اختلفوا الورثة!
بقلم/ فكري قاسم
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر
الثلاثاء 09 أغسطس-آب 2011 12:00 ص

* الأمر يشبه – تماماً - التفاف سرب نسور جائعة على جثة ميتة.. هي اليمن.

أينما وجدت شيئاً مُعطلاً رغم مزاياه الجميلة والمغرية، تأكد أن وراء ذلك ورثة اختلفوا وتركوا الأمور تمضي إلى الإهمال !

في قلب العاصمة صنعاء مثلاً – على ناصية شارع هائل – يبدو فندق “بانوراما” الأنيق مبنىً معطلاً يحكي ذكرى وفاق قديم. وحين تسأل عن السبب يقولوا: اختلفوا الورثة.

فندق “مأرب”، أحد أضخم وأقدم فنادق تعز، هو الآخر معطل مذ سنوات طوال.. ما المشكلة؟... برضه: اختلفوا الورثة. 

أكثر من مُنشأة مغرية، أكثر من مشروع تعطلت الحياة فيه للسبب ذاته “اختلفوا الورثة”. 

لا بأس.. إن أموراً كهذه تتطلب شراكة واعية ومنصفة. ولو أسقطنا الأمر ذاته على مشاكلنا الكبيرة في البلد، سنجد أن المشكلة العويصة هذه هي ذاتها التي تجعل من اليمن - رغم مميزاتها الفريدة والمتعددة - تبدو بلداً معطلاً للأسف.

سنسأل مثلاً: ما الذي جعل مشروع الوحدة اليمنية العظيم يتعطل ذهنياً ووجدانياً؟ وسنعرف بالتأكيد أن شريكي الوحدة - ورثة الدولة اليمنية الجديدة عام 1990 - اختلفا ووصل بهما الأمر في صيف 1994 إلى حرب أهلية عابثة باركها رجال الدين ورجال القبيلة المسلحة، الحزب الإشتراكي، وهو الممثل لدولة الجنوب، وفي 7 يوليو 1994، أقصي الحزب الإشتراكي من السلطة لتذهب “بصيرة” البلد بأكمله آنذاك لصالح الشمال. الشمال “المبندق” والمنتصر على أخيه المتمدن في الجنوب.

بعد حرب صيف 1994م كان الورثة الجدد للبلد هم تحالف حزبَي المؤتمر الشعبي العام والتجمع اليمني للإصلاح. كلاهما معاً تقاسما الوزارات، كما وتقاسم نافذو الحزبين معاً الأراضي والثروة، غير أن صحبة السمن والعسل بين المؤتمر الحاكم والإصلاح – الشريك - لم تدم طويلاً. في عام 2001 خاض كل حزب منهما منفرداً أول انتخابات للمجالس المحلية، ثم ظهر خلاف ورثة دولة 7 يوليو جلياً في الانتخابات الرئاسية عام 2006.

ورثة حروب صعدة الـ6

لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد من صراعات الورثة. لقد تم إدخال البلد مجدداً في دوامة 6 حروب طاحنة في صعدة، لم يكن وراءها سبب واضح يستدعي أن يتقاتل اليمنيون فيما بينهم بتلك القسوة والشراشة، غير أن “الورثة اختلفوا” وعصدوا أبو البلاد. وهذه المرة سمعنا أن الورثة على نحو مختلف إلى حد ما. وأُشيع بأن الحوثيين في صعدة، برأسهم ألف سيف أن الولاية “للبطنيين”. ما يعني أنهم الورثة الحقيقيون للحكم.

والرئيس “صالح” و”علي محسن” من جانب آخر برأسهم ألف سيف أن الحكم وثيقة خاصة بهم، وبمن يساندهم من القبيلة ورجال الدين الذين يغمضون أعينهم كما العادة حيال أي حرب يقودها النظام.

أثناء حروب صعدة، تعطلت الحياة في البلد، وتكسرت أحلام الناس وظهر إلى السطح صراع ورثة جدد، وكل واحد عينه عليها.

أحمد علي، نجل الرئيس صالح هو الوريث الشرعي الأول للبلد.

علي محسن الأحمر يريدها أيضاً، فهو ثاني أقوى رجل في البلد.

أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر يريدونها أيضاً، فوالدهم - رحمه الله - كان شريكاً فاعلاً مع الرئيس، ولابد لأحد أبنائه أن يقف في طابور “بعد الطالِع” والا”والله ما تُصلح لعبة”.

عبد المجيد الزنداني هو الآخر يريدها، فهو شريك رئيسي للنظام. بل هو الذي شرعن لـ”صالح” كل حروبه وأخطائه، وهو شرعن لمعاوني “صالح” وشركائه كل لصوصيتهم، منشغلاً بجمع التبرعات للبوسنة والهرسك وبناء صرحه العتيد “جامعة الإيمان”. 

ورثة دولة 7 يوليو ظلوا يبنون أنفسهم جيداً تاركين البلد ينمو كعشب الصحراء، بيد أن باب المواريث أعلاه لم يتوقف عند ذلكم النفر من الجن، بل كان هناك طبعاً طابور طويل من الورثة الناشئين: يحيى محمد عبدالله صالح.. طارق محمد عبدالله صالح.. عمار محمد عبدالله صالح.. تيسير صالح محمد عبدالله صالح.. توفيق صالح عبدالله صالح.. محمدعبدالله القاضي، حسين الأحمر، حميد الأحمر، وجميع الأهل والأصدقاء. أقرأ أسماءهم وأشعر كما لو أننا في برنامج “ما يطلبه المستمعون”.

كلهم في الأصل ورثة.. وكل واحد منهم يريد حصته من الكعكة.. “وإلا حرام ما تنُزل طَبًة”.

جميعهم يمنيون ومن حقهم أن يرثوا ويحكموا، نحن فقط أولاد الشوارع، ونحن فقط “الفرَغّْ بني الفرَغْ” الذين ينبغي علينا ألا نزاحمهم حتى على “الُكدمة”، فما بالكم حين نزاحمهم مثلاً مثلاً على الكعكة. اللهم اجعله رؤيان.

ورثة دولة 7 يوليو يمتطون الثورة !

قائمة الورثة المُبجلين لم تنتهِ بعد بالتأكيد. مع كل خلاف لفصل المواريث تتكسر البلد وتتعطل الحياة وكله على رأسك يا مواطن.

وثمة فرصة جاءت لليمنيين من السماء عشية بعد سقوط نظام حسني مبارك في مصر، التهب الشارع اليمني وقامت في 11 فبراير ثورة الشباب العظيمة.

هي في الأساس ثورة نبيلة لا محاصصات فيها ولا مواريث، ثورة ضد كل أولئك الذين تفيدوا البلد، تلك بالتأكيد هي قوة الثورة.

في غضون أسابيع قليلة من الثورة إنعدل - تماماً - مزاج اليمنيين. عادت الابتسامة إلى وجوههم وشعروا لأول مرة – منذ دهر- أنهم يلامسون السماء بهامات شبابهم الشجعان، شبابهم القادمين من أزقة حواري المدن ومن القرى ومن مجاهل القبيلة التي خرج شبابها إلى الساحات لأجل الثورة وليس لأجل الشيخ. حينها نظر العالم بأسره إلى اليمنيين بإعجاب مكُبرين في هذا البلد النائي طاقات شبابه الصاعدين نحو الشمس.

مضت الثورة في شهرها الأول قوية ومتماسكة. أربكت نظام “صالح” وجعلته يقدم عديد تنازلات مهمة، ولما خرج الورثة الجدد من أجحارهم العتيدة و”نبع” الطاعنين في السن إلى قلب قيادة الثورة الفتية، اقتلبت الموازين بالتأكيد وبدأت أحلام الورثة الُموالين للبندقية وللتخلف تدفن جثث الشهداء بدم بارد، وتطفو على السطح. ولم يمضِ وقت طويل حتى ظهر للسطح خلاف بين الرئيس “صالح” و”علي محسن”. هذا الأخير “نبع” مشكورًا إلى الثورة، قبله أيضاً “نبع” عبدالمجيد الزنداني” بأطروحة دولة الخلافة الإسلامية، ثم “نبع” سلاح القبيلة للوسط. ولم يكن بوسعنا حينها إلا أن نغني: “كابتن مااااااااجد.. عاد إليكم من جديد”.

ورثة دولة 7 يوليو بعثوا كما العنقاء إلى ساحات الحرية والتغيير، لكنهم هذه المرة بعثوا على هيئة أبطال، مع أن الثورة قامت أساساً ضد فصل المواريث كله، ضد التخلف وضد اللصوصية، ضد استخدام أحلام اليمنيين مطية لتحقيق مآرب أخرى. ضد كل تلك المنظومة التي أرهقت البلد طيلة سنوات نظام “صالح”. ومن يقول بغير ذلك فهو لا يفعل شيئاً غير أنه يسخر من دماء الشهداء.

نحن الآخرون

بين العقل والجنون، ثورة. قمة العقل وقمة الثورة ألاّ نكون شهود زور، ومن أجل الثورة واحتراماً لدم الشهداء إنه يتعين علينا أن نكون صادقين، ونقول بأن الثورة قامت أصلاً ضد كل أولئك الورثة المبجلين.

لقد خرج الشباب اليمنيون من بيوتهم إلى الثورة صادقين لا تحملهم الضغائن ولا الأحقاد الشخصية ضد الرئيس “صالح” أو أي أحد من عائلته. وخرج الشباب إلى الساحات يريدون يمناً جديداً، يريدون دولة مدنية، دولة عصرية.

قامت الثورة، وهذه المرة لم يكن هناك دبابة تقصف دار البشائر، بل كان هناك شباب صادقون يقصفون عمر نظام “صالح” بأرواحهم الزكية، وكان هناك في المقابل - للأسف - معارضة سمجة يتزعمها حزب “الإصلاح”، لم تكف هي الأخرى أبداً عن قصف العقول بخطاب كريه جعل من الثورة الحلم، تتحول كما لو أنها ساحة لتصفية الضغائن والأحقاد. ناهيك عن القصف بالشائعات وبالاتهامات لكل الشباب المتواجدين في الساحة لمجرد أنهم خالفوها الرأي والرؤية.على أي حال، تحتاج الثورة إلى خطاب ثوري آخر. تحتاج إلى شيءٍ من فضيلة الاعتراف بالأخطاء والاعتراف بالآخر بعيداً عن غرور القوة، ذلك لأن إدارة الثورة بحافز القوة، ضعف خفي ويقود – دائماً – إلى انتصارات غير مشرفة على الإطلاق.

الانتصارات الأكثر قيمة، تلك التي تُصادف في وقت متأخر، لكن “أثينا العجوز تمضي إلى نهايتها”.

لن أحبط الثائرين وأقول بأن أثينا هي الثورة، هذا ليس صحيحاً أبداً. فلايزال الشباب الشجعان مرابطين في الساحات، يدفعون – بصدور عارية - ثمن أحلامهم. لكن في ظروف معينة يمكن أن تحصل خسارة عامة للحياة وللطاقة. لذا فإنه من الضروري جداً الآن أن نقول من هو الذي نشعر به مُربكاً: الثورة أم الأشخاص الذين “نبعوا” إلى الثورة؟..

أو بطريقة أخرى دعونا نتساءل بصدق، أيهما أهم: الثورة أم أولئك الأشخاص الذين نعرف جيداً أنهم جعثوا الثورة؟

حينما لا نمتلك الإجابة أو تحرجنا الإجابة لنتأكد - حينها - أننا لسنا صادقين، بل “نحن الآخرون” الذين عشنا لأوقات طويلة ننتقدهم ونخوض ضدهم معارك الصحافة والانتخابات ونخوض الثورة ضدهم أيضاً !

هل يتذكر أحدكم الآن تقرير (هلال – باصرة) الذي طالب الرئيس “صالح” بالتخلي عن 15 شخصية فدية للوحدة، باعتبار أنهم رأس المشاكل المتفاقمة في الجنوب.

ما الذي حدث حينها؟ رفض “صالح” التخلي عنهم وأخذه العناد، ولازالت الأوضاع في الجنوب قيد الاشتعال بين اللحظة والأخرى.

سنكون نحن علي عبدالله صالح بحذافيره الآن حين نظل مُكابرين ومصرين بأن اللجنة التنظيمية لساحة التغيير بصنعاء على حق. ولا نلتفت إلى كثير الشكاوى المقدمة بشأنها.

سنكون نحن علي عبدالله صالح بشحمه ولحمه حين نصر على التمترس خلف أولئك الورثة التقليديين الذين “نبعوا” إلى الثورة أصلاً ليصفوا حساباتهم وخصوماتهم مع النظام.

سنكون نحن علي عبدالله صالح ذاته حين نصر على ترحيل المشاكل والمخاوف مقتنعين أو متوهمين أن العالم من حولنا بلا آذان ولا عيون. 

إنني لا أقلل من شأن أحد منهم، ولست على خصومة شخصية مع أحد منهم. إنني فقط أمارس واجبي بضمير وأضع مشرط الطبيب على البثرة المُتقيحة حفاظاً على سلامة الثورة واستمراريتها. خصوصاً وأن ما هو أكثر إساءة للثورة صار يدَعى بأنه حق..!

مبادرة القوة الاقتصادية المنتظرة

قبل 1400 سنة تقريباً طوّع اليمنيون الطبيعة القاسية لصالحهم. شقوا المدرجات في الجبال وبنوا السدود، وكان إنسان اليمن عملاقاً اقتصادياً تشهد له بذلك رحلة الشتاء والصيف.

وأستغرب، لماذا نقبل أن نعيش الآن هكذا: جوقة مُدانين من الحياة؟ . وإلى متى سيظل هذا البلد المُنهك منكفئاً وكسيراً يُرَقِّع نثرات الخائبين والنهّابة...؟!

والواجب العام هو أن نفكر الآن بطريقة أخرى. لقد ضرب السأم أرواح وأذهان كل اليمنيين، كما وفقدوا الثقة بأي مبادرة يتقدم بها السياسيون الملوثون أصلاً.

إننا نتخلى عن حاجة الناس للحياة مقابل شخاطيط الساسة وخرافات بعض رجال الدين وبنادق مشائخ القبيلة الذين ملأوا حياتنا لؤماً ومؤامرات ولصوصية وأحقاداً.

 إننا نعود إلى التاريخ لنسرقه فقط، أو لنسرق أحلام الناس عبره. لذا إلى الآن لم نجرب قوتنا الذاتية الأصيلة. وإنني في هذه الجزئية عموماً لا أخاطب الآن غير الاقتصاديين اليمنيين، الكبار والكُسالى معاً.

لم تعد البلد بحاجة إلى أي مبادرة تأتي من الجوار أو من أصدقاء اليمن الدوليين. مكة أدرى بشعابها، واليمن الآن بحاجة إلى اقتصاديين يمنيين يقدمون مبادرة تقي إنسان اليمن المتعب من شر عبث ومحاصصات الساسة.

سأحلم، كما غيري من الناس أن نسمع في القريب أن بيت هائل سعيد والعمودي وبقشان والكبوس والمترب وعدداً من كبار رأس المال اليمني المبعثر في بلدان الخليج وشرق آسيا وإفريقيا وأوروبا أيضاً، قد أقلعوا عن مداواة ضمائرهم بالزكوات والصدقات وقرروا الآن تحديداً اتخاذ خطوة جريئة، مصحوبة بتعاون دولي وإقليمي لتقديم مبادرة لإنقاذ البلد وترميم البيت اليمني من عبث الورثة وعبث الساسة. ولن تنجح أي مبادرة لا تقول صراحة برحيل منظومة العبث تلك بأكملها، مع صون احترامهم كيمنيين.

إنه يتعين على كل محب صادق لهذه البلد أن يدرك الآن جيداً أن البلد تمضي إلى منزلق رخو.

 وفي هذه المرحلة الخطرة، تحتاج اليمن إلى شركاء غير ملوثين ولا علاقة لأحدهم بفصل المواريث. خصوصاً وأن الأمر صار يشبه – تماماً – التفاف سرب نسور جائعة على جثة ميتة.. هي اليمن.

fekry19@hotmail.com