الخروج باليمن عن طريق السبعين..!
بقلم/ توفيق السامعي
نشر منذ: شهرين
الخميس 24 أكتوبر-تشرين الأول 2024 04:13 م
 

تعيش اليمن اليوم مرحلة مفصلية في تاريخها، إما أن تعيش دولة حرة وجمهورية إلى الأبد، تتحقق فيها النهضة والمساواة والعدالة للجميع، وتكون في محيطها العربي، وتنتصر لجمهوريتها والتحرر من الإمامة التي ظلت تناضل من أجل الخلاص من جاثومها أكثر من ألف عام، أو تعود إلى العصور الظلامية تحت حكم السلالة والتمييز العنصري، وإعادة التخلف والجهل والمرض إلى البلاد التي لن تنهض مجدداً.

ضحى اليمنيون في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، وقبلها ثورة فبراير 1948 وحركة 1955 بخيرة أبنائهم وعلمائهم وأبطالهم ومفكريهم، حتى يتخلصوا من الكهنوت الإمامي، الذي مثل أسوأ حقبة في التاريخ ليس في اليمن وحسب بل وبين كل الشعوب الإسلامية.

وحتى لا تضيع تلك التضحيات هدراً قام الشعب اليمني بانتفاضات كبيرة، ملتفاً حول قيادته في حصار السبعين يوماً، حينما شعر بالخطر الداهم الذي يحيط بالجمهورية والشعب اليمني من كل اتجاه، وكانت الجمهورية على وشك السقوط بعد أن أحاط الإماميون العاصمة صنعاء بأكثر من ثمانين ألف مسلح من القبائل، وأكثر من خمسة آلاف جندي مدرب من جيش وعكفة الإمامة السابقين، تقودهم كتائب المرتزقة والخبراء من بريطانيا وأمريكا وإسرائيل وإيران والأردن ومن دول أوروبية مختلفة، وبلغت أرواح الناس المحاصرين في صنعاء الحناجر، وصارت تلك الجيوش تحيط بالعاصمة صنعاء إحاطة السوار بالمعصم، بينما انهالت قذائف المدفعية على مساجد ومنازل صنعاء ومقار المؤسسات الحكومية، وقتل الناس في الشوارع ، وذهب ضحايا كثر؛ لم تراع في تلك الحرب أخلاق الحروب ولا حرمة المساجد ولا المساكن ولا النساء ولا الأطفال، بالضبط كما يفعل الحوثيون اليوم، في تكرار للمشهد بأسوأ ما فيه، وهم أبناء تلك الفلول المرتزقة وأحفاد الإمامة السابقة.

لقد هربت القيادات العسكرية المتذبذبة مواقفها وولاءاتها بينهم رئيس الأركان ووزير الحربية وقيادات الدولة العليا، بينهم رئيس الوزراء وعدد من الوزراء، وأدرك الجميع أن سقوط العاصمة مسألة أيام وليالي فقط، إلى حد بلغ معه أن القيادة الجمهورية كادت تسلم السلطة والجمهورية والعاصمة للإمامة وإعلان الهزيمة لولا حنكة وجنون وحمية وتضحية وصمود شبابها الأبطال المنتمين إلى الروح الجمهورية، بعد أن تشربوها مبادئ وعقيدة راسخة في أذهانهم، أمثال البطل عبدالرقيب عبدالوهاب وعلي مثنى والوحش ومحمد صالح فرحان وحمود ناجي وغازي علي عبده، الذين مثلوا قيادات الصاعقة والمظلات والمدفعية والمشاة والصواريخ، ووقفوا بصلابة منقطعة النظير في وجه الرئيس الإرياني صارخين: لا مفاوضات، لا استسلام، ورفعوا شعار "الجمهورية أو الموت"!

أولئك الشباب غيروا وجه اليمن؛ حفظوا الجمهورية من السقوط، وحفظوا ماء وجه اليمن التاريخي من التشويه الذي قد يطال سمعة اليمن وشموخها بالقول أنه استسلم وانهزم عند أول منعطف وأول خطر داهم، ولقنوا الإمامة أعظم الدروس التاريخية في الصمود والشجاعة والتخطيط والتنفيذ والكر دون الفر والانتصار المبين.  

إن ظروف بلادنا اليوم مشابهة تماماً لتلك الظروف التي وقف العالم أجمع في وجه الجمهورية لولا الثلة الصامدة والشجاعة من أولئك الشباب الذين نفتقر اليوم لمثلهم في القيادة وامتلاك القرار والإيمان بالتحرير وإعداد العدة وحفظ اليمن مجدداً من السقوط في وحل الإمامة الحديثة المدعومة من إيران.

 

اين يكمن الخلل اليوم؟

 

الحقيقة التي نتعامى عن ذكرها هي أن الجميع استسلم للأمر الواقع، ولم يعد التحرير وإنهاء الانقلاب هدفاً للشرعية؛ فكل ما ينبعث منها يدل على الجمود والتيه والتخبط الذي تاهَ باليمن عموماً وليس بتلك القيادات فقط، ولا يدري مسؤولونا ما يريدون، منتظرين حلول معجزات من السماء، أو حلولاً معلبة تأتي من الخارج الذي لا يعير أية أهمية للمواطن اليمني ويقف حجرة عثرة أمام تحرير البلاد ومصالح الشعب. 

كم أرى أن واقع حالنا هو كما صوره القرآن عن معرقلي التحرير المثبطين إلى الأرض (ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدته ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين)؛ فنحن في إطار نخبة تسمي نفسها قيادية ولكنها في الحقيقة عقبة الطريق الكبيرة نحو التحرير، فلا أنها أعدت أسباب التحرير وبذلت وسعها في سبيل الخلاص من الإنقلاب، ولا أنها أعادت الأمر للشعب ولجأت إليه ليحمي ثورته وجمهوريته ودولته وأفسحت الطريق لمن يريد الخلاص من هذا الكابوس الجاثم، ولو أرادوا التحرير لأعدوا له عدته ولكنهم تعاموا عنه وجبنوا عن المواجهة واستنفدوا كل مقدرات الدولة، بينما تتهاوى العملة بسرعة البرق، وتشتد الأزمة على الشعب، ويدفع المواطنون الثمن، ولم يتم رفد الجبهات بالأسلحة ومقومات التحرير والانتصار والصمود. 

ركود ورقود الشرعية وركود الأزمة في البلاد دون أفق ولا زمن لنهايتها ولا معرفة بمآلاتها تزيد من إحباط الناس وتزيد البلاد تدهوراً وانحطاطاً وتزيد في تمكين الحوثية واستئساده على الوطن، وصعوبة التحرير كلما تأخر الوقت، وكلفة التحرير البسيطة بالأمس يقابلها تكلفة باهظة اليوم، وستكون أشد كلفة كلما تأخر الوقت. 

كل من يتصدر موقف الشرعية اليوم نسي موضوع التحرير والخروج بالبلد من أزمتها؛ لأن كثيرين منهم وقيادة البلاد اليوم لم تعد خلاقة ولا إبداعية ولا نهضوية ولم تحترق بنار الانقلاب ولا تلهبها نار الكرامة والنخوة والأنفة والعزة الشامخة المعروفة بها الشخصية اليمنية عبر التاريخ، خاصة وقد سعى معظمهم لتأمين نفسه في الخارج، وكثير منهم من يبحث عن جنسية جديدة، وبعضهم حصل عليها فعلاً. 

في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ورغم أنها المعول الذي هدم الكهنوت المتسلط منذ الف عام، وما تمثله من لحظة حاسمة وحساسة وضع كل الثوار رؤوسهم على أكفهم َوبحثوا عن كل حل وفي كل زاوية، ورغم العنت الذي واجهوه في تلك اللحظات من كل الدول المتحكمة بمصير اليمن في ذلك الوقت إلا أنهم لم يفتروا عن الصراع والبحث عن حلول وعوامل القوة التي تفضي إلى نجاح الثورة في كل زاوية داخلياً وخارجياً؛ في أروقة الأمم وعند الأشقاء العرب، والأهم من كل ذلك السند المحلي من الشعب الذي اتكأوا عليه وأعادوا الأمر إليه، رغم أن عوامل الإمامة وتبعاتها وتأثيرها لم تبارح كاهل الشعب بعد، فما زالت تطبق عليه من كل النواحي. 

واجهت قيادة البلاد حينها تعنتاً من القيادة المصرية الحليف المفترض للثورة وداعمها الأول، وأودعت الحكومة وكل القيادة سجون عبدالناصر لأكثر من عام وكادت الثورة أن تسقط، ومع ذلك ومع أن ناصر كان سند الثورة الوحيد عاد ليدفعها ثمناً باهظاً في آخر عهدها وفي أشد الظروف حرجاً وحساسية أثناء الحصار، ومنع السفن الروسية من إيصال السلاح للجمهورية، وتدخل بحكم تحالفه مع الاتحاد السوفييتي لعدم إنفاذ صفقات السلاح مع الحكومة اليمنية لمعاقبتها، ومنع الطيارين المصريين من التدخل لصالح الجمهورية المحاصرة من الإمامة، رغم ظروفه الخاصة بعد نكسة حزيران التي عذر من أجلها، ولولا المساعدة السورية التي قلب طياروها الموازين لفشلت الجمهورية، وتدخلت القيادة العراقية تدخلاً محدوداً لصالح الجمهورية، ولكن المتكأ الحقيقي كان إلى الشعب الذي قام بثورته وحماها بحدقات عيونه، لينتفض مجدداً ضد الحصار الإمامي.

مع كل قراءة لمذكرات المسؤولين الأوائل تجد في كل مذكراتهم محذوراً واحداً وقولاً فصلاً وهو أنهم يخافون محاكمة التاريخ لهم أن يسجل عليهم الفشل وأنهم خانوا الجمهورية والبلاد وأسلموها للإمامة مجدداً، فكان دافعاً لهم بالنهوض، وهو ما نستنهض به قادة اليوم ومسؤولي البلاد؛ ونقول لهم: إحذروا التاريخ وما سيسجله عنكم، ولا تورثوا لأحفادكم صفحاتٍ سوداء من أعمالكم وتاريخكم، وورثوا لهم مجداً وتاريخاً ناصعاً يسلتهمونه جيلاً بعد جيل.

 

ما الحل إذاً؟

الحل ممكناً وفي متناول الجميع، وأن يسلكوا الطريق الذي سلكه الآباء والأجداد في استنفاد وسعهم والحركة في كل اتجاه دعماً وتخطيطاً وحشداً للجهود، وقبل كل ذلك: الإيمان بالتحرير، واستشعار المشكلة، واستشعار المسؤولية التاريخية للدفاع عن هذا البلد، والعودة إلى الشعب، ومصارحته بكل ما يجري واستنهاضه لحماية ثورته وجمهوريته خاصة والشعب اليمني اليوم قد استوضح طريقه، وعرف عدوه، وفقه مصلحته، وأدرك خياراته وصار ناضجاً ثورياً متعطشاً ليوم الخلاص، وقد رأينا احتفالاته في كل المناطق اليمنية بأعياد الثورة كما لم يحتفل بها من قبل رغم القبضة الإرهابية الحوثية بحقه، وشنها حملات الاختطافات والاعتقالات في كل مكان؛ إلا أن تلك الاحتفالات أرعبت الحوثية، وكشفت أنها نمر من ورق وأوهى من بيت العنكبوت.

في شدة حصار السبعين، ورغم أنه لم يتبق للجمهوريين سوى بضعة كيلومترات يتحركون في إطارها، ورغم نفاد المؤن وتدمير مخازن الدولة من أسلحة وتموين غذائي وتدمير الذخيرة، ورغم كتم أنفاسهم من قبل الجيوش الإمامية المتعددة أدرك حماة الجمهورية وأبطالها الأشاوس أن بقاءهم في حالة دفاع لن يكون مجدياً؛ فلطالما كان المدافعون عرضة للهزيمة المحققة عبر التاريخ وفي كل جيوش العالم، وأن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم الذي يمنح المدافع حرية الحركة والخلاص من الشباك، مهما كانت التضحيات.

أدرك القائد عبدالرقيب عبدالوهاب هذه الاستراتيجية فكون وحدة قتالية متحركة تجوب جبهات صنعاء المحاصرة، أفادتهم تلك التحركات والوحدة كثيراً، وكان من أهم الانتصارات التي حققتها رغم شحة الإمكانات أن استماتت في تحرير جبل عيبان وجعلته هدفاً لها، وفعلاً انتصرت انتصاراً ساحقاً، وكان أول انتصار يحققه المدافعون المحاصرون، باستيلائهم على جبل عيبان، تنفسوا جزئياً رغم أن الجبل يقع تحت رحمة القوات الإمامية في قمة جبل النبي شعيب؛ إلا أنهم حققوا ذلك الانتصار الذي أعطى دفعة معنوية كبيرة للجمهوريين وفتّ في عضد الإماميين المحاصرين.

اليوم رغم أن جبهات مارب وتعز محاصرتان، وهما الجبهتان اللتان تشرفان الجمهورية وتحفظان كرامة الشرعية وعمودها الأساسي، يمكنهما القيام بتلك الاستراتيجية لتوسيع حركتها كما فعلت بعض جبهات تعز من قبل وأثبتت أنه بإمكانها التخلص من الحصار، ولكن تحتاج أن تستند إلى قيادة سياسية قوية خلفها لا تخذلها في الأوقات الحرجة كما خذلوا القشيبي والشدادي والحمادي وأبو محمد وأبو ناصر من قبل.

تتحدث تلكما الجبهتان عن أن النصر وكسر الحصار ممكن للغاية إذا وجد الدعم المالي والدعم بالسلاح والدعم بالموقف واتخاذ القرار المساند غير المتذبذب للشرعية، خاصة وقد حصلت نماذج متعددة لتحركات مماثلة حقق فيه أبطال الجيش انتصارات كثيرة، ودحروا المليشيات إلى أماكن بعيدة، وحرروا الكثير من الجبهات والمناطق ولم يعقهم لا خوف ولا جبن، وإنما العائق الوحيد هو عدم اتخاذ القرار.

ومع أن أسباب النصر ومقوماته تتمثل في: إعداد العدة قدر المستطاع،

والتدريب المتميز، وامتلاك المعلومات (الاستخبارات)، والثبات والصمود،

والدافع والتعبئة (المشروع)، ووحدة الصف وعدم التنازع وعدم الاستسلام لأراجيف العدو، وكفاءة القيادة، والأهم من كل ذلك العدالة التي تذيب الفوارق والمشاكل بين الأفراد وتقوي الصف وتعمل على تماسكه وصلابته.

أتمنى من القيادة السياسية، والقيادات العسكرية المختلفة والنخب اليمنية عموماً أن تعود إلى مذكرات الثوار الأوائل لقراءتها واستلهام نماذجها وسلوك طريقها للخلاص باليمن اليوم من أزمته، حفظاً للجمهورية، وحفظاً لكرامتهم وماء وجوههم، والعودة إلى الشعب لحماية مصالحه، كما عادت إليه القيادة السودانية اليوم وهي تحقق الانتصارات الميدانية المختلفة وتكنس الانقلابيين في كل الجبهات.