|
من أجل النظر في أحواله، يمارس لبنان إغراءً متعاظماً على دارسي العلوم الاجتماعية - السياسية في الفضاء العربي، هو مركز التجارب، واستخلاص العبر، ومكان دراسة مركز الجاذبية لما يعرف بالديمقراطية في طبعتها العربية. صحيح أن لبنان بلد صغير، بالنسبة لكثير من البلدان العربية، لكن فيه الكثير من الصفات التي تشترك مع محيطه العربي، من حيث الممارسة السياسية، ومن حيث تأثير التركيب الاجتماعي على نتائجها، ومن حيث المراوحة في المكان شبه الحداثي.
بعد أشهر وفي 6 مايو (أيار) سوف يذهب لبنان (بطوائفه المختلفة) إلى الانتخابات التي تأجلت أكثر من مرة، فأصبح لبنان مثل غيره من بلاد العرب، ليس لانتخاباته الدورية زمناً معيناً، فمتى توافق «آلة الكتل» على تصور، ذهب اللبنانيون إلى الاقتراع، ومتى اختلفت تلك «الآلة» جددوا لأنفسهم!، لبنان في الوقت نفسه ذاهب إلى حضور «مؤتمرات» دولية في أوروبا «في روما» و«باريس»، من أجل النظر في «تمويل القوى الأمنية» في الأول، ومن «أجل تمويل المشروعات الإنمائية» في الثاني، وقد ضرب لبنان المثل الأكبر في «جمع الدول» نظرياً على الاهتمام بتنميته، كما جمعهم في الوقت نفسه على عدم الوفاء بما تعهدوا به! لبنان مثل باقي الدول العربية أو أكثرها، فيه جزر اجتماعية حداثية، ترغب في إقامة دولة حديثة وطنية وعادلة.. مثل هؤلاء مجاميع من المثقفين الحداثيين العابرين للطوائف، موجودون لكن صوتهم خافت. وفيها جزر أخرى، ولكن متصلة بعضها ببعض بحبل سري، تمثل مقاومة لإقامة الدولة الحديثة، بشكل مباشر أو غير مباشر، والأخيرة تتغذى على الطائفية والآيديولوجيا، ويجمعها تعطيل قيام الدولة من أجل تمرير المصالح المباشرة، مستخدمة خطى ما فوق الانقسام، وما تحت الانقسام المجتمعي، وتبيع ذلك للجمهور العام على أنه «الديمقراطية»، والأفضل أن يكون «وهم الديمقراطية».
آفة لبنان غولان كبيران؛ «حزب الله» والفساد، فإن تقرر أن تمول دول العالم القوى الأمنية اللبنانية (الجيش وقوى الأمن الداخلي)، فإن أي صراع قادم في لبنان سوف يقود إلى أن تنتهي كل تلك المعونات، والتي هي إما معدات حربية (مدافع وسيارات مصفحة وذخيرة وخلافها)، أو تدريب حديث على استخدام القوى الناعمة «التقنية».. سوف ينتهي كل ذلك في يد جماعة «حزب الله»، صاحب السلاح؛ لأن القوى اللبنانية العسكرية وشبه العسكرية هي مؤلفة من قوى اجتماعية لا تحمل عقيدة عسكرية موحدة في الغالب، وتتذرر عند أي صدام جدي كما حدث في السابق، وكما حدث في العراق مؤخراً، عندما تفتت مجاميع نوري المالكي العسكرية التي كان لديها الكثير من السلاح الحديث، أمام هجمة بضع مئات من أفراد «داعش»، يمكن في المقابل أن تتفتت القوى العسكرية اللبنانية أمام جماعة آيديولوجية مسلحة ومسنودة من الخارج، بالنسبة لقيادتها فإن الدستور اللبناني، كما قرر السيد حسن نصر الله مؤخراً في الحديث الأشهر الذي أذاعته وسائل الإعلام الإيرانية، فالدولة والدستور هو مجرد لذر الرماد في العيون، أما «نحن» فأمامنا طوعياً «الولي الفقيه» في طهران! ذاك ليس سراً، بل معلن على رؤوس الأشهاد! إذن تسليح القوى اللبنانية من الدول العالمية، هو تسليح يقود لتعزيز حزب آيديولوجي في نهاية المطاف، منظم ومدرب، وموحد عقائدياً.. ذلك التمويل إن حدث بالعربي الفصيح، وضع الحصان أمام العربة، وكان الأولى أن توضع «العربة» خلف الحصان، كي يسير لبنان إلى بناء الدولة؛ أن ينزع سلاح «حزب الله»، ويتحول إلى جماعة سياسية لا أكثر، ثم يسلح الجيش والقوى الأمنية لا العكس! إذا كان هذا الأمر معروفاً للرجل العادي فهو محتم أنه معروف للمندوبين الذين سوف يتحلقون حول طاولة مؤتمر روما، وكما اتضح في قضية «الحاج - عيتاني» أن القوى الأمنية أو جزءاً منها مخترق، أو على الأقل في إطار حسن النوايا، عاجز مهنياً؛ فالفضيحة تقود إلى أن «سيزيف» المواطن اللبناني «المعتر» لا توجد حوله «دولة» تحميه من العسف، فهو معرض لأحط الاتهمات وتشويه السمعة، وربما التصفية دون سند قانوني! من جهة أخرى، فقد رتب لبنان الرسمي ميزانيته الأخيرة، التي أثقلتها الديون الخارجية، كي تبدو في شكل أكثر قبولاً لمؤتمر باريس المقبل، من أجل تمويل المشروعات الإنمائية. الآن آفة لبنان ليس في التمويل، لكن في الفساد المالي والإداري، الذي ينخر من خزينة الدولة إلى خزائن الأفراد النافذين، وهو فساد منظم، تتحدث عنه التقارير الدولية، وما عليك أيها القارئ الكريم إلا الدخول على موقع «غوغل» وسؤاله، أين يقع لبنان في مدركات الفساد على المستوى العالمي؟ الإجابة هناك أن لبنان هو رقم 136 من مجمل 176 دولة (عام 2017)، متراجعاً 13 درجة عن العام الذي سبقه. وإذا أخذنا الصيرورة العامة في احتياجات موسم انتخابي ساخن، فمن المتوقع (بعد روما وباريس) أن يتقدم موقع لبنان أكثر في سلم الفساد، لسبب بسيط وهو وجود السيولة المحتملة! من جديد توضع العربة أمام الحصان، وليس هناك في التحضير للمؤتمرين الدوليين أو الثلاثة القادمة من أجل لبنان، أي حديث عن «مكافحة الفساد»! هو الطبيعة الثانية للسياسة اللبنانية. لبنان الجميل أهميته أنه «مرآة» لمن حوله، ولكنه المرآة الأكثر شفافية والأكثر لفتاً للأنظار، لأن بعض سياسييه ما أن يختلفوا حتى يتبرع الواحد منهم لكشف عورة الثاني والزيادة عليها، وفي موسم انتخابي غير مؤكد النتائج، بسبب القانون الانتخابي الجديد ـ كثر ظهور العورات، واستخدمت تعابير وكلمات «سوقية» باتجاه أكبر الرؤوس وأكثرها مناعة آيديولوجية! المهم في قانون الانتخاب اللبناني الجديد، أن كل طرف من تلك الجزر السياسية تعتقد أن القانون هو في صالحها، رغم تعقيده، لكنه قانون ربما يحمل «موقفاً عصرياً» ولكن يمارس بسلوكيات تقليدية، فقد نشطت الماكينات السياسية من أجل التحشيد «الطائفي والمذهبي والعرقي والمناطقي» من أجل دفع المواطنين بهذا الاتجاه أو ذلك، والعجيب في الأمر أن تلك «الكتل» السياسية، قد تكون متحالفة في دائرة انتخابية، وفي دائرة أخرى محاذية تنقع السم إلى حلفائها، وقد يتحالف الأخصام من أجل الإطاحة بخصم ثالث أشد عداوة سياسية، وهكذا فمن الطبيعي أن يعطل عدم التجانس من إمكانية التوافق، كما أن الترسب المعقد لكل فئة سياسية، يحمل الصراع ليس بين المختلفين، بل وأيضاً بين المتماثلين!
إن أردنا أن نعرف ما هي أهداف الانتخابات المقبلة في لبنان فهي في ظني خنق القيم الجديدة والتضييق على أي نشاطات إيجابية للمجموعات التي ترغب في بناء دولة حديثة في لبنان، لصالح استمرار لبنان الطائفي كما استمرار الصراع غير المنظم بين مكوناته، من هنا جاء الإغراء لدراسة هذه الظاهرة العربية، التي تختلف فيها المسميات وتتشابه الأفعال.
آخر الكلام:
البناء السياسي في لبنان سوف يستمر على قاعدة «مكافأة القلة وحرمان الكثرة» فليس بعد الانتخابات إلا كثير من الحسرات!
في السبت 17 مارس - آذار 2018 01:39:31 م