً لمعيار الكفاءة الاقتصادية لن يترتب عليه عدالة اقتصادية. ذلك ان القادرين على المساهمة في العملية الإنتاجية في اي مجتمع من المجتمعات يكونون دائماً وأبداً اقل من إجمالي السكان. و لذلك فانه مهما كان توزيع الدخل بين المشاركين في العملية الإنتاجية وفقا لمعيار الكفاءة الاقتصادية فإن هناك من السكان من يكونون خارج عملية التوزيع. و ابرز الأمثلة على ذلك الأطفال و كبار السن و المرضى و الطلاب و المعاقين، ناهيك عن العاطلين.

لقد تعاملت العديد من المجتمعات مع ذلك بطرق مختلفة. و لا شك ان ذلك فتح المجال للمقارنة بين هذه التجارب من عدد من الجوانب. إذ انه يمكن المقارنة بينها من حيث كفاءتها- أي من حيث معدل نمو السلع و الخدمات عبر الزمن في كل تجربة من هذه التجارب او من حيث عدالة توزيع السلع و الخدمات في كل منها.

و في هذا المقال سيتم اعتماد مقدار العدل في التوزيع بهدف تحديد أي التجارب تحتوي على اكبر قدر منه. فالاقتصاد العادل هنا يشير الى التجربة او التجارب الاقتصادية الأكثر عدالة في التوزيع و التي تحافظ في نفس الوقت على قدر مقبول من الكفاءة الاقتصادية فيها- أي تلك التجارب الاقتصادية التي نجحت في تحقيق كل من العدالة الاقتصادية و الكفاءة الإنتاجية في وقت واحد. و ينبغي ان ننوه هنا ان فقط بعض التجارب الاقتصادية قد نجحت فعلا في تحقيق ذلك.

المقصود بمفهوم العدل في هذا المقال العدل في توزيع الثروة او المال او السلع والخدمات الاقتصادية على افراد المجتمع بطريقة تنال رضاهم او رضا اغلبيتهم على الاقل. ولا شك ان هذا المفهوم يختلف عن مفهوم العدل بالمعنى القانوني او الطبيعي او حتى الاجتماعي. فالعدل فيما يخص توزيع الثروة او المال تعامل الناس فيما بينهم فيما يخص الثروة وهو بذلك يتعرض للعلاقات التي تقوم بينهم بخصوص ذلك.

وفي هذه الحالة فان مقدار الرضا عن عملية التوزيع وعن نتائجها هو الذي يحدد مقدار العدل المتضمن في اية تجربة من التجارب. ومن خلال قياس ذلك فإنه يمكن مقارنة التجارب مع بعضها البعض وبالتالي تحديد التجربة الأكثر عدلا من غيرها.

ويمكن الاستدلال على مقدار الرضا في اية تجربة من التجارب من خلال قياس حجم التوزيع الطوعي الذي يقوم به الافراد المنضوون تحت لواء هذه التجربة-أي من خلال حجم الانفاق الذي يتحقق طوعيا فيها. لا شك ان ذلك يقيس مقدار الرضا على التوزيع بطريقة ادق من الاعتماد على الانفاق التوزيعي العام.

في الدول غير الديمقراطية فإن تدخل الدولة في عملية التوزيع لا يعكس رغبة المواطنين بقدر ما يعكس رغبة السياسيين الذين يملكون القوة لفرض ذلك. وحتى في الدول الديمقراطية فإن تدخل الدولة في عملية التوزيع قد لا يعكس رغبة المواطنين بشكل دقيق. فالبرامج الانتخابية للأحزاب المتنافسة على السلطة في هذه الدول لا تحتوي على تفاصيل كثيرة عن كل المواضيع التي تتضمنها وخصوصاً برامج التوزيع والضمان الاجتماعي، هذا من ناحية.. ومن ناحية أخرى فإن تصويت الناخبين لا يعتمد على موضوع واحد وإنما على التصور الكلي عن الموضوعات المتعددة في البرامج السياسية المتعددة.

ونتيجة لذلك فإنه لا بد من افساح المجال للانفاق الطوعي للمشاركة في عملية التوزيع بهدف الحصول على اكبر قدر من العدل في ذلك. و قد يكون من المناسب ايجاد شراكة بين الانفاق الطوعي والانفاق العام في هذا المجال. وفي هذه الحالة تتحقق الاستفادة من الانفاق الطوعي لترشيد الانفاق العام. فقد يكون مقدار الرضا على عملية التوزيع اكثر دقة اذا قيس اعتمادا على حجم الانفاق الطوعي. وفي هذه الحالة فان التوافق بين الانفاقين ربما يكون مؤشرا على مدى رضا المواطنين عن خطط التوزيع الحكومية.

ان استخدام الرضا في الاستدلال على العدل يجعل من عملية التحليل خطط و أساليب التوزيع المختلفة متميزة. انها ستمكن من الربط بين النتائج التي يتم الحصول عليها عن طرق وأساليب الاقتصاد الجزئي و تلك التي يتم الحصول عليها عن طريق و أساليب الاقتصاد الكلي. فالرضا مفهوم نسبي- أي انه يشمل رضا الشخص عن نفسه و أدائه و رضاه عن وضعه مقارنة بالآخرين.

ويمكن القول بأن الرضا مقياس أفضل من مقياس الدخل المستخدم في العديد من عمليات تحليل التوزيع. فمتوسط نصيب الفرد من الدخل لا يقيس بدقة مستوى الرفاهية التي يحصل عليها سكان دولة من الدول. و يرجع ذلك الى ان الحسابات القومية مازالت تقريبية، هذا من ناحية.. و من ناحية أخرى فإن هناك عوامل أخرى لا ترتبط بالدخل و تؤثر بشكل كبير على رفاهية الفرد او المجتمع.

بالاضافة الى ذلك فإن استخدام الرضا لقياس مقدار العدل في التوزيع قد يمكن من اثراء عملية التحليل بشكل كبير. فالاقتصار على مقياس الدخل يوحي بأن أفضل توزيع للدخل هو التساوي. ولا شك ان ذلك يتناقض بشكل كامل مع الكفاءة الاقتصادية بل و حتى مع الاستقرار السياسي. و كذلك فإن مقياس الدخل يشير الى الوضع القائم في أي مجتمع من المجتمعات لكنه لا يمكن من إعطاء حكم على ذلك التوزيع و بالتالي لا يسمح بتحليل ديناميكية عمليات التوزيع.

إن استخدام مقياس الرضا في تحليل عمليات التوزيع سيمكن الى جانب معرفة الوضع القائم من إعطاء حكم عليه من حيث كونه وضعاً مقبولاً أم لا. و في حال الاستنتاج بأنه ليس مقبولاً فإن ذلك سيستدعي البحث عن الوضع المرغوب. و بالاضافة الى ذلك فإن الوصول الى هذا الوضع المقبول لا بد ان يكون بواسطة إجراءات مقبولة تعمل على زيادة حجم الرضا.

ولا شك ان ذلك سيضيف الى عملية تحليل الرفاه الاجتماعي ابعاداً أخرى لا توجد في الوقت الحاضر. و ربما يعمل ذلك على تحسين الكفاءة الاقتصادية والعدل الاقتصادي في آن واحد. ولا شك بأن ذلك سيوفر على الإنسانية جهدا وموارد مهمة يمكن ان تعمل على تحسين مستوى الرفاهية للإنسانية جمعاء.

وما من شك بأن التجربة الإسلامية في هذا المجال متميزة بما يجعلها فريدة بين نظيراتها بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى. فوفقاً للتصور الإسلامي للتوزيع فإنه يقوم على أساس ان يكون ذلك طوعياً قدر الإمكان. وفي حال اضطرار المجتمع للتدخل في ذلك فإن ذلك ينبغي ان يكون في الحدود الدنيا و ان تكون تصرفات المجتمع منسجمة مع التصرفات الطوعية.

وبهدف تحقيق ذلك فقد طور القرآن آليات متعددة لكنها متناسقة للتوزيع العادل. تتضمن هذه الإجراءات اعمالاً استباقية تتمثل في تهيئة المنفق نفسياً من خلال اقناعه بأن ما ينفقه الإنسان على غيره سيجازى عليه من الله و من الناس سواء في الحياة الدنيا و في الآخرة او على الأقل في احداهما. ان كل مسلم يعلم ان الله يعلم كل ما ينفقه الانسان و يحصيه ولا يغفله حتى لو أغفله الناس او نسوه. ومما يلاحظ على طريقة الاسلام في التوزيع انها متنوعة بحيث انه اذا لم يتحقق في نوع فإنه سيتحقق في انواع اخرى.

في هذا المقال سيتم توضيح التصور الإسلامي هذا من خلال مناقشة قيمة العدل في الاسلام و التطبيقات الواقعية له كما سجل ذلك القرآن الكريم و سيرة النبي صلى الله عليه و سلم. فقد مثَّل العدل أهم القيم الأساسية التي حض عليها القرآن. و قد انعكس ذلك بدون شك على تجربة الإسلام الاقتصادية في المدنية. و ذلك فإن الإسلام قد طور نموذجاً نظرياً وعملياً للذي يمكن ان يطلق عليه العدل الاقتصادي.

فالتوزيع في الإسلام يقوم على أساس الطوعية و بالتالي فإن مقدار الرضا فيه يكون كبيراً و بالتالي مقدار العدالة. صحيح ان هناك إلزاماً دينياً في بعض مكونات الانفاق مثل الزكاة و النفقات و الكفارات المتعددة، لكن الالتزام بذلك ينبع من الإيمان و يكون الهدف الأساسي لذلك هو الحصول على رضا الله الذي يعلم كل ذلك و الذي هو في كتاب مبين.

و على هذا الأساس فإن مفهم العدل في التوزيع في التصور الإسلامي يتميز عن مفهومه في التصورات الاخرى. فالعَدْل: ما قام في النفوس أَنه مُسْتقيم، وهو ضِدُّ الجَوْر. عَدَل الحاكِمُ في الحكم يَعْدِلُ عَدْلاً وهو عادِلٌ من قوم عُدُولٍ وعَدْلٍ.

العَدْل، هو الذي لا يَمِيلُ به الهوى فيَجورَ في الحكم. والعَدْلُ الحُكْم بالحق، يقال: هو يَقْضي بالحق ويَعْدِلُ. وهو حَكَمٌ عادِلٌ. و العدل من الناس: المَرْضِيُّ قولُه وحُكْمُه. ورَجُلٌ عَدْلٌ: بيِّن العَدْلِ والعَدَالة. وعَدَّلَ المَوازِينَ والمَكاييلَ: سَوَّاها. وعَدَلَ الشيءَ يَعْدِلُه عَدْلاً وعادَله: وازَنَه.

وعادَلْتُ بين الشيئين، وعَدَلْت فلاناً بفلان إِذا سَوَّيْت بينهما.

وتَعْدِيلُ الشيء: تقويمُه، وقيل: العَدْلُ تَقويمُك الشيءَ بالشيءِ من غير جنسه حتى تجعله له مِثْلاً.

والاعْتِدالُ: تَوَسُّطُ حالٍ بين حالَيْن في كَمٍّ أَو كَيْفٍ، كقولهم جِسْمٌ مُعْتَدِلٌ بين الطُّول والقِصَر، وماء مُعْتَدِلٌ بين البارد والحارِّ، ويوم مُعْتَدِلٌ طيِّب الهواء ضدُّ مُعْتَذِل، بالذال المعجمة.وكلُّ ما تَناسَبَ فقد اعْتَدَل؛ وكلُّ ما أَقَمْته فقد عَدَلْته. تقول عَدَلْتك إِلى كذا وصَرَفتك إِلى كذا، إِنه بمعنى فَسَوّاك وقَوَّمك، من قولك عَدَلْت الشيء فاعْتَدل أَي سَوّيْته فاسْتَوَى؛ ومنه قوله:وعَدَلْنا مَيْلَ بَدْر فاعْتَدَل -أَي قَوَّمْناه فاستقام، وكلُّ مُثَقَّفٍ مُعْتَدِلٌ.

وعَدَلْت الشيءَ بالشيء أَعْدِلُه عُدولاً إِذا ساويته به وعَدَّل القَسَّامُ الأَنْصِباءَ للقَسْمِ بين الشُّركاء إِذا سَوّاها على القِيَم. يقال: خُذْ عَدْلَه منه كذا وكذا- أَي قيمتَه. ويقال لكل من لم يكن مستقيماً حَدَل، وضِدُّه عَدَل، يقال: هذا قضاءٌ حَدْلٌ غير عَدْلٍ.وعَدَلَ عن الشيء يَعْدِلُ عَدْلاً وعُدولاً: حاد، وعن الطريق: جار، وعَدَلَ إِليه عُدُولاً: رجع. وما لَه مَعْدِلٌ ولا مَعْدولٌ أَي مَصْرِفٌ.

وعَدَلَ الطريقُ: مال.ويقال: أَخَذَ الرجلُ في مَعْدِل الحق ومَعْدِل الباطل -أَي في طريقه ومَذْهَبه.ويقال: انْظُروا إِلى سُوء مَعادِله ومذموم مَداخِله- أَي إِلى سوء مَذَاهِبه ومَسالِكه.

والعَدْل أَن تَعْدِل الشيءَ عن وجهه، تقول: عَدَلْت فلاناً عن طريقه وعَدَلْتُ الدابَّةَ إِلى موضع كذا، فإِذا أَراد الاعْوِجاجَ نفسَه قيل: هو يَنْعَدِل- أَي يَعْوَجُّ.وانْعَدَل عنه وعادَلَ: اعْوَجَّ.

إذن العدل هو التراضي و هو الاستقامة و هو الاعتدال و هو إصلاح الاعوجاج. و فيما يخص العدل في التوزيع في الإسلام فإن اشتراط التراضي فيه واضح و لا جدال فيه. و لا شك ان هذا الشرط يمتد الى التوزيع على المستوى الجزئي. فتوزيع الناتج بين عناصر الإنتاج في الإسلام لا بد ان يراعي الكفاءة- أي الإنتاجية الحدية لعناصر الإنتاج و التراضي- أي العدالة.

و لذلك فإن التراضي مهم فيما يخص الأجور و العائد على رأس المال. و الأمثلة على ذلك كثيرة. فعلى الرغم من ان الله قد أمر عباده القادرين بان يكسبوا رزقهم بالطرق المشروعة، فإنه نهاهم ان يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض في الرزق. و من يريد زيادة فيه فما عليه الا ان يسأل الله من فضله و لا يطمع في رزق غيره. و لا شك ان ذلك يحد من الحسد و الانانية التي تقود الى الظلم. يقول الله تعالى في سورة النور " وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ " (33).

ومن يتفضل الله عليهم بالرزق فإن عليهم ان يحافظوا على أموالهم فلا يبذروها و لا يهملوا في تنميتها و حفظها و رعايتها و لا يتساهلوا في إدارتها ولا يؤتوها للسفهاء حتى لا يعبثوا فيها و يهدروها و هناك من يحتاجها.

و لذلك فإن من العدل في الإسلام التوازن بين الحقوق بغض النظر عن النوع. «فلهن مثل الذي عليهن بالمعروف. واذا كان هناك تفاوت فإنه لا بد وان يكون مبرراً. فلا بد ان تكون الواجبات بقدر الحقوق فللرجال عليهن درجة بما أنفقوا". ولكن فإنه لا يحل لهم ان يأخذوا مما أتوهن شيئا الا ان يخافا ان لا يقيما حدود ما انزل الله فلا جناح عليهن فيما افتدين به. وفي كل الأحوال فإن على الجميع الا يعتدوا «ان الله لا يحب المعتدين». فمن الاعتداء عضل الرجال للنساء بهدف إجبارهن على افتدى أنفسهن بدون وجه حق. و كذلك فإن من الاعتداء استغلال النساء حقهن في الحصول على نفقة الرضاعة وفي المبالغة في ذلك.

و لذلك فإنه لا ينبغي ان يترتب على ذلك ضرر فادح. فلا الوالد ضار بولده و لا الوالدة بولدها و لا الزوج بزوجه ولا العكس. فعلى الوالد ان يضمن لولده عيشة في صغره بالمعروف. و الوالدة لا تحرم من حقها في النفقة اذا حبست نفسها لإرضاع ولدها حتى لو كانت والدته. لكن ذلك لا ينبغي ان يجعلها تنتقم من والده فتبالغ في حقها هذا. فالعرف هو الفيصل في هذه الحالة. فلا ينبغي ان يترتب على ذلك تكليف الإنسان بما لا يطيق ف«لا يكلف الله نفسا إلا وسعها»، فإن لم يتفقا و لم يتراضيا فلا يوجد ما يمنع ان يتفقا بخلاف ذلك.. و لكن بعد تشاور و تناصح بينهما.

فكما كان الزواج بالتراضي فإن الفراق لا بد ان يكون بالتراضي ايضا. لكن هذا التراضي ليس مطلقاً و خاضعاً لموازين القوى، بل لا بد ان يكون وفقاً لحدود الله. فعلى سبيل المثال فإمساك بمعروف او تسريح بإحسان. الصلح يكون عادلا اذا كان بالتراضي ان أرادوا إصلاحاً فإن الله يصلح بينهم.

فما يتم التراضي عليه لا يزول بزوال السبب و إنما يمتد الى ما بعد ذلك. فإن مات أحد الزوجين فإن ذلك لا يسقط حقوقهما. و كذلك اذا مات احد أفراد الأسرة فإن ذلك لا يترتب عليه التخلي عن التزاماته أمام الأحياء من الأقارب و من التزامهم له. لكن هذه الالتزامات لا ينبغي ان تكون مجحفة لأي منهما.

فالحقوق المتعارف عليها لا تسقط لأنها لم ينص عليها او لم يتم توثيقها. بل انها سارية المفعول بحكم العرف إلا اذا تم التراضي على خلاف ذلك. ف«لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن او تفرضوا لهن فريضة و متعوهن على الموسع قدره و المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين. و ان طلقتموهن من قبل ان تمسوهن وقد فرضت لهن فريضة فنصف ما فرضتم لهن الا ان يعفون او يعفو من الذي بيده عقدة النكاح وان تعفوا أقرب للتقوى ولاتنسوا الفضل بينكم ان لله بماتعملون بصير»). البقرة 277

فالحقوق لا تخضع للهوى..( قد خسر الذين قالوا هذا لله و هذا لشركائهم) و (قد خسر الذين قتلوا أولادهم خشية إملاق). و (قد خسر الذين حرموا ما رزقهم الله من الطيبات).

فمن التعدي على حدود الله تحويل كرامة الإنسان الى سلعة تباع في سوق النخاسة. فإمساك السلع ضراراً بهدف الحصول على المال ظلم يتنافى مع العدل.

ومن التعدي على حدود الله اختلال الموازين و المقاييس، لأن ذلك يؤدي الى فساد الحياة الاقتصادية و تعثرها. يقول الله تعالى في سورة الأعراف "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ» (85). و يقول في سورة هود "وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ» (84) «وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِين»َ (85). و يقول في سورة الشعراء "أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ» (181) «وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ» (182) «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ» (183).

و من التعدي على حدود الله أكل اموال الناس بالباطل. يقول الله تعالى في آل عمران "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ» (188)" و يقول «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (130) «وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ» (131). و يقول «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا» (29) وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا» (30).

و من التعدي على حدود الله اكتناز المال و حرمان المجتمع من الاستفادة منه سواء عن طريق الاستهلاك او الاستثمار. يقول الله تعالى في سورة التوبة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ» (35).

أما في مجال التوزيع فإن التراضي هو الشرط الأول و الأخير. فبعد ان أكد القرآن على أداء الحقوق الى أهلها حيث يقول «ان الله يأمركم ان تؤذوا الأمانات الى أهلها» و حرم أكل اموال الناس بالباطل واوجب على الاغنياء حقوقاً للفقراء. فإلى جانب ان الأخذ من اموال الاغنياء و إعطائها للفقراء سيعمل على مساعدة الفقراء لتلبية حاجاتهم الأساسية بطريقة كريمة فإن ذلك له آثار أخرى لا تقل أهمية عن ذلك. فإذا ما أعطى الاغنياء جزء من أموالهم للفقراء عن رضا و طيب خاطر فأنهم سوف لن يأكلون أموالهم و لن يظلمونهم من باب أولى.

و حتى يتحقق الرضا و بالتالي إعطاء حماية للفقراء، فإن الله لم يوجب على الاغنياء عطاء الفقراء جزءً كبيراً من ذلك، حتى لا يعطون ذلك عن غير رضا فيعمل ذلك على خلق الكراهية بين الاغنياء و الفقراء. يقول الله تعالى في سورة محمد " إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ» (38).

فالله يعلم طبيعة الإنسان و حبه للمال.. و لذلك فإنه لا ينبغي ان يترتب على معالجة أية مشكلة خلق مشكلة اكبر منها. فالإنفاق على الآخرين أمر يشق على النفس و خصوصاً اذا كان يمثل نسبة كبيرة من الدخل او الثروة. اسْتَنْفَقه: أَذهبه.والنَّفقة: ما أُنِفق،زاد يَنْفَقُ نَفَقاً -أي نفد، وقد أَنفَقت الدراهم من النَّفقة.ورجل مِنْفاقٌ -أي كثير النَّفَقة.والنَّفَقة: ما أَنفَقْت.

فقد اوجب النفقة على الأبناء و الآباء و الزوجات بالمعروف وبما لا يضر كل من المنفق و المنفق عليه. فلكل جعل الله له موالي من أولاد او آباء او أقارب فلهم في أموالكم حقوق فادوها. يقول الله تعالى في سورة البقرة «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» (215).

فقد أمر الله تعالى المسلمين بأن يؤتوا الزكاة مثلما يقيمون الصلاة و مثلما يصومون رمضان و مثلما يحجون البيت الحرام. و ان لا يأمروا غيرهم بالبر و ينسون أنفسهم. فما تقدموا من خير لأنفسكم في الدنيا و في الآخرة. فمن أحسن لنفسه و للناس فإنه لا خوف عليه و لا هو يحزن. من المهم ان نوضح ان متوسط الزكاة بكل أنواعها من المال و الثروة تمثل ما يقارب 7% منها. و بالتالي فانها لا تمثل أي عبء على الاغنياء. و هي تكفي لسد حاجات الفقراء و خصوصا اذا تم إخراجها عن رضا و طيب خاطر. لأن ذلك يقلل من تكاليف جمعها و يقلل كذلك من عملية التهرب منها. فإذا من الله عليكم من فضله فادوا حقه يوم حصاده. يقول الله في سورة الإسراء " وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا» (31) .

ثم ان الله قد حض الميسورين على مساعدة المحتاجين بقدر ما يستطيعون حتى لو تجاوز ذلك حدود الزكاة. يقول الله في سورة النحل:« ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»(77). و يقول ايضا " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» (90).

و بهدف تشجيعهم على ذلك فقد نصحهم بأن (قاوموا شح أنفسكم) و (أحضرت الأنفس الشح) وتخليصها من ذلك يكون بزيادة تقواها. فلا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا و تزهق بها أنفسهم. ولا تكونوا من الذين يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله فان هؤلاء اذا كان لهم نصيب من الملك فإنهم لا يؤتون الناس نقيرا. فالذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فستكوى بها جباههم. فلا تكونوا ممن ينفقون و هم كارهون او ممن يلمزك في الصدقات فإن يعطوا منها رضوا و ان لم يعطوا منها اذا هم يسخطون. ويقول الله تعالى في سورة التوبة «وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّوْا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ» (80).

و على الرغم من حرص الإسلام على التراضي في الانفاق أي في التوزيع الا أنه دعم ذلك بتهيئة الظروف المناسبة لتشجيع الموسرين على الانفاق في سبيل الله. ان ذلك يشير الى ان من مميزات العدل في الإسلام ان الحقوق قائمة بذاتها و يحميها المجتمع كله. فأموال الأيتام محمية حتى و ان كانوا غير قادرين على حمايتها. فمسؤولية ذلك تقع على عاتق المجتمع و في مقدمة ذلك الأقربون. «وأتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم الى أموالكم انه كان حوبا كبيرا». و كذلك فان عليكم ان تؤتوا النساء صدقاتهن وحقوقهن كاملة و بدون أي تردد او تعسف. ولتجنب ذلك فإن عليكم «ان تؤدوا الأمانات الى أهلها و اذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل». ويقول تعالى في سورة النساء " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135). و يقول كذلك في سورة الحجرات. «وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (10).

و جعل القرآن الانفاق على المحتاجين مجالاً للتنافس بين الأمم. إذ يقول الله تعالى في سورة المائدة " وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» (48).

و حتى لا يتم التحايل على ذلك فقد بيَّن القرآن الكريم بشكل لا لبس فيه ان الانفاق في سبيل الله يعني الانفاق على المحتاجين حيث يقول تعالى: «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» (60). و يقول في سورة المائدة "أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (8). ويقول في سورة البقرة «لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بسيماهم لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (274).

و لا شك ان أي اقتصاد يقوم على هذه القيم سيكون فيه التوزيع اكثر عدالة لأنه سيكون فيه قدر اكبر من الرضا. و قد تحقق ذلك بالفعل. فكما هو معروف فإن المدينة المنورة و التي احتوت على أول نموذج اقتصادي لما يمكن ان يطلق عليه الاقتصاد العادل قد شهدت على ذلك بشكل واضح وجلي.

فقد كان اقتصاد المدينة قبل الإسلام اقتصاداً زراعياً. و مع ذلك فقد كان اقتصادا فقيرا مقارنة باقتصاد مكة الذي كان يعتمد على التجارة. وكلاهما كانا يعانيان من الفقر بدليل انتشار الربا و التمييز بين الناس. فقد كانت هناك قلة تسيطر على الأراضي الزراعية في المدينة و كثرة من العمال الزراعيين الفقراء. و في مكة كانت هناك قلة تسيطر على التجارة و المال و كثرة من العبيد و الخدم و المهمشين.

و يمكن هنا مقارنة الأوضاع الاقتصادية في المدينة المنورة بعد هجرة النبي صلى الله عليه و سلم مع اقتصاد مكة الذي بقي على حاله و بدون أي تغير. و في هذه الحالة فإننا سنجد ان اقتصاد المدينة قد تنوع فبدلا من الاعتماد الكلي على الزراعة فإنه قد طور قطاع التجارة الى درجة ان المدينة استطاعت ان تنافس مكة في ذلك.

و على الرغم من تزايد عدد سكان المدينة اضعافا مضاعفة فإن نسبة الفقر قلت فيها بشكل كبير. و الدليل على ذلك ان تزايد السكان نتيجة للهجرة الى المدينة لم يترتب عليه زيادة في الأسعار و لم يتم فرض ضرائب او اتاوات لمواجهة ذلك. ان ذلك يعني ان المهاجرين قد كسبوا عيشهم من خلال ممارستهم للتجارة و لم يكونوا أعباء على موارد المدينة.

فعلى العكس من ذلك فقد شكلوا مورداً اقتصادياً جديداً. و الدليل على ذلك انه لو كان الامر على خلاف ذلك لاستغل ذلك اليهود المنافقون لتحريض سكان المدينة من الأنصار ضد النبي و المهاجرين. و في الحقيقة فإنهم قد حاولوا ذلك عندما قالوا لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله لكن محاولتهم تلك فشلت لأن من كان حول الرسول لم يكن محتاجاً لنفقاتهم.

و كذلك فإن المدينة لم تشهد اضطرابات سياسية على الرغم من حدة الحملات الإعلامية ضد الإسلام و المسلمين التي شنها اليهود و المنافقين. فعلى العكس من ذلك فان المؤشرات المستقاة من صدقات المسلمين من الأنصار و المهاجرين قد تزايدت مع الزمن. و ما كان ذلك ليحدث إلا لأن دخولهم قد زادت نتيجة لنمو الاقتصاد الجديد في المدينة.

ومن عجائب الأمور ان هذا الاقتصاد الفقير و الصغير نسبياً قد موّل حرباً دفاعية تحالفت على شنها اكبر القبائل في الجزيرة العربية- أي قريش وحلفائها، وثقيف وحلفائها وغير ذلك. و قد استطاع هذا الاقتصاد ان يتغلب على اقتصاديات الكيانات الأكبر منه في المنطقة.

و ما كان ذلك يحدث لولا ان القيم الإسلامية قد عملت على تطوير هذا الاقتصاد سواء من حيث الحجم- أي النمو أو من حيث العدل أي التوزيع العادل. ولو حدث ذلك في المدينة فإنه لا يوجد مانع من حدوثه في أي اقتصاد يطبق هذه القيم في الوقت الحاضر.

لكن لسوء الحظ فإن هذا النموذج قد هجر من التطبيق في مرحلة زمنية ماضية. و لعل الاخطر من ذلك ان المسلمين قد هجروه حتى من مجرد التفكير. ولذلك فإن من الأهمية بمكان إعادة هذا الموضوع الى النقاش علَّ ذلك يجعلنا ندرك قيمة ما انعم الله به علينا و على العالمين.