|
مأرب برس – خاص
قد يكون ملف أزمة المياه في تعز من أكثر الملفات تعقيداً امام وزير المياه والبيئة ورئيس الحكومة وأيضاً رئيس الجمهورية شخصياً. وأنا على يقين تام بان هذه المشكلة تسكن عقل الرئيس وهو يعتبرها من القضايا التي تؤرق مضجعه. فقد كشف ذات لقاء عن هذا الهم أثناء لقاء جمعه في وقت سابق بقيادة اتحاد الادباء الكتاب اليمنيين على حد تعبير الاستاذ محمد ناصر العولقي المسؤول المالي للإتحاد. والسؤال هو : هل ياترى تتعاطى بقية الجهات ذات العلاقة مع هذه القضية بنفس الحماسة التي تتوفر لدى الرئيس؟
مشكلة المياه في تعز ليست وليدة اليوم. فهي مشكلة متراكمة وكانت نتيجة طبيعية لمقدمات موضوعية وأخرى مفتعلة وغير منطقية. وللأسف لم تجد استجابة جادة من السلطات المحلية المتعاقبة في الفترات السابقة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي و التي كانت تمارس دورا سلبيا تجاه هذه القضية. ومرت الايام .. وتوالت الشهور والسنون ولم يلمس الناس شيئاً جديداً يخفف عنهم وطأة الازمة سوى الوعود والكلام الذي لا يروي من (عطش).
وتعتبر مؤسسات المياه المحلية في امانة العاصمة وبقية المحافظات من اوائل المؤسسات التي فكت ارتباطها المالي والاداري بالسلطة المركزية (المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي بالعاصمة) وظلت على علاقة اشرافية مركزية مع الوزارة فقط. وواجهت كل المؤسسات التي استقلت مشاكل ادارية ومالية وفنية وصعوبات وتحديات اخرى. وبمرور الايام وفي ظل وجود قيادات كفؤة ومؤهلة استطاعت تلك المؤسسات في مختلف المحافظات– ماعدا تعز- أن تتغلب على مجمل الصعوبات التي كانت تعوق مهامها. وكان ذلك النجاح مكسبا للدولة والحكومة والسلطات المحلية وقيادات تلك المؤسسات.
وظلت المؤسسة العامة للمياه والصرف الصحي في تعز تتراجع القهقرى وتنتقل من اخفاق الى آخر.. وكانت كل ازمة تواجهها تلد أخرى جراء اسباب عديدة. وكان احد الاسباب الرئيسية لذلك الاخفاق التدخلات المباشرة التي أربكتها من قبل السلطة المحلية والوزارة في شؤن المؤسسة اداريا وماليا.
وهذا لا يعني إعفاء قيادات المؤسسة المتعاقبة منذ فك ارتباطها عام 2002 بالمؤسسة الأم في العاصمة عن تحمل مسؤلية الفشل في البحث عن حلول عملية لأزمة المياه. فهي الجهة المختصة الوحيدة التي تتحمل مسؤلية تقديم تصورات وحلول للخروج من الازمة كانشاء السدود والحواجز المائية في المدينة والبحث عن حلول اسعافية اخرى والتنسيق مع جهات الاختصاص بضرورة بناء خزانات مياه في المباني والمساكن الجديدة واعداد دراسات حول امكانية معالجة مياه الصرف الصحي والاستفادة منها واعداد الدراسات الاستكشافية المبكرة لمصادر مياه اسعافية قبل توسع نطاق الأزمة وكذلك إمكانية إشراك القطاع الخاص لإقامة شراكة في هذا الجانب وتصور لتقديم حل بعيد المدى للمشكلة عن طريق إقامة محطة تحلية في المخاء..الخ.
لقد كان حديث الناس عن سبب ازمة المياه في تعز يدور حول تقادم وتهالك الشبكة القديمة للمياه وتسببها في اهدار وفقدان 50% من المياه, وكان المواطن العادي مقتنعا بأن الشبكة قد تهالكت مع تقادم السنين. وبالفعل .. فقد تم استبدال الشبكة القديمة بشبكة جديدة.. وفوجيء الناس بعد استكمال تنفيذها بعدم انتهاء الازمة بل ازداد الفاقد بنسبة 60% كما يقال و ازدادت المشكلة تعقيدا بسبب سوء التنفيذ من قبل الشركة المنفذة.. وأصبح المواطن ينتظر فترة أطول لوصول الماء الى منزله أكثر مما كان عليه الأمر قبل تنفيذ الشبكة الجديدة. فقد رافق تنفيذ الشبكة بعض الاختلالات الفنية التي ما زالت قائمة حتى اليوم في بعض الاحياء. وتعالت الاصوات .. وكثرت التأويلات .. وتواصل مسلسل التهم الموجهة للشركة المنفذة ..وللأسف لم تنته الازمة بل تصاعدت ووصلت حداً لم يعد يطيقه المواطن.
من جانبه أوضح وزير المياه المهندس عبدالرحمن الارياني في تصريحات صحافية أن أزمة المياه في تعز سببها سوء إدارة بالدرجة الاولى. وعزز ذلك الطرح قناعات مسبقة عند الناس بان ثمة عبثا اداريا وماليا في المؤسسة وتدخلات من شخصيات نافذة تعيق اية اصلاحات. وتهامس الناس عن فشل ادارة المؤسسة وعجزها عن فعل شئ يخفف معاناتهم.
والحق يقال لم تكن كل الادارات المتعاقبة على قيادة المؤسسة سيئة او فاشلة..بل كان بعضها يواجه هجمة شرسة وتدخلات سافرة من خارج المؤسسة تلبية لرغبة بعض المتنفذين الذين لايهمهم البحث عن حلول للأزمة بقدر ما يهمهم البحث عن مصالحهم الشخصية.
وبعد أن ارتفعت الاصوات مطالبة بضرورة الوقوف على الوضع الاداري المترهل للمؤسسة والذي كان سببا رئيسيا في اشتداد الازمة. كان التوجه العام هو عدم إتباع آلية التعيين لموقع المسؤول الاول في المؤسسة. وكان رأي (الجانب الهولندي) الذي يعتبر شريكا لاخراج المؤسسة من وضعها المتردي وتحسين مستوى الخدمة التي تقدم للمواطن هو تبني آلية التنافس المباشرللبحث عن شخص كفوء ومؤهل وفقاً لشروط ومعايير معينة. وللاسف فقد تم اغفال معيار القدرات الشخصية الادارية للمتقدم وركزت المعاييرعلى اجادة اللغة الإنجليزية فقط.
وعلى حد علمي فإن هناك أطرافاً نافذة كانت تريد اختيار متقدم بعينه ووقفت ضد متقدمين آخرين..واستطاعت تلك الأطراف النافذة استبعاد بعض الكفاءات من التقدم وتم افساح المجال لاشخاص بعينهم. وأفرزت هذه الآلية إدارة لم تستطع فعل شئ للتغلب على الازمة. ووصلت الى طريق مسدود.
وما زاد الطين بلة هو انه تم مؤ خرا استحداث هيكلية جديدة(فرع جديد) تتولى إدارة المياه والصرف الصحي في المدينه وفصلها عن الادارة العامة في المحافظة. وهذا الاستحداث كان سببا لخلق أزمة جديدة مضافة للأزمات التي تعيشها المؤسسة. ولم يحل هذا الاستحداث المشكلة.. بل زادها تعقيداً وأضاف عبثاً مالياً جديداً لميزانية المؤسسة. وترتب على استحداث هذه الهيكلية وجود فرع جديد داخل المؤسسة لكي يقوم بتوفير مياه صحية ونقية لجميع سكان مدينة تعزكما جاء في الهيكل المعلن والمثبت على واجهة الادارة العامة داخل المؤسسة مما يعني ان هذه الادارة ستتولى القيام بتوفير الماء النقي والصحي لسكان المدينة ابتداء من حفر الآبار ومد الشبكة والصيانة وتركيب العدادات...وهكذا بقية الادارات التي وردت ضمن الهيكلية والتي بدورها لم تقدم حلا للمشكلة بل زادتها تعقيدا واعباء مالية. وكان يفترض أن يتم تخصيص المبلغ المعتمد لهذا الفرع الذي لا لزوم لوجوده أصلا للفرق التي تعمل في الميدان وفرق الصيانة وكذلك فرق الطواريء التي تفتقر للإمكانيات اللازمة حين يتطلب الأمر نزولها ميدانيا لتفقد المواسير المكسرة أو بعض الأختلالات الفنية التي تحصل بين وقت وآخر أو صيانة الآبار ....الخ .
يبدو واضحا ان ثمة اختلالات رافقت كل الحلول المقترحة للتغلب على المشكلة. ولا أقول ان ثمة خصوصية يمنية تتعامل بهذه الطريقة المخجلة. لكن ثمة تصرفات فردية وليست مؤسسية نشاهدها بسبب عدم استشعار اصحابها للواجب الوطني المسؤول تجاه قضايا الناس ومعاناتهم.
إن حل الأزمة يتطلب التأهيل المستمر لمصادر المياه والمتمثلة بالآبار الحالية وكذلك إيجاد حلول لتأهيل الآبار العاطلة إن وجدت مع الاستمرار في البحث عن مصادر جديدة اسعافية خاصة وان المؤسسة قد استحدثت إدارة متخصصة معنية بالبحث عن مصادر جديدة للمياه بحيث أصبح واجبا عليها إعداد الدراسات العلمية لمصادر المياه في المحافظة حتى وان كانت في مناطق بعيدة عن المدينة.
نعترف أن تعز تعيش أزمة مياه شديدة. وأقول بكل ثقة وقناعة تامة بأن اسباب هذه الازمة ليست معقدة أو عصية على الحل. وحلها يتطلب أولا منع التدخلات في شئونها من قبل المتنفذين في الوزارة والسلطة المحلية. وهي تتطلب ثانيا شخصية قيادية تكتسب مهارات متعددة, تخصص علمي في المياه ومصادرها بالاضافة الى توافر قدرات ادارية شخصية وشعور بالمسؤولية واحساس بمعاناة ومتاعب وأوجاع الناس وعلى اتم الاستعداد لأن تنزل ميدانياً الى كل حارة في اي وقت بحثاً عن حل لأي مشكلة طارئة قد تحصل كما كان يفعل المدير العام الاسبق للمؤسسة المهندس/عادل مغارف الذي ظل محتفظاً بفراش نومه على سيارته استعدادا للنوم في اي حارة اذا غلبه النعاس في الهزيع الاخير من الليل وهو يتفقد وصول الماء الى منازل المواطنين او أثناء حدوث خلل فني في مواقع الآبار اذا تطلب الأمر ان يبيت بالقرب منها وكان ذلك برنامجه منذ بدء تعيينه مديرا عاما للمؤسسة وحتى تم الاستغناء عن خدماته مطلع عام 2006 كضريبة طبيعية للنجاح الذي حققه حيث تراجعت ازمة المياه إلى حد ما في عهده من خلال توظيفه للخبرة المتراكمة التي اكتسبها في استراليا التي عمل بها خبيرا في مجال المياه الجوفية لمدة سبعة أعوام وعاد للعمل في المجال ذاته وفي الدولة نفسها بعد أن مر بتجربة مريرة في وطنه الأم. وكان الله في عون المخلصين.
* د.عبدالقادرمغلس- جامعة تعز
في الأحد 13 يناير-كانون الثاني 2008 07:30:13 ص