عن ثورة تتحرك بنصف وعي
بقلم/ عارف عقبات الكميم
نشر منذ: 13 سنة و 3 أشهر و يومين
الثلاثاء 16 أغسطس-آب 2011 06:46 ص

«إذا كنت تستخدم فرجارا لرسم دائرة، ومسطرة لرسم مربع، سوف تظل عبداً دائماً», حكمة صينية.

يبدو أن الثورة اغتسلت بماء آثم، فلا هي أنجزت الوعد، ولا سكبت ماء الطمأنينة على أرواح الشهداء. مادت وتمادت كمن أضاع البوصلة فلم يعد يعرف أين يذهب ولا ماذا يريد ولا أين يقف بالضبط...

كانت الثورة استحقاقا بامتياز غير أنها بدأت تنفلت من بين الأصابع وتغرق في أتون الولاءات الضيقة والالتفافات وحسابات الربح والخسارة والانتظار حتى يأذن لنا ( والي المشترك ) قدس الله سره، أن نتنفس بمقدار كمية الهواء التي منحها لنا الله. الوضع أيها السادة أصبح أكثر تراجيدية والثورة باتت تمشي على عكازٍ وتنحني كثيراً وتترنح، ولم تعد تدري أي اتجاه تسلك من فرط الاحتمالات، وكأنما اكتفت بالوقوف على العتبات.

ما الذي التبس وأربك القدرة على الفعل ..؟ ما الذي حرك قطع الدومينو ولخبط المشهد..؟ ولماذا باتت الثورة تعاني من الشيخوخة المبكرة وأضحت مرشحة وبقوة للسخط العام..؟ ولماذا أصبحت ناقصة ورديئة وبلا أطراف..؟ لماذا تحول الثوار إلى مجموعة من الكسالى والساحات الثورية تحولت إلى لوكندة مجانية للعاطلين عن الحياة..؟ أين يكمن الخطأ..؟ ومن الذي جعلنا معلقين وفي مهب الشتيمة والسخرية ..؟ ومن المسؤول عن الفرملة الوقحة لعنفوان الصهيل ..؟

لقد سال حبر كثير يتحدث عن الدور السعودي المشبوه وعن الدور الدولي المتخاذل وعن الجبروت السلطوي والطغمة الفاسدة التي مازالت تتشبث بأسمال النظام البالية وبإصرار وتستبيح الدم والعرض وتنتصب جدارا عازلاً بيننا وبين الكرامة السليبة..؟ لقد تحدثنا كثيراً عن الخيانات وعن الذين تواطئوا وعن الذين سدوا منافذ التنفس، فيما لم تكن كل اتهاماتنا سوى تبرير خجول للخيبة ومحاولة للتملص لاأكثر، فأصابع الاتهام بكل محمولاتها ليست سوى عوامل هامشية لاحقة للمتن الأساسي الذي أسهم وبفاعلية في تعطيل الساحات الثورية وتفكيكها وتحويلها إلى ساحات كسيحة لا تستحق سوى الشفقة والرئاء

في تصوري أن كل هذا الموت السريري الذي أصاب الثورة يكمن في سببين أساسيين وما عداه هي عوامل تالية لا أكثر: الأول هو تراجع المفهوم الثوري الذي التبس تماما واجبر الثورة والثوار أن يتواجدوا وبكثافة في المربع الغلط. أما الثاني فيتلخص في أن الثورة أصبحت رهينة للمزاج الشخصي لأحزاب اللقاء المشترك المصابة بشبق الصعود على أكتاف الآخرين.

ما الذي أنجزته الثورة حتى الآن غير الوقوف على نصلٍ حادٍ ثم عادت تسترخي في الخيمة كأي متسول كسولٍ ينتظر كسرة خبز يابسة. وكأنها لم تستوعب وجودها بعد، مللنا تماما إصدار البيانات وانتظار المبادرات والتضرع و"الشحت العلني" للاعتراف بوجودنا وبأننا واحد صحيح في هذا البقعة من الأرض، وهذه هي خطيئة الثورة التي اقترفناها وظللنا في كل الأرجاء نبحث عمن يمنحنا (صكا للملكية)، ودونما إدراك أن الثورة التي تستمد شرعيتها من الآخرين تفقد مبررات وجودها. تعبنا من الوقوف قيد انتظار لا يليه سوى انتظار آخر، لقد تحولت الثورة من سلمية إلى سلبية، وانحرفت عن مسار اللحظة التاريخية، فيما الثوار تحولوا إلى ذهنيات تدجَّنت وأصبحت أكثر ألفة مع الإيديولوجيات العتيقة. أي ثورة هذه التي لا تملك سوى مواقف إذعانية وتتحرك بنصف وعي، وتمشي حافية. لقد تغير الغضب الثوري لدرجة أن الثورة باتت بحاجة لــ ( sing in ) جديد، فما لا تطيقه اللحظة أن تظل الثورة قيد الخيمة والخيبة تنتظر أي احد يمنحها خشبة الخلاص.

أكثر ما يستفزني أيها الأصدقاء هو كل هذا الارتداد والتعاطي مع ثورة التغيير في اليمن بمقياس " فن الممكن" ومعيار " تقليل الكلفة " وتقنين تداعيات تقويض النظام، وكأنما أصابنا العطب ولم نعد نقوى على دفع الفاتورة، وهو تحايل مكشوف لشراء الثورة بنصف السعر، قد تكون التحولات العظيمة بحاجة إلى وقت وصبر، لكن في الحالة اليمنية يبدو أن الأمر سيتحول إلى اللغزية المطلقة ( لغودو ) الذي لا يجيء أبداً. اتركونا من الخطاب الأخلاقي للثورة فهي ليست بحاجة لشهادة حسن سيرة وسلوك لأننا لو ارتهنا لمنطق الفضيلة فلن نجد أمامنا سوى (لاكي) المستعبد الراضي باستعباده في مسرح ( صموئيل بيكت ) العبثي. دعونا نتكاشف قليلا ونعترف أن الثورة أصابها التلف والتقصف، وأننا لم نعد نملك سوى الخجل كلما حدقنا في صور الشهداء التي تملأ ساحات التغيير والحرية دعونا نعترف أن أحلامنا وغضبنا وجنوننا بات متواضعا للغاية وأن الأحزاب السياسية اللعينة قد سرقت فمنا وتركتنا نئن بأصوات مؤلمة، دعونا نعترف أننا مازلنا نتسول أي أحد أن يمنحنا حق تقرير المصير، وأننا لم نعد نجيد سوى ممارسة " مهنة التبرير" وأننا افتقدنا القدرة على الصراخ، وبتنا خطأً يتكرر..

كل هذه الكمية من الأخطاء والتعثر لا يمكن ترحيلها لمربعات الآخرين على أساس أنهم فرملوا الثورة وجعلوها تترنح إذ أن المشكلة ليس فيما يقرره الآخرون، وإنما في ما نعجز نحن عن القيام به. ومشكلتنا أننا افتقدنا القدرة على الفعل والغضب، واكتفينا بالولوج من الباب الخلفي، وتركنا الباب موارباً فتسلل منه الانتهازيون والأصوليون والسياسيون الذي يناورون وعيونهم على ماهو أبعد، فأصبحنا مجرد تلامذة ومُلقَّنِين ومتفرجين. مشكلتنا أن ثورتنا تأطرت، وأن شعاراتنا تحولت إلى شعارات توسلية مطلبية إستجدائية ، فيما الحرية تنتزع ولا توهب، الحرية كل لا يتجزأ وكم ستكون النهاية حقيرة فيما لو قبلنا بنصف ثورة.

مشكلتنا أن الآخرين باتوا يقررون بالنيابة عنا وفقا لأيدلوجياتهم وأجندتهم فأصبحنا مبرمجين على (كبسة زر) فيما الثورة لا تثق أبدا بالمكرس والجاهز فهي تأتي حاملة اشتراطاتها معها، وبالتالي لا تتوقف، ولا تتراجع، ولا تناقش، ولا تساوم، ولا تتنازل، ولا تتفاوض ولا تتدرج في الحلول وإنما تمتلك القدرة على المباغتة وفق " قوّة التلقائي الذي لا يترك متسعاً لردّة الفعل" الثورة هي لهيب يتصاعد ومخالب وأنياب وقوتها تكمن في أنها ذاتية الحركة لا يقودها احد، فيما أصبحنا نحن كلنا "كذابين زفة".

أيها الأصدقاء الثورة تسير بإطارات معطوبة ولم نعد نحتمل. لم يعد ممكنا أن نظل نتهجى الثورة وكأنها أحلام مؤجلة، فالتريث بات مكلفا للغاية، وإذ تصير الثورة لا وزن لها خارج السياق. لا فائدة من المقامرة بأحلامنا التي خرجنا من أجلها، ومن العيب " وقلة الشرف" أن تظل الثورة مسترخية على أريكة مخملية تنتظر أن يركع النظام صاغرا بإشارة من سبابتها، لأن هذا الأمر خيانة فاجرة لدماء الشهداء، وذنب يتساوى مع القتلة في مصادرة حقهم في الحياة. من سيغفر كل هذا الغدر العلني لدماء الشهداء التي ستلعن أرواحنا وستتبرأ الأرض منا فيما لو ظللنا هكذا مرميين على الأرصفة. وإذا ما ظللنا نربي الخوف والفجيعة كأي ديك أعرج ومريض، فسننتهي عاجلاً أم آجلا إلى جثة هامدة، وإلى مائة عام قادمة نعيشها على هامش العالم.

مهمة الثورة ليست في إنتاج شارع مضاد وإنما في خلخلة البنية الأساسية للحياة، والتطرف في القلق والبطش والجنون حتى يسقط الصنم، وبما انه أصبح لا يمكن بأي حال العودة إلى " بيت الطاعة " فكل ما تحتاجه اللحظة قبل أن تطمرنا الريح هو نصل حاد فقط لطعن الجبن والاستكانة. كل ما نحتاجه الآن هو كمية هائلة من المشيئة وعدم الامتثال وانفجار في الذاتية الثورية لإعادتها إلى القضبان. وسيكون الأمر جيدا لو استخدمنا مسحوق ( الكلوركس) لتنظيف الوجل والفجيعة ،دعونا نتمرن لمرة جديدة وأخيرة على الغضب وبشكل لائق.

سؤال القطيعة والإلغاء

لا يمكن تأطير الثورة وفق نسق معين إذ ليس ثمة مرجعية ثورية نحتكم إليها, فكل ثورة تنتج أسئلتها الحارقة. غير أن الثيمة الأساسية هي أسئلة القطيعة والإلغاء والكفر بكل الماضي ومفرداته ونظمه وقوانينه وأيديولوجياته، والانفلات من (التلمذة ) وتمزيق وهتك جدار المشيمة، والقطيعة الكلية ليس مع كل الميراث التراجيدي للنظام العائلي القائم وحسب وإنما مع كل هذه الأحزاب الطوباوية البليدة التي خانت دماء الشهداء ومنحت بقايا أدوات النظام الفرصة لترويض الثورة وتقليم أظافرها. الأحزاب وزرنا الكبير الذي اقترفناه في لحظة ضعف، ولابد من الأوبة والتوبة ودفع الوعي باتجاه الإمساك بجمرة الحقيقة. الحقيقة التي تقول إن الأحزاب تهزأ بنا وتمر عبرنا بخطابات مليئة بالمغالطات، تبا لهذه البجاحة التي لا يشغلها سوى فكرة جمع الغنائم وتبا لكل هؤلاء المومياوات الذين تسربوا من ( دار العجزة )، وتبا لكل هذه الديناصورات التي تمارس العهر السياسي البائن كما لو أنها لا تملك سوى الإذعان المطلق للجنرال تراخيدوا (أيها الجنرال هذه ابنتي .. إنني كلبك الوفي).

لم نعد نتطامن لهذه الأحزاب الورقية التي قدمت كل هذه الكمية من التنازلات والقرابين وعطلت الثورة لقد حولتنا إلى مُضطّهدين أكثر مما يجب، وبدأت تزيحنا عن المشهد كأي لص محترف،وكما حول النظام البلد إلى (زريبة خلفية) حول المشترك - وتحديدا الإصلاح - الساحات إلى تكية للدروشة وإنتاج وجوده كما لو أنهم أوصياء على العالم، وبات يستخدم ورقة الأمن والحفاظ على الساحات الثورية في التنكيل بعدد غير قليل من الذين يتقاطعون معه في الرأي والذين يجهرون بأن الأحزاب هي الخيبة الكبيرة.. أحد أصدقائي الثوريين التقيته قبل أيام يحمل هما وغما وكفرا بكل القيم الثورية الخادعة ويحمل كذلك قدما غير صالحة للاستخدام، قال لي أنه قضى ثلاثة أشهر نزيلا إجباريا في معسكر الجنرال علي محسن بسبب خلافه مع أحد شباب الإصلاح الذي وشى به للجنة الأمنية وطبعا كانت التهمة جاهزة " بلطجي " وهو مبرر كاف لأن يشذبوا غضبه بعناية، صديقي ليس حزينا لأنهم اتلفوا قدمه بجلسات الكهرباء اليومية وإنما لأنهم أتلفوا روحه وشوهوا داخله كل القيم الثورية وأشياء كالعدالة والحرية لتي كان يؤمن بها. أنهم يعيدون إنتاج الديكتاتور في قالب مختلف. هؤلاء الذين يفتشون في الصدور والنوايا، ولا يحملون غير الثقافة الإقصائية. ثقوا جيدا أيها الأصدقاء أن تأخر الحسم الثوري يتناسب طرديا مع ارتهاننا لهذه الأحزاب التي تسيطر عليها عقلية التأميم.