|
دار جدل عريض – ولايزال- حول مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وكان الصوت العالي السائد على ساحات التغيير وميادين الثورة في اليمن – على سبيل المثال- ذلك الرأي القائل إن مفهوم الدولة المدنية يقتضي تحقيق مبادئ العدالة والحرية والمساواة ورفض الظلم وقمع المعارضة، وتحكم النظام العسكري بمقاليد الأمور في البلاد، في مقابل تشجيع حق التفكير والتعبير، وإتاحة المجال لكل الأفراد والجماعات، من مختلف المشارب والاتجاهات، في ظل الثوابت اليقينية للمجتمع، لنيل الحقوق المشروعة من غير تمييز. وحين كان يصل الحديث إلى موقف هذه الدولة من الدّين ومفهومه الشامل، وكونه نظاماً تشريعياً ينتظم شؤون الإنسان والمجتمع، ويمتلك رؤية لقضايا الإنسان والكون والحياة والمعرفة والقيم ...إلخ فلم يكن يجرؤ أحد ليقول بخلاف ذلك أمام الرأي العام الثوري أو سواه، وإن ردّد بعضهم قدراً مما يتعارض مع ذلك في غرفهم المغلقة، وجلساتهم الخاصة، لكنه نظر إليهم على أساس أنهم الاستثناء أو الشذوذ الذي يؤكّد سلامة القاعدة. بيد أن ثمّة مجموعة محدودة تنتمي إلى الاتجاه الإسلامي العريض امتلكت رؤية معاكسة أخرى، انتظم بعضهم في صفوف الساحات والميادين، وكان صوتهم خافتاً، وربما مقموعاً من عموم الإسلاميين قبل غيرهم، وبعضهم اكتفى بالتأييد من خارجها، فيما فئة ثالثة اتخذت موقف الرفض الصريح أو شبه الصريح من الثورة ومبادئها، تلك التي من أخطرها –عندهم- كما عند الفئتين السابقتين من هذا الاتجاه المناداة بمفهوم الدولة المدنية الحديثة، وتثبيته في الدستور القادم الجديد، بحجة أن مفهوم هذه الدولة علماني متطرّف، لايعترف بسيادة الشريعة الإسلامية، ولا يقرّ للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية بمشروعية، وسيعمل المتحمسون لتطبيقه من غير الإسلاميين على إقصاء كل مخالف لهم من الإسلاميين، بل سيفتحون السجون والمعتقلات، إذا اقتضى الأمر ذلك، وسيزجون بكل معارض لهم من الإسلاميين – بوجه خاص- في أتونها، إذا ماتمكنوا من السيطرة على مقاليد الأمور، بدعوى أن المعارضين لها إنما يعارضون الدستور الذي أقرته أغلبية الأمة، ويخرجون – من ثمّ- على العقد الاجتماعي الذي من أبرز بنوده الاحتكام إلى مفهوم الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وليس وارداً عندهم الاحتكام إلى مرجعية الشريعة الإسلامية، وسيبحثون لمفهومها – إن وردت في الدستور القادم- عن ألف محمل وتأويل، خاصة حين ترد على نحو أنها مصدر من مصادر التشريع، أو مصدر رئيس، أو أن مبادئها المعتبرة هي مصادر التشريع – على نحو ما ورد في الدستور المصري عام 2012م- الذي يعمل الانقلابيون في مصر اليوم على تغيير نص هذه المادة – رغم مفهومها الفضفاض- !
هدية قوى التطرف العلماني والكهنوت الديني :
لقد كانت مثل هذه الأطاريح لمعارضي الدولة المدنية الحديثة محلّ استهجان سواد الإسلاميين الثوّار – بوجه خاص- غير أن مايتم اليوم على أرض الواقع في مصر – مثلاً- من تجسيد فعلي لكل ماكان بالأمس القريب مجرّد توجسات ومحاذير، يُتهم مردّدوها بالوهم والتجديف، وضيق الأفق، أضحى اليوم حقيقة ساطعة، ودليلاً مادياً ملموساً، تشهد لهم ببعد النظر، وسعة الأفق، بفضل مسلكيات الانقلابيين هنالك، وما لاقته من مباركة وترحيب بل استماتة من بعض رفاقهم من اليمين واليسار، ومعظم – إن لم يكن- كل القوى العلمانية، أو حتى تلك المتدثرة بـ(كهنوت ديني)، لكنها تقف على خصومة مفرطة مع الاتجاه الإسلامي الوسطي الغالب اليوم، سواء في مصر أم اليمن، أم كثير من دعاة الدولة المدنية الحديثة من غير الإسلاميين في دول المنطقة والعالم، الذين اصطفوا كتلة واحدة، إلى جانب الانقلابيين والقتلة في مصر، بل بعضهم لم يعد يخجل أن يرفع الشعار ذاته (الدولة المدنية الحديثة) على حين يدافع عن النظام المتوحش في سوريا وداعميه وأدواته في المنطقة، ويذهب للتنقيب له عن معاذير ومبرّرات في قتل شعبه وتدميرهم بمختلف أنواع الأسلحة، وآخرها الكيماوي، ليتباكى على السيادة، ويشتط في الدفاع عن كرامة الشعب السوري، من احتمال ضعيف في ضربة عسكرية أمريكية خاطفة لأوكاره ، وكأن ذلك هو المحظور فقط، أمّا أن يدمّر النظام البربري شعبه بكل الأساليب الجهنمية؛ فذلك ما لايستحق الشعب السوري وقفة واحدة معه، لأن نظام الأسد (الفاشستي) غدا نظام (ممانعة)، والمؤامرة عليه أضحت (كونية)!!
التراجع عن هوية الدولة:
زد على ذلك أن تنقلب بعض الأطراف السياسية في اليمن التي كانت محلّ إعجاب كثيرين داخل اليمن وخارجها في تجربة اللقاء المشترك، وأضيف إلى ذلك الإعجاب أكثر، حين كانت قد مضت أكبر مكونات اللقاء المشترك في تقديم رؤية أحزابها في إطار مؤتمر الحوار الوطني، تجاه شكل الدولة وهويتها (الإسلامية)، وكون الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات، قبل أن يضعف بعضها أمام ضغط لوبي التطرف العلماني المأزوم المحدود داخلها، متحالفة مع قوى الظلام والكهنوت المذهبي (المفضوح)، المنادي بعدم التنصيص على هوية الدولة الإسلامية، ناهيك عن اعتماد الشريعة الإسلامية مصدر جميع التشريعات بمعاذير مسفّة، وأبرزها لدى هذه الأخيرة بوجه خاص، أن التنصيص على ذلك يتعارض مع مفهوم (الدولة المدنية الحديثة) التي نادى بها الجميع في الساحات والميادين! ولا تستحيي هذه الفئة بعد ذلك أن تستمر في الدق على وتر نصرة الدّين، وترديد (مهزلة) الاجتباء الإلهي!
تأييد الانقلاب في مصر وتداعياته:
تبع ذلك مباركة صريحة لبعض تلك القوى للانقلاب العسكري في مصر، وسكوت بعضها الآخر المطبق على مجريات الأحداث هناك، مايعني إقراراً بكل تداعيات المشهد الانقلابي، بما فيه المجازر المتتالية وأشهرها مجزرة ميدان رابعة، ثمّ الاعتقالات والملاحقات للآلاف من قوى الشرعية الفائزة بالانتخابات والرئيس الشرعي مرسي، وإغلاق عشرات المنابر الإعلامية، وترهيب كل من يخطر له على البال مجرّد انتقاد للانقلابيين هنالك، وإعلان حالة الطوارئ، عبر الشهرين الماضيين، ثم تمديد شهرين آخرين منذ 12/9/2013م، ليمتد بعد ذلك إلى أجل لا يعلم نهايته إلا الله، ولا غرابة فنظام مبارك هو الذي عاد للحكم اليوم، ولكن بمباركة أغلب قوى الثورة (المدنية) داخل مصر وخارجها، مع أنهم كانوا يبرّرون تلك الإجراءات عقب الانقلاب، بأنها لن تزيد عن أيام قليلة محدودة، حتى يتم إعادة الأمور إلى نصابها، أي إلى التسليم بوضع الانقلاب وما وصفوه بـ(خارطة المستقبل)، وهو ماثبت عكسه تماماً!
مؤتمر اليسار اليمني عمّد المفهوم:
زد على ذلك أن يأتي مؤتمر اليسار اليمني في 29/8/2013م ليخرج بتوصيات من بينها أن تصبح المواثيق الدولية لحقوق الإنسان هي المرجعية الأساسية للتشريعات الوطنية، ولن أذكّرهم بأن من المعلوم أن المواثيق الدولية تتناقض في بعض بنودها مع مرجعية الشريعة الإسلامية، لأن جزءاً من فلسفتها صاغته قوى الهيمنة والاستكبار التي كان يصفها اليسار يوماً بـ(الإمبريالية) العالمية، لعل أكثرهم نسيها اليوم، بعد اقتحام عصر (العولمة)! كما لن أذكّرهم بمناداة جماعة (دينية مذهبية) خارجة عن معادلتهم في النظر إلى القوى (الدينية)، غدت متحالفة مع أكثرهم اليوم، وباركت مؤتمرهم، بموت أكبر دولة مهيمنة على قرارات هيئة الأمم المتحدة، وتفاخر صراحة أحياناً ولا سيما في أدبياتها برفضها لهيئة الأمم المتحدة ومواثيقها، لأنها تمثل قوى الاستكبار العالمية الحديثة. لكني فقط أسألهم وهل تجيز تلك المواثيق مايجري من فظائع ضدّ الإنسانية، ترتكب في حق الأغلبية الفائزة في الانتخابات في مصر اليوم؟!
كما طالبت التوصيات بإلغاء قيام الأحزاب على أساس ديني . وهنا بالله ماموقفهم من شريكهم الأكبر في اللقاء المشترك ؟ وكيف سيقابل توصية كهذه من حلفائه؟ وهل هذا مايبشرونا به في حال سيطرتهم على مقاليد الأمور؟ ولاتنسوا أنهم في ذلك ينطلقون من وحي مدلول (الدولة المدنية الحديثة)، وعلى خلفية انقلاب مصر.
وجاء في التوصيات كذلك إعادة صياغة المناهج التعليمية على أساس مدني ( تأمّلوا (مدني) ولو امتلكوا قدراً أكبر من الجرأة لقالوا (علماني لاديني)، ولست أدري ما الذي حال دون ذلك التصريح)، وإعمال ثقافة التسامح وحقوق الإنسان وتنقيتها من قيم التكفير والتمييز ضد المرأة على أن يكون التعليم قائماً على فلسفة تعزز الهوية الوطنية. وقارنوا آخر هذه التوصية بالتوصية الأولى (جعل المواثيق الدولية حاكمة على التشريعات الوطنية)، وقارنوا دعوتهم إلى ثقافة التسامح وحقوق الإنسان والتكفير... والتمييز ضدّ المرأة بما يجري اليوم في مصر وموقف أغلبهم من ذلك، وخاصة تلك الانتهاكات الفظيعة التي طالت المرأة المصرية، في أكثر من ميدان ومدينة، وكلها غير خافية على كل ذي سمع وبصيرة.
ولم يفت المؤتمر التوصية بإلغاء القيود والعوائق أمام تحقيق المواطنة المتساوية والحرية الشخصية القائمة على حق الفرد في تقرير مصيره واعتقاده، وكأن المشهد المصري – مرة أخرى- وموقف أغلبيتهم مما يعتمل هنالك في عالم آخر.
لم اللوم إذاً؟
بعد ذلك كلّه هل رأيتم هدية قدّمت لدعاة رفض الدولة المدنية الحديثة، أكثر من ذلك؟ وهل يجوز بعد الآن لومهم، ناهيك عن اتهامهم بأيّ من التهم التي كان يلصقها بهم خصومهم حتى من الإسلاميين المختلفين معهم في ذلك، أيام الثورة وما بعدها، وكانت تجد آذاناً صاغية من قبل كثيرين، وذلك قبل أن يأتي المشهد الانقلابي الفاضح في مصر، وأن يباركه أغلب خصوم الإسلاميين على ذلك النحو من القبح والفجاجة، وبذلك اتضح -أو هكذا سيقول خصوم مفهوم الدولة المدنية الحديثة- : أيّ الفريقين أصدق من الآخر؟ وأبعد نظراً؟ وأكثر عمقاً؟ والفضل في ذلك لقوى التطرف العلماني، وجبهة الكهنوت الديني !
في الإثنين 16 سبتمبر-أيلول 2013 04:04:47 م