المدنس وتجريف المقدس… الاستراتيجي في خدمة التكتيك
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 7 ساعات و 34 دقيقة
الخميس 30 يناير-كانون الثاني 2025 06:48 م
 

للاسم «فلسطين» وقع خاص، دلالات عميقة، تداعيات تاريخية، أبعاد دينية، ارتباطات رمزية، محتوى قِيَمي وسياسي، وأينما ورد ذلك الاسم، وفي أي سياق تموضع، فإنه يظل محفوفاً بمعاني المهابة والجلال والقداسة والروحانية والنضال من أجل الحرية وبقية العناوين الكبيرة.

وقد ظل للاسم بريقه الخاص لدى قادة كثر، في حركات تحرر عالمية، كما ظل الاسم يحمل الكثير لدى مثقفين ومفكرين وكتاب وشعراء وفلاسفة كبار، وحضرت فلسطين لدى قيادات المقاومة بصبغتها الدينية، وتحت رايتها قاتل كثير ممن آمن بعدالة تلك القضية، ومحتواها الإنساني الخالص.

غير أنه – وككل عنوان كبير – تَصدَّر العنوانُ الفلسطيني تفاصيلَ ومحتويات لا علاقة لها بالتداعيات النبيلة، والدلالات العميقة التي تنفتح عليها اسم فلسطين، في أبعادها المختلفة.

إذا كان اسم «فلسطين» يطلق على مكان مقدس عند كثيرين، فإنه – كذلك – أطلق على أماكن مدنسة، أماكن سيئة السمعة، لا تمتلك من مقومات القداسة والطهارة أي شيء، بل هي أماكن تفوح منها روائح كريهة، محملة بِعَطَن المسالخ البشرية، والمقابر الجماعية والتعذيب الرهيب.

وإذا كانت دلالات «فلسطين» تحتشد برمزيات النضال من أجل الحرية والانعتاق وكسر القيود والخروج من غياهب السجون، فإن هذا الاسم أطلق على أحد رموز الجريمة والسجن والقيود والموت تحت التعذيب، في واحد من أسوأ الفروع الأمنية في العالم، حيث أطلق اسم فلسطين على مسلخ بشري، حدثت فيه جرائم ضد الإنسانية، وأهوال تقشعر لها الأبدان، كان يمارسها نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد.

هنا يحدث الخلل، ليس على المستوى القِيَمي وحسب، ولكن على مستوى اللغة وتداعيات السياق، إذ تلتبس الدلالة بين «فلسطين» المنفتحة على القداسة والحرية، و«فلسطين» الملتئمة على دلالات الدناسة والاستعباد، وهنا يحدث الاعتداء، ليس على القيم التي تمثلها فلسطين، وحسب، ولكن على اللغة وقواميسها.

هناك في معاجم اللغة العربية ما يعرف بظاهرة التضاد، وهي أن تطلق الكلمة على المعنى وضده، مثل أن تطلق لفظة البصير على المبصر والأعمى، والذين أطلقوا اسم فلسطين على فرع أمني واستخباراتي، هو من بين الأسوأ – إن لم يكن الأسوأ – عالمياً من قام بهذا الإجراء، كان بالفعل يدرك حجم الجرم الأخلاقي والعبث اللغوي والتشويش المفاهيمي الذي يرتكبه، هذا الصنيع يشبه محاولة مكشوفة لبناء دار عبادة على مقبرة جماعية، لإخفاء معالمها.

وإذا ما أخذنا مفردة تعد جزءاً من مفردة فلسطين، على المستوى الجغرافي والدلالي، وهي مفردة «القدس» فإن هذه المفردة توحي – كذلك – في أصل وضعها بالقداسة والسمو الدلالي والطهارة الروحية، وبالتالي فإن التداعيات الدلالية لكلمة «قدس» هي تداعيات تدور ضمن نطاق الجمال والجلال، عند أغلب من يسمع بهذا الاسم الذي أطلق على مدينة هي في الأصل مقدسة.

 

هناك معنيان متضادان لكلمة «قدس»: الأول، ينفتح على دلالات القداسة المتضمنة في اسم مدينة القدس الفلسطينية، والثاني ينفتح على دلالات الجريمة المتضمنة في تسمية «فيلق القدس» الإيراني

 

ومع ذلك، فإن هناك دلالة أخرى لكلمة «قدس» دلالة مرتبطة بفيلق عسكري وأمني واستخباراتي، وكيان اقتصادي إيراني، أنشئ خلال الحرب العراقية الإيرانية، وارتكب ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ الكثير من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الموثقة، في العراق وأفغانستان ولبنان واليمن وسوريا ودول خليجية، ومن تلك الجرائم القتل والتفجير والتعذيب والتهجير وحرق المدن، ونشر الفتن الطائفية وتمزيق النسيج الاجتماعي في عدد من الدول العربية والإسلامية، عدا عن غسيل الأموال والارتباط بتجارة المخدرات.

وهنا نقف على مستوى الأداء اللغوي إزاء معنيين متضادين لكلمة «قدس»: الأول، وهو المعنى الأصلي، المرتبط بدلالات القداسة والطهارة، والثاني هو المعنى الذي أضافته للمفردة السياساتُ الإيرانية التي أطلقت اسم القدس على واحد من أكثر التشكيلات العسكرية جرماً، الأمر الذي أدى إلى حالة من التشويش القيمي والمفاهيمي لدى المتلقي الذي يسمع جرس الحروف الثلاثة المشكلة لمفردة «قدس» حيث تتشتت الدلالة بين إيجابية «بيت المقدس» وسلبية «فيلق القدس».

دعونا نأخذ مثالاً آخر يتمثل في تسمية «حزب الله» حيث أخذت الميليشيا التي أنشأتها إيران في لبنان هذه التسمية من آية قرآنية كريمة، جاء فيها: «فإن حزب الله هم الغالبون». والإشكالية هنا تكمن في ارتباط «المدنس/حزب» بالمقدس/الله» ذلك أن اسم «حزب الله» ورد مرتبطاً بالجرائم ذاتها التي ارتبط بها اسم «فيلق القدس» الإيراني، وهنا يكمن التضاد بين المعنى الديني القرآني، والمعنى السياسي الميليشياوي الذي تجسده تلك الميليشيا التي نقشت على رايتها آية قرآنية، رغم أن الراية أصبحت رمزاً للشر، لدى جماهير سورية وعراقية ويمنية ولبنانية واسعة. وفوق ذلك فإن النص القرآني يؤكد على أن «حزب الله هم الغالبون» ولكن الميليشيا المعروفة بهذا الاسم هُزمت، الأمر الذي يجعل المؤمنين يتساءلون: أين الخلل؟ هل الخلل – معاذ الله – في الآية القرآنية التي وعدت «حزب الله» بالنصر»؟ أم أن الخلل في الادعاء العريض الذي ادعته لنفسها ميليشيا طائفية، أرادت أن تغطي جرائمها بآية قرآنية نقشتها على راياتها التي خفقت على ركام مساجد القصير وحمص وحلب وغيرها، تماماً، كما خفقت رايات أخرى لميليشيا اسمها «أنصار الله» على مساجد هدمتها ميليشيا إيران الحوثية في اليمن

قبل سنوات نشرت وسائل إعلام إيرانية خبراً مثيراً في عنوانه، يتحدث عن تهم فساد بمليارات الدولارات وُجِّهت لـ«خاتم الأنبياء» وهو عنوان مسيء، لولا أن التهم بالفعل وجهت لشركة يملكها الحرس الثوري الإيراني، تحمل اسم «خاتم الأنبياء» وهي إحدى الشركات المتهمة بارتكاب «أكبر عملية احتيال في تاريخ إيران» حسب الصحافة الرسمية.

كل ما سبق يشير إلى حجم الجريمة التي نرتكبها عندما نطلق تسميات مقدسة على تنظيمات أو ميليشيات أو مؤسسات مدنسة، ارتكبت جرائم موثقة، تماماً، كما شكلت الصهيونية العالمية جيشاً من عصابات إرهابية معروفة، ثم أنشأت به دولة احتلال، أطلقت عليها اسم نبي من الأنبياء العظام، وهو الذي يضرب به المثل في الصبر والشفقة والحكمة، لتتشتت دلالة «إسرائيل» بين نبي كريم، مرتبط بالمقدسات الدينية، ودولة احتلال مرتبطة بالمدنسات السياسية، قادتها مطلوبون لمحكمة الجنايات الدولية.

هنا تبدو خطورة استعمال تسميات مرتبطة بالمقدس، وإطلاقها على مؤسسات أو تنظيمات أو دول مرتبطة بأعمال مدنسة، الأمر الذي يشوش الصورة، ويشتت الأذهان، ويهز من قداسة ورمزية تلك الأسماء التي تُمارَس تحت غطائها أفعال شنيعة وجرائم بشعة.

إنها عقلية تحويل العناوين الاستراتيجية إلى محتويات تكتيكية، والتعامل مع الغايات المقدسة باعتبارها وسائل مدنسة، الأمر الذي يؤدي إلى خداع قطاعات واسعة من جماهير تلك العناوين، كما يؤدي -وهذا هو الأخطر- إلى إفراغ تلك العناوين من محتوياتها، لدى شرائح كبيرة من تلك الجماهير، تمهيداً لانتزاع القضايا المقدسة من أصحابها، ومن ثم تبنيها والتحدث باسمها، لا لخدمتها، ولكن لكي تضفي على من يتبنونها مشروعية، تعطيهم الحق في التسلط والسرقة والقتل والاحتلال، تحت عناوين براقة مرتبطة بالمسميات والقضايا المقدسة؟