|
لا توجد قضية في العالم أكثر وضوحا من القضية اليمنية، قضية يسهل فهمها ووصفها بمجرد قراءة الأحداث المفصلية التي مرت بها. حتى قضية داعش قد يشوبها الشك في كونها ردة فعل على طائفية نظام المالكي في العراق، لكن القضية اليمنية واضحة بما لا يدع لدى كل ذي عقل أي شبهة. ذلك أنها قضية جماعة متمردة لا تمثل حزبا سياسيا ولا جمعية خيرية ولا أي منظمة مدنية، بل مليشيا مسلحة بلا مرجعية دستورية ولا قانونية نسفت العملية السياسية في البلاد, ونفذت انقلابا اسستحوذت فيه على السلطة بالقوة ونهبت في لحظة ذهول سلاح الدولة. وضربت عرض الحائط بكل الأعراف السياسية ونكثت بكل العوهد وانقلبت على كل الإتفاقات بقوة السلاح، حتى الحركة الحوثية نفسها لا تستطيع وصف نفسها إلا بكونها حركة تمرد وكذلك يفعلون.
تمثل الحركة الحوثية أقلية داخل أقلية في اليمن، وهي تدرك ذلك جيداً. ويحركها ذلك السر الخطير الذي يعرفه الجميع, ويعترف به في كل أفعاله قائدها الحوثي الصغير: وهو أدعاء الحق التأريخي من أجل الوصول الى السلطة، والإستمرار فيها بلا نهاية. نشأت الحركة الحوثية في جبال مران في صعدة وظلت تتوسع حتى وصلت الى قصر المعاشيق في عدن. وخلال هذه المسيرة مرت بمحطات كان يتغير فيها – لا يتغير فقط بل يتناقض- فيها كل شيئ من خطابها الإعلامي الى ثلاثيات أهدافها، من عدد مناصريها الى الى شبكة تحالفاتها. ولم يستمر معها على طول خط مسيرتها إلا التفجير واستخدام السلاح. لقد سيطر الحوثيون على صعدة بحجة أن الدولة تمارس القمع ضدهم وأن من حقهم الإعتراف بهويتهم الثقافية. وبعد أن استتب لهم الأمر في صعدة بدأوا بممارسة القمع مع الإقليات هناك فهجروا طلاب دماج بحجة أنهم جاءوا من بلدان مختلفة وطلبوا عودتهم الى بلدانهم وحينما تم قبول ذلك، أصروا على إغلاق دار الحديث في دماج وطلبوا عودة الطلاب اليمنيين الى قراهم بحجة أنهم أجانب أيضا، وعندما اجتاحوا عمران وصنعاء وإب وتعز البيضاء ومأرب وبقية مناطق الجمهورية حتى أبين وعدن، لم ينظروا الى أنفسهم على أنهم أجانب في هذه المناطق بل وطنيون كما يشاءون.
تغير خطابهم الإعلامي عند اقتحامهم عمران، حيث أصبح السبب لحظي متعلق بتغيير المحافظ وإقالة القشيبي قائد اللواء 310 المرابط هناك في عمران. ولما تم لهم ذلك اتجهوا الى صنعاء وولدوا ثلاث أسباب جديدة: إسقاط الجرعة وإسقاط حكومة باسندوة وتطبيق مخرجات مؤتمر الحوار الوطني. ثم اجتاحوا بقية مناطق الجمهورية بحجة محاربة الدواعش. أنقلب الحوثيون على اتفاق تهجير الطلاب السلفيين من دماج، فاحتاحوا عمران, أنقلبوا على اتفاق عمران فجتاحوا صنعاء وفي صنعاء انقبلوا حتى على اتفاق السلم والشراكة الوطنية الذي وقعته القوى السياسية وبنادق الحوثيين فوق رؤسها فاعتقلوا أعضاء الحكومة ووضعوا الرئيس والحكومة تحت الإقامة الجبرية ومنعوا مجلس النواب من الإجتماع. كما انقبلوا على كل شيء حتى مخرجات مؤتمر الحوار الوطني تلك التي كانت إحدى حججهم عن اجتياح صنعاء. فجر الحوثيون بيوت خصومهم ومساجدهم ومدارسهم، وقتلوا كل من يقف ضدهم وفخخوا أجساد الموتى وسحقوا كل شيء أمامهم، اعتقلوا حتى من لا يجيد استخدام السلاح كالإصلاحي محمد قحطان وهو الذي كان مفاوض لهم وكان في مفاوضات سابقة يقف الى جانبهم، يمارس الدبلوماسية فقط .
السؤال الذي يطرح نفسه الآن، هو إذا كان الحركة الحوثية قامت بكل ذلك، فلماذا لم يتم تصنيفها كجماعة إرهابية، لماذا لم التعامل معها بنفس طريقة التعامل مع داعش برغم صدور قرار دولي ضدها تحت الفصل السابع؟ لماذا لم يتم تشكيل تحالف دولي واسع مشابه للتحالف الدولي ضد داعش؟ بالطبع فإن أول ما يتبادر الى الذهن هو الفارق الطائفي، حيث إثيرت الكثير من النقاشات في الفترة الأخيرة عن سبب تصنيف التطرف الإسلامي السني المتمثل في القاعدة وداعش إرهاباً بينما يتم التغاضي عن حركات التطرف الإسلامية الشيعية كالحشد الشعبي في العراق ومؤخراً إضيف إليها الحركة الحوثية للأسف. أنا هنا لا أميل الى هذا الرأي، وإن كان في جانب منه صحيح، وخاصة إذا تم النظر إليه من زاوية سعي القوى العالمية لتشجيع تمكين الأقليات في حكم المجتمعات في المنطقة العربية لخلق حالة دائمة من اللإستقرار. يمكن الإجابة على السؤال السابق من خلال النظر الى الفوارق الموضوعية بين الحركة الحوثية من جهة والقعادة وداعش من جهة أخرى، وذلك من جانبين الأول المتعلق بالعقلانية والثانية الإنضباط والسيطرة.
هل الحركة الحوثية حركة عقلانية؟ بمعنى هل تقدم على خطوات محسوبة من حيث الأرباح والخسائر؟ غني عن القول أن داعش تنظيم غير عقلاني لا يتحمل أي مسؤولية ولا يأبه إذا عادى العالم كله وكذلك القاعدة. فهل التنظيم الحوثي مشابه لها في عدم عقلانيته؟ لمعرفة ذلك يمكن تقسيم التحليل إلى مستويين: الأول المستوى الدولي، والقصد هنا هو طريقة التعامل مع الدول الغربية ومصالحها من قبل الحوثية وداعش. فبخلاف داعش التي تبنت عمليات إرهابية في عدد من الدول الغربية منها فرنسا وبلجيكيا وغيرهما، وتم إبطال أخرى في دول أوربية عدة وبخلاف القاعدة، فإن الحوثية تتبع سياسة عقلانية تجاه الدول الغربية ومصالحها وإن كانت في خطابها الإعلامي متفوقة على داعش في مجال التحريض والقتل. فبرغم احتواء شعارها الشهير على عبارة (الموت لأمريكا) إلا أنها تبدو أكثر حرصاً على حياة الأمريكيين وأكثر عقلانية في تعاملها مع المصالح الأمريكية، التي اختبرت فيها على الأقل. فقد دخلت في مفاوضات مباشرة مع الأمركيين وبشكل علني وحضي ممثلوها بلقاءات على مستوى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وتم الإفراج عن رهائن أمركيين هبة وبدون مقابل بجهود دول وسيطة، مما يثير الشك في سبب اعتقالهم أصلاً. ولكن المثل الأقرب الى وصف هذه الحالة هو عدم المساس بالمصالح الأمريكية عند احتياح صنعاء. فبرغم أن الحوثيين كانوا في قمة النشوة بالنصر الذي حققوه إلا أنهم تركوا السفارة الأمريكية واتجهوا الى جامعات الإيمان لتدميرها وإنهاء كيانها. كما توجهوا الى الجمعيات الخيرية ومنازل مناوئيهم المحتملين ولم يسلم منهم أحد. وهذا ما يفسر عدم تصنيف الأمريكيين لحوثية كجماعة إرهابية، بل وفيما بدا وكانه التحالف معهم بتسيق الضربات الجوية بينهما في محاربة عناصر القاعدة في اليمن. لقد صرح قائد القوات الأمريكية المشاركة في التحالف الدولي لقتال داعش أنهم قتلوا حتى حينه - قبل شهرين تقريبا- 45 ألفاً وذلك في إطار الحرب عليهم، ولا يمكن تصور أن يجلس السيد جون كيري وزير الخارجية الأمريكي الى جانب البغدادي ومساعديه؟ ولكنه فعل مع الحوثيين. شعارات الحوثية المرتبطة بالعداء لأمريكا والموت لها هي للإستهلاك المحلي فقط والحوثيون في المستويات العليا يعرفون ذلك، ولكن المستويات الدنيا مصرون على إقحام الأمريكيين في الحرب التي يقودها التحالف العربي لإعادة الشرعية في اليمن.
المستوى الثاني وهو المستوى الوطني حيث لا عقلانية في تعامل الحوثيين بهذا المستوى على الإطلاق، ولا تحمل لأدنى حد من المسؤولية. والسياسات التي اتبعها الحوثيون خلال مسيرتهم من صعدة الى عمران ثم صنعاء فتعز وعدن، تؤكد بأنها حركة إجرامية مثل داعش تماما. أدرك الحوثيين عدم رغبة الدولة والمجتمع في اليمن في خوض حرب ضدهم وإعطاء مساحة أكبر للسلم الأهلي، فاستغلوا الفرصة للوصول الى ما أقصى ما يستطيعون الصول إليه ولو كان في ذلك مخالفة لكل المبادئ والأعراف السياسية والأخلاقية التي يحتكم إليها المجتع اليمني. لقد كانت تقديرات الحوثيين في مجملها صائبة وعدم عقلانيتهم بهذا المستوى أتت كلها، لذلك استطاعوا السيطرة على الدولة بتلك السرعة. لم تخن الحوثيون تقديراتهم إلا عن اتجاههم للتحرش بالمملكة العربية السعودية، حيث لم يكونوا يتوقعون أن يكون الرد بها الشكل، وقد صرح زعيم الحركة عبد الملك الحوثين بنفسه بذلك. تبدأ عدم عقلانية الحركة الحوثية من المنطلقات الفكرية والأيدولوجيا التي تؤمن بها، ذلك أنها عقائد مرتبطة بشيء من التأريخ الذي يمكن التفاهم معه حالياَ كما لا يمكن إيجاد الحلول الوسط التي أكثر آليات حل المشاكل انتشاراً في هذا العصر. كيف يمكن إقناع الحوثيين بأن دعوى الحق الإلهي بالحكم باطلة، وأنني كشخص آخر لا أؤمن بما يدعون، وأنه ليس من حقهم أن يفرضوا علي معتقداتهم كيفما كانت صائبة أو خاطئة. في حديث مع أحد الحوثيين المؤدلجين قال أن حقنا في الحكم من معتقداتنا التي لا تنتازل عنها، قلت له ولكن ذلك قد يؤدي الى حروب لا تنتهي قال ومالمشكلة إما أن يعود الحق أو تدوم الحروب الى الأبد. فبالله عليكم كيف يمكن التفاهم مع ناس مثل هؤلاء؟ ولا تنتهي عدم عقلانية الحوثية عند ممارساتها بل تتجاوزها الى ما بعد ذلك. الى الحروب التي يخوضونها، حروب بلا هدف وبلا سبب. سواء على المستوى المحلي أو المستوى الخارجي. لقد بح صوت الإستاذ خالد الرويشان وهو يسألهم ما الذي تريدونه من تعز؟ ولكن لا إجابة ولا أظنهم يعرفون. أما في حروبهم الخارجية أو لنقل علاقاتهم الخارجية فطامة أخرى. أدخلوا أنفسهم في حرب طرفاها واضحين تماماً ولكنهما أيضا غير متكافئين بتاتاً. ففي الطرف الأول الحوثيون وبقايا على عبد الله صالح ومن الطرف الآخر الشعب اليمني ودول الجوار والتحالف العربي وللواحد أن يتخيل الفارق. فبعد ربع ساعة من بداية الحرب خرجت القواعدة الجوية عن الخدمة تماما ونحمد الله على ذلك وإلا لكانت تلقي بالبراميل المتفجرة فوق المدنيين في تعز ومأرب وغيرها. إن مقاومة الحوثيين لحد الآن لا تعكس فقط قوتهم، ولكنها تعكس أيضا عدم عقلانيتهم. فسبب مقاومتهم حتى الأن هو أنهم أخذو الشعب اليمني رهينة، وجعت التحالف يتعامل معهم كالتعامل مع لمجرم الذي يحتجر رهائن ويهدد بقتلهم.
الفارق الثاني هو الإنظباط والسيطرة، تعمل الحركة الحوثية في ظل علاقة قوية بين قيادة الحركة وأتباعها. ففي الوقت الذي تطلب قيادة الحركة من أتباعها التصعيد يصعدون وعندما تطلب من التهدئة يستجيبون. وهي بذلك تختلف (بالتأكيد) عن القاعدة و(على الأغلب) عن داعش، حيث أن القاعدة خلايا متفرقة تعمل بنفس الآلية لا يمكن السيطرة عليها أو الأتفاق معها، ومثلها داعش أيضاً. إن البناء التنظيمي لداعش والقاعدة ووسائل تواصلهما مجهول وكذلك نوعية العلاقة بين القيادة والأتباع غير واضحة المعالم ولكن آليتها في العمل واضحة، بتفيذ العمليات الإنتحارية والتفجيرات ضد أعدائها متى استطاعت الوصول إليهم. إذا كانت الحركة الحوثية لا عقلانية فهي حركة إرهابية أيضاً، إذا تم النظر إليها من خلال أفعالها في على المستوى الوطني أو الإقليمي وليس من خلال تهديدها للمصالح الغربية. فعلى المستوى الدولي تصبح عقلانية لدرجة مبالغ فيها. ولكن للأسف الأخير هو معيار التصنيف المعمول به. العقلانية تجاه المصالح الغربية هي بالضبط ما يريده الأمريكيون والقوى الغربية من أعدائهم، بشكل عام ومنهم الحوثيون بطبيعة الحال، فهي تجعل التفاهم معهم ممكناً. ذلك أنه يمكنها أن تتعامل معهم بطريقة التعامل مع القطط، تحاصرهم من جميع النواحي وتترك مخرجاً وحيدا هو المخرج الذي تريده هي، فيخرجون منه وهم يظنون أنهم حققوا انتصاراً كبيراً.
في السبت 03 ديسمبر-كانون الأول 2016 04:08:15 م