|
طل علي عبدالله صالح على صنعاء من مكان ما، من كُوَّة ما، في مخبئه السري، الذي دخله مساء 26 مارس الماضي، يطل فيرى المدينة الجميلة وقد تشوهت معالم وجهها بفعل الحرب، لا ينسى أن يطوف بلمحة قصيرة على قصره في حي حَدَّه، وقد سوي بالأرض.
قال صالح مكابراً يوماً إنهم سيبنون ما دُمِّر، ولكن كيف يبني صالح الخراب النفسي والاجتماعي الذي حدث، إن افترضنا أنه سيعيش حتى يبني ما تم تدميره. كان صالح ذات يوما قاب قوسين أو أدنى من أن يكون زعيماً حقيقياً، لكن حنينه لدار الرئاسة، ومشورة أصدقائه الذين اتخذهم مؤخراً بعد أن ترك أصدقاءه القدامى، هؤلاء الأصدقاء هم سبب ورطته الحالية. الحقيقة أنه مع أصدقاء كهؤلاء، لا يحتاج المرء إلى أعداء!
تناولت شيئاً من القهوة يوماً مع سياسي يمني كبير من حزب صالح في لندن، قال لي ونحن نحتسي القهوة «صالح يعيش بعقلية القبيلي، هو شيخ قبيلة أكثر منه رئيس دولة»، أضاف «مؤخراً تملكت صالح روح الانتقام من خصومه الذين ثاروا عليه في 2011، رغبة الانتقام دفعته للتحالف مع الحوثيين، الذين دمروا الجيش والبلد برمتها».
ما يزال علي عبدالله صالح يرقب المشهد من كُوَّة صغيرة، يرى قوات الجيش اليمني الذي أكل أكثر من نصف ميزانية بلدنا، تتعرض لأعنف حرب غير متكافئة شهدتها الجزيرة العربية على امتداد تاريخها، بعد أن سلم صالح الجيش لعبدالملك الحوثي الذي انتقم منه بإدخاله في حرب غير متكافئة، لتصفية حساب قديم مع هذا الجيش.
خاطب الرجل الذي رقص مع الثعابين طويلاً، خلفه الرئيس عبدربه منصور هادي، بعد وصول الأخير إلى عدن مفلتاً من قبضة الحوثيين، بقوله إنه قد حدد لهادي منفذاً واحداً للهروب من اليمن «عبر البحر إلى جيبوتي». كان صالح ليلتها في كامل غرور الإنسان وكبريائه، لم يكن يتصور أن تسير الأمور على ما هي عليه الآن. كان شيخ من صنعاء طاعن في السن يشاهد صالح في التلفزيون، أثناء تهديده لهادي، مسح الشيخ الصنعاني لحيته الخفيفة، وقال في همهمة خفيفة: ترى هل سيكون لك أنت منفذ بعد أن سددتَ كلَّ المنافذ؟!
كان صالح يتحدث بثقة مبالغ فيها عن ضعف عبدربه منصور هادي، ومع ضعف كهذا من يحتاج إلى القوة. الضعف الذي جعل «الزعيم» مطارداً، ومطلوباً للثعابين التي رقص معها طويلاً.
مدَّ الرئيس السابق يده إلى عبدالملك الحوثي، طاوياً دماء آلاف الشهداء من الجيش قتلهم «سيد مَرَّان»، صم أذنيه عن نياح الأرامل، ومعاناة النازحين جراء حروب الحوثيين العبثية، مد يده ليتحالف مع زعيم مليشيا دينية طائفية عابثة، ظل صالح يقول عنها إنها من بقايا مخلفات عصور الإمامة. ذهب صالح بعيداً هذه المرة بتحالفه مع المليشيات ضد أبناء شعبه الذين غيرت آلته الإعلامية أسماءهم تبعاً للهوى الحوثي إلى «دواعش وتكفيريين».
يواصل صالح، إطلالته من الكُوَّة، ويحز في نفسه أن ينتهي الشوط الأول بعدة أهداف في مرماه، يحز في نفسه أن تتكاثر الأهداف في شِباكة وهو اللاعب الحريف الذي يلعب على أرضه، وبين جمهوره.
في 2011 استهدف صالح بتفجير مسجد الرئاسة في جريمة منكرة، خرج صالح حينها جسداً ميتاً، كتب الله له عمراً جديداً، لكن لم يكتب له روحاً جديدة، ظلت روحه القديمة ترتج داخل جسده، وظلت أحلام السلطة تراوده، حتى دفعته أحلامه إلى نسج خيوط تحالفاته مع الحوثيين. صالح مولع بالسلطة التي كان يقول عنها إنها «كرسي جهنم»، مولع بالزعامة لدرجة أنه تلقب بـ»الزعيم»، بدلاً من الرئيس السابق. «الرئيس السابق» وصف موحش، يعني في بلادنا ظلام القبر. سمعنا كثيراً أن علي عبدالله صالح رجل عبقري، خارق الذكاء، وسمعنا أنه وظف ذكاءه لصالح سلطته، لا وطنه، وسمعنا عن السفير الأمريكي السابق في صنعاء جيرالد فايرستاين قوله عن مراوغات صالح: يا إلهي هذا الرجل سبب لنا الكثير من الصداع.
ومرة قالت مذيعة تلفزيون العربية لصالح، في لقاء متلفز: إنك تخيف معارضيك، حتى وأنت خارج السلطة، وليلتها ارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة، ظهرت معها كل مكنونات صالح من الكبرياء والغرور.
لذا وصلنا إلى هنا، لأن صالح ذكي جداً أصبحت صنعاء مدينة أشباح، وأصبح صالح أحد أشباحها الخفية. ذكاء صالح المفرط، غروره المبالغ فيه، أوصلنا إلى قعر هذه الهاوية السحيقة المليئة بجثث الآباء وصراخ أطفالهم، وأنين مكبوت لأمهات عزيزات أذلهن الوقت العصيب.
الذكاء والدهاء ليسا كل شيء؟ أليست غلطة الشاطر بألف كما يقولون؟ ها هو صالح، وها نحن جميعاً ندفع ثمن هذه الغلطة من بنية الوطن والمجتمع التي نراها تنهار أمام أعيننا، بفعل مغامرات غير محسوبة قام بها التحالف المشؤوم بين علي عبدالله صالح، وعبدالملك الحوثي، اللذين دمرا صعدة بتقاتلهما، ثم دمرا اليمن بتحالفهما.
كان تلفزيون صنعاء يصف لفترة طويلة صالح بأنه «ابن اليمن البار»، واليوم يتساءل المرء: إذا كان هذا فعل الأبناء البارين، فكيف يا ترى يفعل عاصي والديه؟ لا أعتقد أن الكثير من اليمنيين يريدون مصيراً سيئاً لصالح، وأعتقد أنه لا يزال يحظى ببعض التأييد، لكن الكوارث التي لحقت بالبلاد بفعل سياساته لا يمكن لسنوات أن تعالجها.
هناك قول مقدس يؤمن به بنو إسرائيل، يقول: «لا تغضب ربك، ولا تهن رئيس شعبك»، ويتصور المرء أن الله غاضب مما يجري، وأن «رئيس الشعب» قد أهين، لكن صالح هو الذي جلب هذا الغضب، وهذه الإهانة.
في نهاية 2011 خرج علي عبدالله صالح بحصانة ضد أي مساءلة على أي عمل قام به هو أو أفراد أسرته، أو مساعدوه خلال ثلاثة وثلاثين عاماً من الحكم، ومع بداية 2015 أصبح صالح على قائمة العقوبات الدولية، ولم يكتف الداهية صالح بذلك، ولكنه أصر على عناده حتى دخل نجله معه في العقوبات، ومع استعار الحرب أصبح رأس صالح مطلوباً، لا أمواله فقط. كل هذا بفضل ذكاء الرجل الذي مكنه ذكاؤه من الرقص على رؤوس الثعابين 33 عاماً، قبل أن يصبح مطلوباً للثعابين ذاتها، بعد خروجه على قواعد الرقص المتعارف عليها.
في 2011 نشرت رسالة إلى الرئيس صالح، أطالبه فيها بالتنحي عن السلطة، اتصل بي حينها أحد مساعديه، يقول: ما هكذا تكتب الرسائل إلى الفندم! لو بعثتها لنا لسلمناها له، بدون ضجيج. قلت له: لو كنتم تسلمون مثل هذه الرسالة إليه، لما نشرتها في صحيفة!.
قفل الخط، وانتهت المكالمة، ولأن الرسالة لم تصل صالح، ولأنه شديد الذكاء، هاهو اليوم يعيش وحده بعد أن تخلى عنه الذين منعوا الرسائل من الوصول إليه.
انتهى المقال، ما زال صالح في الكُوَّة. ما يزال الشيخ الصنعاني يتساءل: كيف سيخرج صالح من الكُوَّة؟ كيف سيخرج اليمن من عنق الزجاجة؟
في الخميس 06 أغسطس-آب 2015 04:54:37 م