مراجعة واجبة في الموقف من الثورات العربية
بقلم/ علي الظفيري
نشر منذ: 12 سنة و 11 شهراً و 23 يوماً
الأربعاء 16 نوفمبر-تشرين الثاني 2011 06:19 م

طرأت على هامش الثورات العربية قضايا جدلية وملحة تستدعي نقاشا مكثفا حولها، وهي ترتبط غالبا بالموقف من الثورات العربية المختلفة وليس بطبيعة الثورة ذاتها، إذ أن جموع المحتجين في البلدان العربية مشغولون بفعلهم الاحتجاجي اليومي وتحقيق أهدافهم، لكن مواقفهم ومطالبهم وطبيعة الأحداث التي يعايشونها تتأثر دون شك بشكل أو بآخر بهذا الفضاء المحيط الذي يشكل الرأي العام الجماهيري والرسمي، حتى أصبح الموقف من الثورة فاعلا رئيسيا ومؤثرا في الثورة نفسها وما تنتهي عليه، أفترض هنا أن الموقف الشعبي الخليجي من الاحتجاجات في البحرين سهّل للموقف الرسمي الخليجي المناهض والرافض لها، والذي تمت ترجمته على الأرض في البحرين، كما أن الموقف الشعبي من الثورة السورية حرك المواقف الرسمية العربية والخليجية على وجه الخصوص، وهذا ليس استنتاجا فقط، ما نقله لي "نصاً" أحد الحاضرين في الاجتماعات العربية مؤخرا حديثُ مسئول عربي كبير عن الرأي العام الضاغط في بلاده تجاه إدانة النظام السوري، علما أن تجاهل الرأي العام في القضايا سمةٌ رئيسيةٌ من سمات الحكم في بلاده!.

يمكن تلخيص القضايا الملحة في العناوين التالية، الموقف من الاستبداد والموقف من الديمقراطية والموقف من التدخل الأجنبي والموقف المذهبي أو الطائفي، وهذه القضايا متشابكة ومتداخلة مع بعضها البعض بشكل يصعب الفصل بينها في النقاش، لكن ذلك ليس مستحيلا على الأقل ..

* في الموقف من الاستبداد تتكشف لنا التناقضات الكبيرة في مواقف الأفراد والتيارات من الثورات العربية المختلفة، هناك تيارات دينية رأت في الثورة الليبية خروجا على ولي الأمر، ودافعت بشكل صريح أو خفي عن النظام الليبي وعن معمر القذافي كولي أمر المسلمين في بلاده، وكان لهم نفس الموقف من الثورة المصرية، إذ دعموا بشكل صريح نظام حسني مبارك، أو تغاضوا في أحسن الأحوال عن إدانته ودعم المحتجين المصريين ضده، وهي التيارات التي عادت لاحقا لتقول إن الثورة الليبية كانت من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية! رغم أن أحدا لم يشاهد عبارة واحدة تتحدث عن تطبيق الشريعة طوال عمر الثورة الليبية، والنقاش ليس في مسألة تطبيق الشريعة من عدمها، فهذا موضوع مختلف ومنفصل عن حديثنا وله نقاشه المستقل، ما أردت التأكيد عليه الموقف المتناقض من الاستبداد في التغاضي أو التبرير لمبارك وزين العابدين والقذافي، لنشهد بعد ذلك تحولا لافتا وجذريا في الثورة السورية، حيث كان الدعم غير المسبوق من اللحظة الأولى، وهو دعم محمود ومبارك لو كان في مواجهة الاستبداد، لكنه جاء خلاف ذلك ممن وقفوا صامتين أو مبررين في الثورات السابقة وانفجرت طاقاتهم الكامنة في الحالة السورية، والأسباب واضحة وتتمثل في الحاكم العلوي وتحالفه الوثيق مع حزب الله وإيران الشيعيين، نحن لسنا هنا أمام موقف مبدئي ضد الاستبداد، بل أمام مناهضة مشروطة بهوية وانتماء ومذهب وتحالفات الحكم المستبد، وبالمناسبة هو ومن يتحالف معه من حزب الله والشيعة في البحرين والكويت والعراق وإيران مدانون بلا أدنى شك، لكن مناهضة الاستبداد لا تتوقف عند الحاكم العلوي والشيعي، بل تمتد إلى كل مستبد وكل استبداد، وهذا ما يمكننا الفرز من خلاله اليوم، المناهضة المبدئية للاستبداد في كل مكان، والمناهضة المشروطة له!.

* هل ندعم الثورات من أجل الديمقراطية أم من أجل رحيل المستبدين الماثلين أمامنا ؟ المستبدون مستفزون ومنفرون قطعاً لكن ماذا بعد رحيلهم ؟ أم أننا نتمنى رحيلهم بأي ثمن فقط ودون رؤية واضحة لما بعد ذلك؟ مشهد القتل اليومي والدماء وصراخ النساء والبكاء يعذب النفس الإنسانية ، لكنها لم تكن موجودة قبل الثورات ، فهل نقف في صف الثورة من أجل وقف القتل ؟ لم يكن هناك قتل بهذا الشكل قبل الثورات لو تذكرنا ، ومن خرجوا في الشوارع لم يخرجوا من أجل إيقاف القتل لأن خروجهم كان سابقا له ، ببساطة شديدة خرج الناس من أجل هدم النظام المستبد القائم وبناء نظام جديد يحكم حياتهم وعلاقاتهم وينظمها، ليس بالضرورة أن تكون الديمقراطية شعارا للمحتجين، فكل ما يطالبون به يفضي إلى ذلك، لكن من يساندون الثورات ويدعمونها لا يفعلون ذلك، بعض التيارات الإسلامية في منطقة الخليج ابتدعت فكرة تطبيق الشريعة الإسلامية وعممت هذا على الثورات التي قام بها غيرهم ! بدأت محاكمة الغنوشي والنهضة على هذا الأساس، وانقلب الموقف من الثورة الليبية بعد أن ظهرت بوادر الإسلاميين تتسيد المشهد الجديد، وكان خطاب التحرير الركيك لمصطفى عبدالجليل محط الحفاوة والتقدير لأنه أشار لمسألة تعدد الزوجات والنظام الربوي، وهو ركيك ليس لإشارته الدينية هذه، بل لأنه ركيك كخطاب سياسي يتوج ثورة دموية طويلة ويدشن عهدا جديدا في بلاده، وأصبحنا نحن من يقول هذه الثورة كذا وكذا وقامت من أجل كذا وكذا! في تجاوز مرير لواقعنا البشع مقارنة بما يجري حولنا، وفي تطفل سخيف ومحدود المعرفة على شؤون الآخرين الذين يعرفون جيدا ماذا ثاروا من أجله ! الموقف من الديمقراطية نقطة فرز رئيسية في الموقف من الثورات العربية، والربيع العربي موجة تحول كبرى نحو الديمقراطية التي أتاحت للإسلاميين في تونس ومصر وليبيا دخول العملية السياسية وقيادتها أيضا، وأمام أوهام وأحلام ونقاشات تطبيق الشريعة – بالصورة المناسبة لكل رافع شعار - والتي ما قامت دولة إسلامية بعد الخلافة الراشدة إلا تحت عنوانها، وما الفساد الملياري والسرقات والخيانات والقتل والتعذيب والسجون والعبث والتفرد بقرارات الأمة إلا شاهدا على كيفية استغلال الأنظمة السياسية للشريعة مطية لها في فرض سيادتها وحكمها الجائر مع الحفاظ على الشكل الذي يسكت تلك الأصوات المنادية بأدنى شكل ديني يسمح لها بالتغاضي عن كل ما يخالف الدين، الديمقراطية حامية الدين وراعية له وللمنتسبين له ولا تسمح أبدا باستغلاله تحت أي شعار، وتعمل جاهدة على منع كل ما يخالف أساسات الإسلام التي جاءت من أجلها الرسالة المحمدية السامية، الديمقراطية تصون شريعة الله في الأرض وتحمي معتنقيها وتساوي بينهم ولا تفعل العكس!.

* الموقف من التدخل الأجنبي - وفي الثورة السورية - على وجه الخصوص أصبح نقطة اختلاف كبرى، هناك من يرفع شعار التدخل من أجل قتل هذا الطاغية في دمشق بأية طريقة، وهو لا يلام أبدا في مشاعره، وهناك من يتمناه اليوم قبل الغد لإيقاف شلال الدم اليومي في سوريا، وهذا لا يلام أبدا في مشاعره النبيلة، وهناك من لا يفكر في تبعات التدخل وما قد يفضي له في بلاد لها ما لها من الحساسية والتعقيد في موقعها وتداخلاتها، إضافة لما يترتب على هذا التدخل الأجنبي في قضية الموقف من المواجهة مع إسرائيل والأثر المتوقع على حركات المقاومة، وهنا تختلط الأوراق بشكل كبير، حماس حركة مقاومة رعاها ودعمها النظام السوري وحزب الله - الذي هو أيضا حركة مقاومة في مواجهة إسرائيل – لكنه تحالف بالكامل مع الاستبداد لظروفه الخاصة ولعدم استقلاليته وتبعيته المطلقة لإيران، هناك من يتمنى التدخل الأجنبي للقضاء على المقاومة الشيعية دون إشارة للمقاومة السنية المرتبطة جذريا وسياسيا وماليا وعسكريا بالمقاومة الأخرى! هناك من لا تعنيه فكرة المقاومة من أساسها وكان قد وقف موقف المناهض لحزب الله في مواجهة إسرائيل، وهذا تعنيه وتلح عليه وتعميه مسألة دحر الأحزاب الشيعية عن أي مسألة أخرى، ودعونا نعيد ترتيب الأمور هنا بطريقة واضحة ، المقاومة تعزز السيادة وعودة فلسطين أو حل قضيتها بشكل عادل على الأقل، ويفترض بالديمقراطية أن تدفع بهذا الاتجاه عكس الاستبداد الذي استخدم القضية الفلسطينية شعارا له دون أن يسهم في حلها أو الدفاع عنها بشكل جدي، بل ارتضى بقاءها دون حل كأحد العوامل المساندة لبقاءه واستمراره على هذا الحال طوال العقود الماضية، هنا تكون الثورة التي ندعمها من أجل الديمقراطية واحتضان المقاومة واستقلاليتها عن إيران وغيرها، وهذا يأخذنا بعيدا عن استسهال فكرة التدخل الأجنبي الذي نعرف سلفا اشتراطاته وانحيازاته! الديمقراطية ليست عدوا للمقاومة، بل سندا وداعما لها وفاصلا بينها وبين الاستبداد.

لا يمكن لداعم الثورات أن يحارب المقاومة لأسباب مذهبية وأن يستسهل فكرة التدخل الأجنبي لتصفية حساباته مع الطائفة الأخرى! الشيعة استعانوا بالأجنبي في العراق ضد الخصم المذهبي لهم كما يظنون، ودعمهم حزب الله ودعمتهم إيران ولم تنتج لنا تلك الحالة سوى ما رأيناه ونراه اليوم في العراق من احتراب طائفي تستفيد منه إيران وتركيا والولايات المتحدة، هل يفعل السنة ذلك وينتقمون من الشيعة والعلويين في سوريا بنفس الآلية، هل ينتج ذلك تحولا ديمقراطيا يجعلنا نعيش باستقرار وسلام وسيادة !

هذه نقطة فرز أخرى وكبرى في الموقف من الثورة السورية، الدعوة إلى التدخل الأجنبي والموقف المذهبي والرغبة بالانتقام من الخصم الداخلي "الشيعي" نظير الخسارة في مكان آخر لا تأخذنا إلى ما تنشده الثورة الحقيقية، الثورة الديمقراطية المدنية السلمية التي تنتقل بالمجتمع لنظام حكم جديد قائم على العدل والمساواة والسيادة والاستقلال.

الثورة من أجل الديمقراطية ..

الثورة من أجل المقاومة وتحرير فلسطين ، وحماية المقاومة من أن تكون ذهبية وتابعة للأجنبي ..

الثورة من أجل الجميع وليس من أجل طائفة ضد طائفة ..

الفرز بين المواقف في الثورات العربية مهم بقدر أهمية الثورة ذاتها ..

وأستطيع القول بعد هذا الشرح المطول أن قدرتي على الفرز بين من يدعم الثورة من أجل الأهداف النبيلة المتفق عليها وبين من يدعمها لأسباب تخصه وحده ، باتت أكثر وضوحا .