الجيلاني البائس
بقلم/ د.مروان الغفوري
نشر منذ: 9 سنوات و 11 شهراً و 18 يوماً
الأحد 30 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 07:57 ص

كان لا بد أن يغادر البرنامج منذ وقت مبكّر. ومنذ وقت مبكر كنتُ أفكّر بكتابة جملة على صفحتي "هيثم خلايله هو الشاب الذين حين تسمعه تقول الله، ثم لا تفكّر بأي أمر آخر". ولكيلا أزعج الجمهور اليمني، في لحظة التماسه لأي نور في السرداب، تجاهلتُ الأمر وبقيتُ لوحدي أطرب مع هيثم، وأستمع للثواني الأولى فقط من وقت وليد الجيلاني. ذلك الشاب الذي رأى الكثير من السيارات الألمانية في شوارع المنامة وتجاهل حقيقة أن كل سيارة، في أحسن الأحوال، ستمنحنه صوتاً واحداً. بينما ستمنحه كومة مشرّدين وجياع في لوكنده بائسة في شارع تعز مائتي صوت. انحاز وليد الجيلاني منذ البداية لسائقي السيارات الألمانية الفخمة، وتجاهل نازلي اللوكندات البائسين الذين انتظروه معتقدين إنه سيلفت انتباه العالم إلى مأساتهم التاريخية.

لقد غنى وليد تلك الأغاني التي لا تعرفها أمي، ولا يحفظها سائقوا الباصات في الحديدة والمكلا. وتوغل في ذلك كثيراً، حتى دفع الكاتب صدام أبو عاصم إلى كتابة مقالة بعنوان "طفّشت أمّنا يا وليد"..

كان الأمر شبيهاً بالتوسّل، وكان وليد الذي قدم نفسه بوصفه مغنياً في فندق خمسة نجوم محدثاً صريراً على كلمة نجوم أكثر من الصرير الذي سمعته على أسنانه عندما خرجت من بين شفتيه كلمة اليمن، كان شاباً بلا خيال. وكان منذ البداية مغني أفراح، ولوبيهات أوتيلات نوفوتيل وشيراتون، وبيراميزا. يأتي الفنانون العظام من الأرصفة. فعمار الكوفي، الشاب الذي حمل جبال الأكراد على كتفيه واندغم كلّياً مع لهجته حتى إنه عندما غنى لمواطنه الساهر أوشك البحر أن يفيض على بيروت، كان الشاب حتى الليلة التي سبقت البارحة يعمل في البلاط. قال أنا عامل بلاط وابتسم لجمهوره، فأنارت عيناه جبال كردستان كلّها. قال وليد أن مغني خمسة نجوم، وكأنه أراد أن يبصق في أصدقائنا الطيبين والمشرّدين الذين ينتظرونه في لوكندات تحت الصفر.

تبادل الرجلان الأدوار بعد ذلك.

تذكرتُ الكولومبي ماركيز والتشيكي إيفان كليما. لم يكتب ماركيز سوى عن كولومبيا، ربما باستثناء مذكراته عن رحلة صديقه الأوراغوائي ميغيل ليتين إلى تشيلي، وسيمور بوليفار. خلق ماركيز قريته ماكوندو في جبال كولومبيا، فصعد بها إلى الأعلى. وضع بلدته، بكل فقرها وجنونها بمخدراتها ورعبها بإنسانها المعذب الشريد وتاريخها الثري بطقوسها وعقلانيتها بفجورها ودلعها، على كتفيه. ومرّ بها على أكتاف العالم. أما المعلم كليما ففر من الشيوعية التشيكية في العامين الأخيرين إلى أميركا، لكنه عاد إلى بلدته، سرعان ما عاد. قال إنه رأى أنه من العبث أن يكتب المرء عن بلده وعن تجربته وحياته فيها بينما هو يجلس على مقعد في بلدة غريبة. واكتشف أنّه لا يمكن أن يقف العالم احتراماً للفنان التشيكي ما لم يكن فناناً تشيكياً أولاً. عاد ليتنفس رائحة وطنه. كليما الذي أنجز أخيراً عمله العظيم "قرني المجنون" لا يزال في تشيكيا، في براغ يتنفس رائحة فرانز كافكا فيكتب المزيد من الفن ويبهر العالم. لم يفكر وليد ولا بأغنية واحدة لأبو بكر سالم بلفقيه. أدى أغنية موعود على طريقة حفلات طرد الأرواح الشريرة، وكان واضحاً أنه ليس فقط يشعر بالخزي من يمنيته ومن بلده بل أكثر من ذلك، أنه ليس مشروع فنان كبير بالمعنى التاريخ. فعندما كان هيثم خلايله يختار فن وديع الصافي المرّة تلو الأخرى كان الجيلاني يختار فناني الدرجة الثالثة بأغانيهم ذات البعد الواحد، تلك الأغاني التي لا يتذكر منها المرء سوى لون كارافتة المغني.

وهو يتحسس طريقه في البحر سمع جوزيف كونراد، أحد أكبر روائي النصف الأخير من القرن التاسع عشر، من أبيه الشاعر "يا ولدي مهما حدث كن بولندياً". وبقي الشاب كونراد بولندياً حتى وهو يموت بوصفه روائياً إنجليزياً بعد عشرات السنين.

غرق وليد في ماجد المهندس، وهذا الأخير كان قد أصبح أثراً بعد عين منذ قرر أن يصبح مغني فنادق خمسة نجوم في الخليج. ربما لم يسمع وليد وصية في طريقه "مهما حدث يا بني، ابق يمنيّاً". حتى وهو يودّع المسرح قدم أغنية ليست فقط رديئة بالمعنى الشعري، حيث كُتبت لتقول كلاماً أقل من عادي، بل بدت في موسيقاها الكلّية بلا خيال. هل تعرفون الموسيقى التي بلا خيال؟ كانت اختياراته على الدوام تقول إننا بإزاء مغني أعراس. لم يختر قط عملاً يكشف عن فنّان كبير يتدرّب في غرفته على الفن العالي، باستثناء المرة التي اختار فيها موعود للعندليب. في تلك المرّة كان شاحباً وممتقعاً، وكان يصرخ على طريقة رجال الدين في حفلات الزار، كان كل شيء يقول إنه حفلة لطرد الأرواح الخبيثة، بما في ذلك البخور الخفيف الذي تصاعد إلى الخلف من كتفيه.

لقد بصق وليد، باختصار، في أوجه الذين دسوا في جيبه ريالاتهم القليلة. كان منفصلاً عن قريته الكبيرة، وعن تاريخها الفنّي الثري والكثيف، وذهب يرغي في ليل بيروت البارود "أذوب بأحضانك مثل قطعة جليد" ولست أدري، لعمري، من صاحب هذا التشبيه الساذج، ولا كيف يجرؤ المرء في العام 2014 على أن يقول أذوب مثل قطعة جليد. فقد استخدم الإنسان القديم هذا التشبيه لأول مرّة عندما اكتشف البحر وهو يغادر أفريقيا ـ كما تقول الدراسات التاريخية والعلمية ـ ويعبر مضيق باب المندب سباحة ليخرج إلى العالم الجديد: آسيا ثم أوروبا. كان ذلك قبل مئات آلاف السنين.

قالت لي صديقة حضرمية إنها رفضت خطوبة شاب مهذب ومهندس. وأن أسرتها لم تستطع أن تتفهم السبب. وعندما سألتها عن السبب قالت لي إنها دخلت صفحته على الفيس بوك ووجدته ينقل قصيدة عمودية رديئة إلى صفحته معلقاً عليها بكلمة "روعة". سكتت الصبية وهي تتحدث إلي للحظة، ثم أضافت " تعرف وين المشكلة الأكبر يا مروان، إنه كاتب روعة بهمزة فوق الواو وأهلي ما تخيلوا الكارثة. "

لدينا جيل جديد عظيم، وشجاع ومؤمن بقدراته، حتى إنه لم يفقد إيمانه ببلده وهو يتمزّق ويسقط إلى القيعان. هذا الجيل هو الذي يجعلني استعيد إيماني بذاتي كل صباح وأنقلب على أمسي. جيل الفتاة الحضرمية التي رفضت العريس لأنه أعجب بقصيدة رديئة وأخطأ في الإملاء. وهو الجيل الذي ترك وليد الجيلاني يسقط فجأة، ولم يلق له بحبل نجاة عندما تأكد أن الفنان اليمني وليد الجيلاني ليس فنانا يمنيا.