الضحية جلاداً
بقلم/ د. محمد جميح
نشر منذ: 7 سنوات و 6 أشهر و 25 يوماً
الجمعة 21 إبريل-نيسان 2017 02:01 م
«طفل في بيجاما مقلمة» أو The Boy in the Striped Pyjamas، هو عنوان فيلم سينمائي من إخراج مارك هيرمان، وبطولة فيرا فارميغا وديفد ثوليس، ومأخوذ من رواية للكاتب الروائي الآيرلندي جون بوين.
تدور أحداث الفيلم في ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية، حيث ينتقل الطفل برونو (أسا بوترفيلد)، ذو السنوات الثماني، وهو نجل أحد جنرالات جيش النازي مع أسرته من برلين إلى مكان قريب من أحد معسكرات الاعتقال التي كان النازيون يجمعون فيها اليهود قبل إرسالهم إلى «أفران الغاز»، في واحدة من أبشع جرائم الحرب على مر التاريخ.
كان الهدف أن يشرف الضابط على عمليات حرق الأفران التي تعرض لها اليهود. وخلال تلك الفترة كان برونو يخرج من منزل والده، ويعبر مسافة قصيرة إلى أن يصل إلى حدود معسكر الاعتقال. وفي إحدى المرات، وبدافع الشغف الطفولي، تعرف برونو على الطفل «شمويل (جاك سكانلون)، وهو يهودي في عمر برونو، ونشأت بينهما صداقة يمنعها القانون النازي في حينها.
تكررت اللقاءات التي كانت تتم بينهما، ومرة تجاوز برونو الأسلاك الشائكة، ودخل لصديقه شمويل الذي جهز له ملابس المعتقلين التي كانت تشبه البيجاما المقلمة، حتى لا يشك أحد بوجود صبي من خارج معسكر الاعتقال.
ولسوء حظ برونو وأسرته أنه في ذلك اليوم أخذت دفعة من اليهود، وتم إداخلهم إلى فرن الغاز دون تمييز، وكان من ضمن من دخل الفرن نجل الضابط الألماني المشرف على الحرق. شعرت الأم بغياب ولدها، فخرجت مجنونة تبحث عنه، لينتهي الأمر بالوالد على باب الفرن، ولكن بعد فوات الأوان، فقد صدرت الأوامر بصهر الأجساد البشرية في الفرن، ومن ضمنهم برونو وشمويل.
تخللت الفيلم لحظات مؤثرة جرى تصويرها بين الطفلين، وحوارات ومشاهد ذات مغزى بين أفراد الأسرة وخادمهم اليهودي الذي كان أصلاً طبيباً مختصاً، وبين الطفلين اللذين كانا يتحادثان من موقعين يفصل بينهما سياج من الأسلاك الشائكة، عدا عن لحظات مكثفة يتم فيها إدخال اليهود إلى الفرن، لتبدأ عمليات «الهولوكوست».
عادت إلى ذهني مشاهد الفيلم، وأنا أقرأ للكاتبة الإسرائيلية عميرة هاس مشاهد واقعية تنقلها من أحد الأحياء الفلسطينية الذي لسوء حظه يقع إلى جوار إحدى المستوطنات التي أقامها في فلسطين أبناء وأحفاد الناجين من المحرقة. وباستثناء أن أفران الغاز لم تعد موجودة، فإن أعمال الإهانة والاعتقال العشوائي، والتمييز العنصري، والاستعلاء التي يمارسها ضباط وأفراد الجيش والمستوطنون الإسرائيليون ضد الفلسطينيين، كل تلك الأعمال قام بها النازيون ضد أجداد من يقوم بها حالياً من اليهود ضد الفلسطينيين، حتى أن عميره هاس كتبت أنه طبقاً لاتفاقيات تمت بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، فإن أعمال التنظيف، وجمع القمامة في بعض المستوطنات الإسرائيلية تقع مسؤوليتها على سكان الأحياء الفلسطينية الملاصقة.
بالطبع العرب والمسلمون ليس لهم أي علاقة بما جرى لليهود في الحرب العالمية الثانية، فما جرى كان جريمة أوروبية خالصة من ناحية الأحداث والشخوص ومسرح العمليات، ولكن أوروبا التي شعرت بالذنب أرادت أن تعوض اليهود، وتكفر عن ذنبها باقتراف ذنب آخر، عندما قررت بريطانيا منح فلسطين وطناً قومياً لليهود.
على كل ليس هذا حديثنا. القصد هنا هو التركيز على كيفية تحول المظلومين إلى ظالمين، وكيف تمر الضحية بمراحل من التطور الزمني والنفسي إلى أن تصبح هذه الضحية جلاداً بامتياز.
وهنا يحضرني نص جميل من القرآن يقول «وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به، ولئن صبرتم لهو خير للصابرين» (النحل، 126).
هذا الميزان المنصف الذي يطلب إنزال العقوبة على قدر الذنب إن لزم الأمر، ويحث على العفو والصفح والصبر، هذا الميزان يتم مخالفته في أحيان كثيرة، ينقلب فيها المظلومون إلى ظالمين، ويكررون تاريخ اضطهادهم بطريقتهم الخاصة، ولكن ضد ضحايا آخرين.
بعد أن غزا الأمريكيون العراق، وأسقطوا نظام صدام حسين، وأتيحت لشيعة العراق فرصة تاريخية للخروج مما كانوا يعدونه عهود الاضطهاد، وأن يقدموا نموذجاً في التعايش مع مواطنيهم من السنة، بعد ذلك انقلبت الأحزاب الشيعية التي كانت مطاردة خارج العراق، انقلبت إلى مجاميع من الجلادين الذين فرغوا كل عقد الماضي البعيد قبل القريب ضد أشقائهم من العراقيين الآخرين المختلفين في المذهب والدين، وعدنا لنشهد في العراق اضطهاداً وإجراماً لم يكن يطرأ على بال.
وفي اليمن، ظل الحوثيون لسنوات طويلة يعزفون على وتر المظلومية التاريخية، والحقوق المغتصبة، قبل أن يدرك اليمنيون أن الحوثي كان يقصد بالمظلومية التاريخية سلب ما يعتقد أنه حق مقدس له على أساس سلالي وعنصري في حكم اليمنيين، بعيداً عن الديمقراطية والانتخاب الشعبي، ويدخل الحوثيون صنعاء، ويشهد اليمن بعد «انتصار المظلومين» واحدة من أكثر فترات البلاد قتامة، حيث جلب «مظلومو الأمس وظالمو اليوم» معهم كل عقد التاريخ، وصبوها على رؤوس اليمنيين في كل المحافظات إلى أن انتهوا باليمن إلى إدخاله في حرب عبثية مع الجوار، وصدام مع قرارات الأمم المتحدة.
والغريب أن الحوثي رغم أنه اليوم في السلطة التي أخذها بقوة السلاح، لا يزال يعزف على وتر مظلوميته القديمة، وحقه السليب، ويبحث عن معاذير للاستمرار في ظلمه لليمنيين في المناطق التي ما زال يسيطر عليها، بحجة حقه التاريخي ومظلوميته الأزلية، و»ظلم العدوان» الذي جلبه هو دون غيره.
التاريخ ـ بناءً على ذلك ـ سلسلة من الاضطهاد والاضهاد المضاد، والظلم والظلم المضاد، والحرب والحرب المضادة، ومشكلة الإنسان أنه لا يتعلم كثيراً من آلامه، وإذا تعلم درساً أملاه عليه التاريخ، فإنه يعود لينساه، ويكرر الأخطاء ذاتها التي ارتكبها قبل مرحلة النسيان. يساعد على ذلك سطوة التاريخ وسيطرته على الحاضر، واسترجاع المشاهد القاتمة في الماضي، وإعادة إنتاجها بطريقة انتقائية تبرر للمظلومين القيام بأعمال ظالمة بعد انتصارهم، على أساس أن ما يقومون به هو نوع من العدالة السماوية والتمكين الإلهي للمستضعفين في الأرض.
وعلى ذكر كلمة «المستضعفين»، فإن تلك الكلمة تعد من أكثر الكلمات تكراراً في الخطاب السياسي الثورجي الإيراني، ومن ذلك الخطاب استقى الحوثيون وحزب الله والحشد الشعبي مفردات خطاباتهم التي تتطابق مع الخطاب الإيراني. وقد أصبحت هذه الكلمة لكثرة ما لاكتها إيران وأتباعها في المنطقة مفرغة من معناها، أو أن كلمة «مستضعفون» أصبحت تعني «ظالمون»، لأن معظم الذين يرفعونها اليوم قاموا بأعمال إجرامية صنفتها المنظمات الدولية ضمن إطار جرائم الحرب.
يتحدث الكثير من الإسرائيليين عن معسكرات الاعتقال، والهولوكوست، وكتبت أسفار عن تاريخ اضطهاد اليهود في أوروبا، وجسدت السينما عمق المعاناة، لكن ذلك كله يجير اليوم من قبل صانع السياسة الإسرائيلية للتغطية على الجريمة المعاصرة للاحتلال والاستيطان، تماماً كما ترفع إيران اليوم «مظلومية أهل البيت» عليهم السلام للتغطية على جرائمها في كل من العراق وسوريا واليمن، في دورة جديدة من دورات التاريخ التي نرى فيها «مستضعفين» تحولوا إلى وحوش بشرية تدهس الأجساد حية بالعربات العسكرية، وتستعمل «الدريل» والمنشار الكهربائي لفرم اللحم البشري، وتجوع المعتقلين حتى يخرجوا هياكل عظمية، إذا تم خروجهم من المعتقلات دون أن يموتوا تحت وطأة التعذيب.
التاريخ لا يتكرر، لكنه يسير في مسار دائري يوهم من يرقبه بتكراره.
لله في خلقه شؤون.