اليمن الأئمة والحكام والثورات
بقلم/ احمد صالح الفقيه
نشر منذ: 11 سنة و 10 أشهر و 9 أيام
الخميس 14 فبراير-شباط 2013 02:20 م

 

وليام هارولد إنجرامز كان فيما كان حاكماً لمستعمرة عدن بالإنابة، ووكيلاً أول لحكومة عدن، وضابطاً سياسياً في مستعمرة عدن، والمستشار المقيم البريطاني في المكلا.

وقد ضم كتابه الموسوم «اليمن الأئمة والحكام والثورات» خلاصة معرفته وخبراته بأحوال البلاد ومن خلال زيارتين قام بهما الى صنعاء في عهدي الإمامين يحيى وأحمد. كما أورد في الكتاب لمحات ومقارنات بين أحوال الشمال والجنوب في ذلك العهد، إضافة الى الظروف التي اكتنفت قيام ثورة 26 سبتمبر. وقد توفي انجرامز عام 1973.

ترجم الكتاب الى العربية استاذان قديران هما: نجيب سعيد باوزير مترجماً، وعبدالكريم سالم الحنكي مراجعاً. وصدر الكتاب عن مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن ضمن سلسلة الكتاب السنوي لمجلة اليمن.

ويقدم الكتاب نظرة مغايرة ووقائع مغايرة لما يرد في أدبياتنا عادة، ومن هنا أهميته التي تتيح لنا إطلالة على الرأي الآخر.

عن عدن وبريطانيا:

يوجز انجرامز جوهر دور السلطة باعتباره في الأساس فن الإدارة لا الزعامة وهو ما يعاكس على طول الخط فهم قياداتنا المحلية لدور السلطة. ان السبب الرئيس من بين أسباب فشل حكامنا وقياداتنا يمكن تلخيصه في عبارة سوء الإدارة. يقول انجرامز:

السلطة - من وجهة النظر الإنجليزية- هي تعلم فن الإدارة قبل الزعامة، وفي عدن تكون البدايات الأولى لتعلم السياسة الإدارية، وكيف يمتلك الفرد القدرة على تحديد المسافة التي تفصل العقل عن الواقع.

في عدن وجدت الرؤية البريطانية نفسها مابين مكان يمتلك القدرة على مساعدة الآخر بماله من معارف وتواجد على مستوى العالم، وآخر يرى بالطرف الأول كيان يضع أسلوب المعرفة الخيار الوحيد في لغة الحوار مع ذاته ومع ما يحيط به.

المدينة كمركز للإشعاع الحضاري:

في ظل الإدارة البريطانية أصبحت عدن منارة حضارية تجبر الداخل اليها على خلع نعليه عند أبوابها ومعها بندقيته وخنجره وجنبيته وهمجيته. وأصبحت الفوطة والقميص الزي الوطني للقادمين إليها من مضارب القبيلة، فوطة وقميص دون إكسسوارات تعبر عن المكانة كالذهب الذي يزخرف الجنبية، فيضطر العري من رموز الوجاهة الفرد الى التزين بحسن الخلق، واكتساب الوجاهة بالمهارة والكفاءة فيما يعمل. ولم تسمح عدن بترييفها عن طريق فرض الهمجية عليها كما فعل الثوار فيما بعد. يقول انجرامز:

إن عدن التي صنعت مكانتها العالمية الجغرافيا لم تخلق أمامها مبدأ نفي الطرف المقابل، ولكنها أصبحت بالنسبة له الجسر الذي يعبر من خلاله إلى مدارك الزمن المتجدد، وأصبحت عدن تمتلك صفة المدينة صاحبة الوسائل المتعددة في تكوين العلاقات، وصفة المدرسة التي تعلم الفرد الارتقاء بالجوهر والشكل، ومن هنا كان الانطلاق دائما من عدن في الصحافة والاقتصاد والفن والإدارة والسياسة والثقافة والتعليم والرياضة، وتنوع الأجناس والأديان والمذاهب والأفكار، حتى قيل عنها ممن زاروها في ذلك العهد أنها المدينة الوحيد في العالم التي بها هذا الكم من الاختلاف، وتمتلك هذا القدر من التسامح.

أدركت بريطانيا أن استقرار الوضع في عدن لا يكون إلا من خلال ترتيب الأحوال في المناطق الريفية عبر سياسة التقدم نحو الأمام الهادفة إلى خلق حالة توازن بين مدينة تطرح بها مشاريع المجتمع المدني وريف لا تزال الحياة به لها شروطها الذاتية.

وبالعودة إلى قراءة نصوص المعاهدات البريطانية مع شيوخ وأمراء وسلاطين الجنوب، أقدمها تاريخياً 6 سبتمبر 1802 مع السلطان أحمد بن عبد الكريم سلطان لحج، ومعاهدة 2 فبراير 1839 موقعة من قبل وكيل وصهر السلطان محسن العبدلي سلطان لحج، مرورا بما جاء من بعدها، نجد أن الهدف السياسي- التاريخي هو وضع عدن في إطار من الأحوال الهادفة إلى جعل هذه المدينة في وضعية تسمح لها أن تتعامل مع القادم المتجدد عبر الإدارة البريطانية من خلال شروط موضوعية تتجاوز فيها العقليات مع مراحل التنفيذ.

وهذا التدرج في هذا النوع من سياسة العمل الإداري أوجد نوعية من التقارب بين عدن والمناطق الأخرى التي أصبحت تنظر إليها على أنها مدينة للتصالح والتقارب والاتصال مع العالم، وليست غنيمة صراعات وحروب، وكانت السلطة- من وجهة النظر الإنجليزية- هي تعلم فن الإدارة قبل الزعامة، وفي عدن تكون البدايات الأولى لتعلم السياسة الإدارية، وكيف يمتلك الفرد القدرة على تحديد المسافة التي تفصل العقل عن الواقع.

عندما عرفت عدن مراحل الاستقرار والتقدم قدمت كل ما يساعد على إعادة صياغة الزمان والحدث.

عن أسرة الإمام يحيى يقول انجرامز:

من المعروف ان أسرة الإمام قد تسببت له في الكثير من الألم. ويبلغ عدد من خلفهم إجمالا أربعين فرداً على الأقل، منهم أربعة وثلاثون ولدوا قبل عام 1921. ويعد ولي العهد أحمد أكبر أبنائه الذكور الأربعة عشر. وبما أن أحمد هذا كان هو الشخصية المحورية في قصة ثورة 1962 فلابد من محاولة فهمه.

وأنا لا أهدف إلى الترافع لصالحه، بل أريد فقط أن أفسر تصرفاته. لقد تربى منذ الصغر لكي يكتسب صفة الفظاظة وأصبح ممقوتاً أكثر من غيره من أفراد الأسرة؛ بينما كان محمد الابن الثاني للإمام المحبوب أكثر من غيره.

وقد توفي محمد غرقاً في عام 1933 بينما كان يحاول إنقاذ أحد خدمه الذي سقط في البحر وهو لا يستطيع السباحة، وقد وقع هذا الحادث بينما كان الأمير وحاشيته في نزهة في جزيرة الخضراء وهي عبارة عن جزيرة صغيرة غنية بالأشجار تقع قبالة مدينة الحديدة. ولم يكن الأمير محمد محبوباً داخل اليمن فقط بل أمتد الإعجاب به إلى خارجه.

أما الابن الثالث حسن الذي هو أخ شقيق لأحمد فقد كان حاكماً على إب. وهو كأحمد مستدير الرأس وقصير إلا أنه كان خجولاً وغير مطلع. ومع أنه كان ذكياً ولا يتصف بالقسوة فإنه كان يشارك بقية الأسرة في الاشتهار بصفة البخل. ويأتي حسين رابعاً في ترتيب الأبناء. وقد كان أشبه بمعلم مدرسة وكان يتحدث اليّ كأنما يخاطب اجتماعاً عاماً. ورغم اعتداده بنفسه إلا أنه لم يكن خشن الطباع، وقد تبادلنا الحديث حول هوايته - التاريخ - وأبدى استعداده لإعارتي بعض الكتب. وكان حسين هذا وزيراً للدفاع. اما الابن الخامس علي فقد كان سكيراً؛ وفي المرتين اللتين التقيت به كان واقعاً تحت تأثير الشراب.

وهناك اثنان آخران من الأبناء تم حبسهما بسبب انغماسهما في حياة العربدة. وكان أبوهما قد عرض عليهما أن يطلق سراحهما، ولكن يبدو أنهما وجدا حرية داخل السجن أكثر مما كانا يجدان في القصر ولذلك اختارا البقاء هناك. وكان علي وزيراً للاقتصاد والزراعة ولكن هذا لم يكن يعني أي شيء. والابن السادس هو قاسم الذي كان طيباً، بسيطاً، لطيف المعشر وغير مقيد بالرسميات. وقد كانت أكثر لقاءاتي به على مائدة الأكل. وكان قاسم وزيراً للصحة، إلا أن أبو زوجته هو الذي كان يقوم عنه بمهام عمله.

وكان عبدالله الابن السابع للإمام وهو أحد أبناء الملكة فاطمة، وكان يحظى بالإيثار والحب ولذلك كان رقيق الطباع وقد ساعدت النظارة الطبية ذات الإطار الذهبي التي كان يضعها على عينيه على جعله يبدو في مظهر المكب على الدرس. وبما أنه كان أقرب الى طبيعة الرجل المتحضر من بقية إخوانه فقد كان يفتقر الى قوة الشخصية، ولكنه كان يستطيع ان يتبين النقاط الجوهرية في مسألة ما، وكان منطقياً في مناقشاته.

إلا أن ممارساته في اقتناص الفرص للحصول على المال جعلته غير محبوب عند الناس. وقد كان وزيراً للدفاع قبل ان يصبح حاكماً للحديدة. ولم يتسن لي التعرف إلى الابن الثامن المُطهر. أما الابن التالي، إبراهيم، فقد كان شقيقاً لعبدالله كما كان الابن العاشر، إسماعيل، الذي كان شاباً هادئاً لطيفاً. كما لم أقابل الآخرين العباس، يحيى، المحسن وعبدالرحمن الذي لم يكن قد تجاوز الثالثة من العمر في عام 1941.

يقدم وليام انجرامز عن مدينة صنعاء صورة جميلة تكشف عن عادات حسنة اختفت في أيامنا هذه فيقول:

تعود جاذبية بير العزب الى بيوتها وما تحتويه بساتينها من أزهار أوروبية، تنحدر من الأصول التي جلبها الأتراك من موطنهم شأنها في ذلك شأن أشجار السرو.

ويضيف: تفتح بوابة القسطنطينية من بير العزب بينما تطل بوابة الصباح على المدينة ربما لتعكس مشاعر العاملين في غدوهم ورواحهم اليومي.

ومما تتميز به مدينة صنعاء القديمة البيوت العالية المبنية بالطوب المائل لونه إلى البني الفاتح مع صفوف من الطوب الأبيض. ومعظم البيوت الأكثر فخامة هي ملك للقضاة وكبار الموظفين والمسؤولين من ذوي الشأن وهي قرينة تعطي البينة على أن إدارات القضاء وجباية الضرائب هي من الأعمال المريحة.

أما بيوت التجار فهي عموماً لا تدل على الأبهة في مظهرها الخارجي، والأسباب واضحة أيضاً.

وكانت أسواق صنعاء بالنسبة لي مصدرا لا ينضب من مصادر الفتنة، فقد كانت شوارع أو ميادين كاملة تعج بالدكاكين الصغيرة التي يعمل أصحابها بنفس المهنة.

وكان هناك صانعو الخناجر وعمال المرمر والحدادون الذين كانوا على استعداد دائماً لتقديم بعض الألعاب حيث يقوم أربعة رجال بتطويح مطارق ضخمة في وقت واحد وهم يغنون. وفي أثناء ذلك يقومون بطرق قضيب من الحديد المُحمّى حتى البياض فيتطاير منه الشرار.

كما كان هناك صانعوا الأحذية وصانعو أغماد الخناجر وصائغو الفضة والخياطون والمطرزون وصانعوا الأقفال وملمعو المجوهرات وعمال النحاس وبائعو السجاد والمتعاملون بالرهن وباعة الكتب وغيرهم كثير

. وكان كل دكان صغير تقريباً حتى دكاكين الحدادين يضع فيها باقة صغيرة من الزهور الناضرة مغمورة في كوب من الماء. وكان كل رجال القبائل تقريباً يزينون عمائمهم بإضمامة صغيرة من الزهر أو الريحان أو الأعشاب العطرة.

ويوجد في صنعاء كذلك عدد من الحمامات العامة، وهي أنظف من بعض تلك التي رأيتها في الغرب».

وعن الطريق الى تعز يقول:

واصلنا سيرنا خلال وديان خضراء بها زراعة من الطراز الأول وكانت تموج بأشجار السمر، وخلال ذلك مررنا على سوق السبت. وبما أن اليوم كان هو السبت فقد كان السوق يضج بالحياة.

ويوجد في (السحول) القريبة نزل ومقهى وبعض الدكاكين الصغيرة المبنية بالحجارة تبيع أصنافاً مختلفة من السلع، أما سوق السبت فلا يوجد بها مقيمون ثابتون بل هي عبارة عن ساحة كبيرة تحيط بها أشجار القش.

والسلع الرئيسة المعروضة في السوق هي الأبقار والخراف والماعز. وكان هناك أيضاً الفواكه والخضروات والعرض المبهر المعتاد من الفخار الريفي.

إن هناك مفارقتين شدتا انتباهي في أثناء جولتي القصيرة في اليمن؛ إحداهما تلك المفارقة بين الصراع والنزاعات التي كانت في الماضي وبين النظام المتسبب في الوقت الحاضر، والمفارقة الأخرى بين السلام والاستقرار في المملكة وبين الافتقار اليهما في المحمية.

ان العديد من المواقع التاريخية التي شاهدتها لتقوم شاهداً على الحروب والمنازعات والفوضى التي سادت خلال القرون الغابرة؛ والقليل فقط من هذه المواقع تُعد مآثر تعبر عن الفنون والثقافة في عهد السلام كمراكز الإشعاع العلمي في زبيد وبيت الفقيه أو الطريق المرصوف الذي أنشأته الملكة سيدة، حتى الفلاحون الآن - كما اخبروني - يرون كم هي عديمة الجدوى تلك الحصون القديمة.

وقد تأكدت لي المفارقة الثانية، التي تحدثت عنها آنفاً، بشكل قوي وواضح من خلال مشاهدتي المتكررة للرجال والنساء وهم يعملون في الحقول دون أن يخطر ببالهم أنهم يمكن ان يتعرضوا للإغارة من قبل جيرانهم. فلقد عرفت المحمية عن كثب لمدة كافية بحيث أصبحت متعوداً أكثر على ان أرى المناطق الزراعية محصورة في الأماكن القريبة جداً من التجمعات السكانية المحصنة التي يمكن اللجوء إليها والاحتماء بها عند سماع طرقعة أول طلقة رصاص.

كما تجولت بالدابة لساعات خلال أراض مازالت عليها آثار لحواجز ري قديمة ورأيت واحات خصبة قد تحولت إلى صحراء ويقال أنها كانت مزروعة في التاريخ البعيد.

وفي اليمن يمكن حتى للمسافر المتواضع المكانة الاجتماعية أن يتنقل وحيداً من مكان إلى مكان دون خوف؛ أما في المحمية فإنه عادة ما يكون من الضروري أن يصطحب المرء معه على الأقل مرافقاً أشبه ما يكون بفيزا حية تعطي تأكيداً بأن المسافر هو تحت حماية القبيلة التي يتم العبور خلال أراضيها.

وكانت القوافل التي تتحرك من داخل اليمن في طريقها الى عدن تسافر في أمان على طرق التجارة طالما كانت في نطاق المناطق الخاضعة للإمام. ولكن ما إن تجتاز الحدود الى داخل المحمية البريطانية حتى تتعرض في أغلب الأحيان للسلب على يد القبائل المغيرة.

كتبت في عام 1941: (إن أحد الأشياء اللافتة للانتباه في اليمن مقارنة بالمحمية هو الأمن المستتب تماماً. إن شراء الأسلحة والذخيرة مسموح به ولكن لم أجد في أي مكان من يحمل السلاح إلا الجنود. وقد قيل مراراً إن الأمن في اليمن أسوأ من اللاأمن في المحمية بسبب القهر الذي يفرض بواسطته ذلك الأمن). حقاً إن حكم الإمام صارم وهو يحافظ على الاستقرار بطرق لا نحبذها نحن، ولكن نسبة ضئيلة فقط هي التي تعاني حقيقة من أصل مجموع السكان الذي يبلغ عدة ملايين. إن الضرائب والاستغلال ترهق كاهل الناس ولكن بالتأكيد ليس إلى الحد الذي يصبح معه العمل غير اقتصادي. إن الزراعة والمدرجات البديعة وحسن التدبير الحصيف والواسع، كل ذلك لم يكن ليتم القيام به لو كانت الضرائب شديدة الجور كما لم يكن ليتم القيام به دون أمن.

عهد الإمام أحمد:

حمل انجرامز صورة ايجابية عن حكمي يحيى وأحمد وكان معجباً ببعدهما عن التغريب، وان كان يعني التخلف فقال:

عمل عهد الإمام أحمد الكثير من أجل أن يغرس في نفوس الزيدية والسُّنة الإحساس بقضية مشتركة ولكنني أشك ما اذا كانت التناقضات الدينية قد أمكن الحد منها بشكل جذري. وهناك أقطار أكثر تقدماً بكثير من اليمن مازالت المنافسات الدينية فيها تتحكم في السياسة وربما كان من الغريب أن عملية تصفية هذه المشكلة في هذه الأقطار قد وصلت الى نفس المستوى الذي وصلت اليه تلك العملية في بعض الأقطار العربية المتقدمة.

ومع ذلك فقد أصبح من الواضح في الستينيات بعد الثورة أن المغايرة بين الماضي والحاضر تتمثل في كون الشرخ بين الزيدية والسنة سيختفي تدريجياً وأن العصرنة أو التغريب التي هي الآن اكثر بقليل من كونها مبتدئة ستتزايد. وهناك أيضاً بلا شك مغايرة جديدة بين اليمن والمحمية، فالأولى لم تعد قطراً واحداً مستتب الأمن بواسطة الحكم الصارم المنفرد بالرأي لملك كالإمام يحيى ولكنها أصبحت مقسمة وهي الآن محتلة جزئياً من قبل جيش أجنبي.

وربما كان هناك أخطار أخرى ما زالت تتجمع في الخفاء من باحثين عن السلطة من نوع آخر. وبالمقابل هناك بالتأكيد تحولات عظيمة في المحمية.. ولاشك ان المسافر يستطيع الآن أن يتنقل في بعض المناطق بحرية أكبر مما كان متاحاً من قبل، بالرغم من أن بعض الزوار أبلغوني بأنه إذا سألت عن الحالة وراء تلك الجبال في البعيد فسيقال لك إنها بلا بلا حكومة.

وهناك تحول آخر عظيم محسوس هو ما يلاحظ في بعض تلك المناطق التي كانت يوماً ما مزروعة ولكنها أصبحت صحراء لقرون بسبب الحرب القبلية السائدة، وهي الآن أخذت تنتج مرة أخرى بتأثير الوسائل العلمية الغربية.

ولكن التغيير الحقيقي، على أية حال، هو أن صورة الأربعينيات سواء فيما يتعلق بالأمن في اليمن أو بعدم الاستقرار في المحمية كانت صورة عربية من أولها الى آخرها بينما الصورة في الستينيات أصبحت تعكس تأثير الغرب أو بالأحرى الغرب الخالي من الروح.

فسواء أكان هذا الغرب مغلفاً بثياب الناصرية في اليمن أم بثياب الاستعمار المتقهقر في المحمية فهو لم يعد محتفظاً بأي من فضائله القديمة ولا يروق إلا للنوازع المغرقة في المادية عند أولئك الذين هم إما منبهرون ببهرجته أو واقعون تحت وطأة الرغبة الجامحة في مزاياه النفعية.

وسواء أكان في أفضل صوره كما في القديم أم في أسوأ صوره كما في الوقت الحاضر، فإن الغرب لم يكن بأحسن حظاً من المتدخلين الآخرين في العالم العربي. فإن عناصرهم المتفرقة كانت دائماً - كما قال لورنس - «تذوب في الخصائص القوية للعنصر السامي». فالفرد السامي كما يلاحظ لورنس «يتأرجح بين الشهوة وإنكار الذات» وقد كان لديّ غالباً مبرر أعتقد انه ربما ليس هناك دليل على مصداقية رسالة محمد أفضل من نظرته الثاقبة في فهم شخصية شعبه.

لقد كان هو نفسه يشاركهم في ضعفهم وفي قوتهم ولكنه توصل إلى مصالحة عملية بين إفراطهم في التعلق بالحياة الدنيا وبين نزوعهم المتأصل نحو الحياة الآخرة. إن العرب يعانون من صراع داخلي بين قابليتهم للفردية والجشع وبين إحساسهم الصوفي بنوع من الوحدانية غير المشكوك فيها كوحدانية الله الذي يضمهم تحت رعايته؛ ولكن محمداً بيّن لهم أنه ليس هناك تعارض في طرفي التفكير هذين.

وإذا أخذنا الموضوع إجمالاً، فإنني لا اعتقد ان الإمام يحيى، على الرغم من قصوره، يقوم بمهمته بشكل شديد السوء. وتأكيداً لهذا الزعم يمكنني أن استشهد بحجة في هذا الأمر كالعالم والداعية السوري البارز رشيد رضا الذي كان يعتقد، بعد أن ألغى الأتراك الخلافة، بأن الإمام يحيى هو أصلح من يمكن اختياره كخليفة انتقالي لجميع المسلمين.

ولعله ليس من التزيد المبالغ فيه الافتراض بأن حاكماً كهذا يمكن بالنسبة لليمن أن يشكل حالة أفضل من جمهورية ناصرية أو من اتحاد الجنوب العربي الملفق الشاذ.

وعن مشايخ وأمراء وسلاطين المحميات يقول انجرامز:

يلاحظ أن المركز الدستوري للأمراء محكوم أساساً بالعرف ولكن قوته الفعلية تعتمد على قوتهم الشخصية وحكمتهم. ويمكن تصنيف الأمراء في محمية عدن الى ثلاثة أقسام. فهناك أولاً جميع زعماء القبائل. وهؤلاء وراثيون من زاوية أن الزعامة محصورة في أسرة واحدة، وهم منتخبون من زاوية أن الخلافة الحقيقية يتم إقرارها باختيار أحد أفراد تلك الأسرة.

وفي حالة وجود تحالف قبلي تكون هناك قبيلة مركزية، ومن إحدى الأسر في هذه القبيلة يختار الزعيم الأكبر لحلف من قبل جميع أفراد القبيلة؛ ولكن الزعماء المهمين من القبائل الأخرى الداخلة في الحلف يكون لهم عادة رأي يُعتد به في هذا الاختيار.

ولكن يجب أن يكون واضحاً ان اختيار زعيم وراثي للحلف والاعتراف به لا يعني بالضرورة أنه مخول دستورياً أن يحكم بالمعنى الكامل للكلمة.

وعلى أية حال فإن مدى فاعليته كحاكم يعتمد بدرجة كبيرة على شخصيته وحكمته وقوته (أي على حجم التأييد الذي يمكن أن يحصل عليه بتأثيره الخاص أو بالإغراء المادي)، ولكن ربما يحصل مثلاً أنه لسبب تاريخي ما لا يكون ذلك الزعيم حاكماً بالمرة، ولكن فقط قاضياً إما بمفهوم (العهد القديم) وإما قاضي استئناف للتحكيم أو للنظر في القضايا التي ترد اليه من المستويات الدنيا في الحلف.

ثم هناك الأمراء الذين مكن أسلافهم لأنفسهم من طريق الغلبة. فهؤلاء متسيدون إقطاعيون، ولأن كلاً منهم يتخذ مركزاً مستقلاً عن رجال قبيلته، فليس عليهم سلطة قبلية تقليدية. واستخلاف السلطة فيهم هو شأن خاص بالأسرة ولا تتدخل القبائل في اختيارهم.

وهم يعتمدون على الجنود المرتزقة لا على الأتباع المنضوين في إطار القبيلة، ويقومون بالدفع لولاة يديرون شؤون مدنهم وقراهم ولا يلجأون عادة لرؤساء منتخبين في إطار العرف القبلي الوراثي. ولكن في النهاية اضمحلت قوة الأسر الحاكمة من المتسيدين الإقطاعيين شيئاً فشيئاً حتى اختفت.

أما النوع الأخير في تصنيف الأمراء فلا يوجد إلا مثال واحد عليه في محمية عدن الغربية وهو شريف بيحان الذي كان عبارة عن متسيد إقطاعي لم يصل الى ذلك المركز من طريق الغلبة ولا وفقاً لتقاليد الوراثة القبلية بل لأن بعض القبائل رضيت بأن يكون له نوع من النفوذ والسيادة عليها بسبب نسبه الذي ينحدر من النبي محمد.

ولذلك فهو لا يملك حقاً دستورياً أصيلاً يخوله الحكم ولكن نفوذه قد يصل الى درجة سلطة الحاكم ما دام القبول به موجوداً.

ويقول عن الصراع القبلي في المحميات:

استطيع أن أصور الوضع القائم بوضوح أكبر من خلال إعطاء لمحة عن تجربتي الخاصة في حضرموت. فقد كان هناك أميران ارتبطا مع بريطانيا بمعاهدات حماية - أحدهما السلطان القعيطي الذي كان متسيداً إقطاعياً مؤيداً بجنوده المأجورين وولاته الذين يستلمون مرتبات، والآخر هو السلطان الكثيري، وهو أمير وراثي منتخب في إطار حلف قبلي.

وكانت السياسة البريطانية آنذاك تتطلب أن أتعامل مع هذين الأميرين فقط، اللذين كانت أسرتاهما الحاكمتان قد وصلتا إلى حالة من التضعضع وكان الأميران كلاهما مهتمين بمسألة قيامي بالمساعدة على إنهاء حالة الصراع القبلي التي دامت لأكثر من ألف عام مع استثناء بعض الفترات القصيرة التي شغلها أمراء أقوياء، كان الصراع القبلي قد بلغ في الثلاثينيات حداً خطيراً.

  وأقنعني الأميران وبعض الزعماء الآخرين ان القيام بتلك المهمة لا يمكن ان يتم إلا بالاتصال المباشر مع القبائل. وبما أنني كنت بعيداً عن عدن، فقد صرفت النظر عن العمل برسالة الإرشادات التي كنت قد تلقيتها، وأخذت أطوف البلاد بمساعدة بعض الأطراف المحلية واعقد الاجتماعات لكي أحشد التأييد لهدنة تدوم ثلاث سنوات. ووصل الخبر الى عدن بهذا الذي كنت أفعله وطلب مني أن أكف. ولكن في ذلك الوقت كانت الهدنة قد أصبحت عملياً في اليد.

وفي غضون أسبوع أو اثنين كنت قادراً على إرسال إشعار يفيد بأن ما بين 1300 الى 1400 من زعماء القبائل قد وقعوا على صلح مدته ثلاث سنوات. حينها فقط أجيزت التحركات التي كنت أقوم بها.

2000 حكومة في حضرموت:

إن السلاطين كان ينظر إليهم عموماً دون اكتراث، ليس فقط من القبائل؛ بل حتى من الحكام المحليين الآخرين؛ ولم يكن بالإمكان تحقيق السلام والمصالحة بوسيلة أخرى سوى التدخل الشخصي وتعاون الشخصيات المؤثرة وفي الحقيقة لم يكن هناك حكومتان فقط يمكن التعامل معهما، بل قرابة الفي حكومة.

وأعتقد أن هذه الخلفية التي شرحتها ستساعد على فهم النجاح الذي يمكن أن تحققه دسائس الحكومة اليمنية في إثارة القلاقل في الجزء الغربي من البلاد بقدر النجاح الذي حققته جهودنا البناءة في الجزء الشرقي، خاصة عندما يتولى الإشراف على تلك الدسائس شخص دبلوماسي في دهاء حاكم البيضاء مزوداً بكميات كبيرة من الأموال والأسلحة.

لقد كانت مهمة الشامي أكثر سهولة، فرجال القبائل لا يستطيعون مقاومة إغراء الهدايا من السلاح والمال بينما نحن لا نملك ما نعطيه غير السلام مع التأكيد الحازم باستخدام القوة ضد من يخرق اتفاق الصلح. ومع ذلك لا جهودنا في حضرموت ولا أفعال الإمام في الجزء الغربي تقدم أي دليل على أن أهالي المنطقة يمكن أن يقبلوا بسهولة وضعاً مستقراً.

وعن صراع الإمام مع الاستعمار يقول انجرامز:

وكان أول أهداف الإمام منطقة الضالع (حيث كان أميرها قد فر الى اليمن عندما تأكد عزم بريطانيا على السير في طريق الإصلاح) بالإضافة الى مشيخة مجاورة معروف عنها النزعة الاستقلالية وإن كانت قد دخلت في معاهدة مع بريطانيا.

وقد أوعز الإمام الى شيخ هذه المشيخة أن يحرض إحدى القبائل المعادية للضالع وبالتالي يسبب ازعاجاً للإدارة البريطانية. وقررت السلطات البريطانية في عدن التدخل العسكري فما كان من الشيخ في مواجهة قوة مكونة من ستمائة من أفراد الحرس الحكومي إلا أنه فر الى اليمن. فاحتلت عاصمته وأقيمت نقطة حراسة حكومية وعين نائب انجليزي ليدير شؤون المشيخة.

وبالرغم من أن الإمام لم يكن مستعداً للتساهل في قضية المطالب الزيدية المتعلقة بالمحمية، إلا أنه فيما يبدو كان يرغب في تحسين العلاقات مع الانجليز. فقبيل نهاية عام 1948 وجه دعوة الى حاكم عدن ليقوم بزيارته في تعز، واقترح عليه فعلاً أن يقوم الى جانب عمله بدور الممثل الدبلوماسي لبريطانيا في اليمن. ولكن ربما لأن بريطانيا مضت قدماً في تنفيذ سياسة (التقدم نحو الأمام)، عدل الإمام عن هذا الاقتراح في فبراير عام 1949.

وكان الهدف الثاني للإمام هو بيحان، حيث كان الانجليز يمارسون دوراً نشيطاً. ولم يكن أحد يرحب بسياستهم الجديدة كما يرحب بها الحاكم الوصي على بيحان الشريف حسين صاحب الأطماع الخاصة، لأن القبائل لم يكونوا يعترفون به كحاكم. وكانت قبائل بلحارث قد قبلت طواعية بنفوذه عليهم المستند إلى مركزه الديني، ولكن قبيلتي المصعبين اللتين كانت إحداهما موالية لليمن والأخرى موالية لبريطانيا لم تذهبا الى الحد الذي ذهبت اليه قبائل بلحارث في الاعتراف به.

ولم يجد الزيديون صعوبة في إثارة الشكوك حول دوافعه الحقيقية لدى قبائل بلحارث الذين عادوا فرفضوا ادعاءاته وثاروا ضده. فقام الانجليز بضربهم بالقنابل حتى أخضعوهم لحكمه. وهاجرت قبيلة المصعبين المناوئة له وللانجليز إلى ما وراء الحدود».

عن الإمام ومشروع اتحاد الجنوب يقول انجرامز:

بالرغم من الجو المشحون بالعداء، دعا حاكم عدن، في يناير 1954، أمراء وحكام المحمية الغربية لمقابلته في مقر الحكومة، واقترح عليهم أن ينضووا في اتحاد يكون هو رئيسه تحت لقب المفوض الأعلى، على أن يكون هناك مجلس للحكم ومجلسان تنفيذي وتشريعي يكون أعضاؤهما معينين في بداية الأمر، ولكن فيما بعد سيكون هناك انتخاب لأعضاء المجلس التشريعي. وكان عرض الانجليز أن يدفعوا الى الوجود بدولة مستقلة جديدة ضمن الكومنولث البريطاني تحكم نفسها بنفسها على أسس ديمقراطية؛ ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة البلاد والناس، فإن الفكرة كانت خيالية.

وكان تنفيذ مثل ذلك الشكل التنظيمي يستلزم رقابة بريطانية حازمة. وهو في الحقيقة شكل من أشكال الحكم الإمبراطوري الإصلاحي (الليبرالي) الذي كان موجوداً في القرن التاسع عشر، إلا أنه بدا كما لو كان شكلاً من أشكال استعمار القرن العشرين، بالرغم من محاولات التستر والتنكر؛ وهو لعمري استعمار.

وكان رد فعل الإمام سريعاً وعنيفاً على خطة الاتحاد وأبدى الانجليز دهشة مصطنعة لرد الفعل هذا. ومن بين التبريرات التي سيقت لموقف الإمام كان هناك تركيز كبير على مخاوفه من أن يؤيد مواطنوه الشوافع تلك الخطة وبالتالي يتعرض نظامه لخطر التفكك.

وقد رأي انجرامز ان مشروع الاتحاد كان في اتجاه مضاد لسير التاريخ في تلك الفترة من المد التحرري فقال:

قضية هل يحق أو لا يحق للانجليز أن يحكموا عملياً المحميات تحت ستار معاهدات الاستشارة، فقد كان من الحماقة في عقد الخمسينيات أن يمارس الانجليز ذلك الدور.

لقد كانت (نظرية) القومية العربية واضحة باستمرار، وفي أيامنا الحاضرة هذه فإن (الكفاح من أجل التحرر الوطني) يجد مرجعيته التاريخية في الاستقلال الذي كانت تنعم به الشعوب المعنية في الفترة السابقة على دخول الاستعمار، كما يجد تبريره الأخلاقي في (الإرادة الشعبية) لدى الأمم التي تطمح إلى أن يكون لها أوطان معترف بها. وهذه النظرية ينظر اليها الآن على نطاق واسع بأنها تتفوق على السلطة الشرعية التي تتم المحافظة عليها في نهاية الأمر عن طريق القوة.

ومع تصاعد الحرب مع الإمام وانتشار الغليان الداخلي، تلاشت الأصوات المؤيدة لمشروع الاتحاد إلا من بعض الصامدين على ولائهم للانجليز كشريف بيحان. وأخذ سلطان لحج، الذي كان شاباً طموحاً، يتراجع ويصبح أكثر فأكثر خاضعاً لتأثير الاتجاه الوطني وبالتالي أكثر بعداً عن الانصياع لنصائح الانجليز».

وعن ثورة 26 سبتمبر يقول:

أعلن البدر أن والده توفي في الساعة التاسعة من مساء يوم الثلاثاء الثامن عشر من سبتمبر بعد ان سقط مريضاً لبضعة أيام. وقد نقل جثمان الإمام بالجو من تعز إلى صنعاء في صباح يوم الخميس ودفن في مسجد الرضواني.

وفي خطاب العرش الذي ألقاه البدر، قطع على نفسه عهداً (أن يكون مخلصاً للشعب وأن يقف الى جانب المظلومين ويوطد العدالة، وأن الضعيف عنده قوي حتى يقتص له من القوي الذي ظلمه فيكونان عندئذٍ سواء في ميزان الحقوق). وقد وعد بسن (أنظمة جديدة تكفل للمواطنين حقوقهم أسوة بمواطني العالم المتحضر).

كما وعد كذلك بالتخطيط (لرفع مستوى معيشة المواطنين) وكان عاقداً العزم على أن (يكون كل المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات). وقال إن هدفه هو (أن يخطو يداً بيد مع شعبه في ركب الإنسانية السائر نحو التقدم والأمن والسلام) وأن (يحاول تحقيق حلم الشعب العربي في إنشاء الوطن العربي الموحد). أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد قال إنه سيتعاون مع من يمد اليه يد الصداقة (دون أن نربط أنفسنا بالتحالف مع أي طرف).

وكانت خطابات البدر وأفعاله بعد وفاة والده تفصح عن نية صادقة في أن يسير وفقاً للعهود التي قطعتها على نفسه والأفكار التي كانت تخالجه عن يمن أفضل.

وكانت أولى خطواته الإصلاحية تستهدف تخفيف بعض أقسى المظالم في نظام والده، فأصدر عفواً عاماً عن كل السجناء السياسيين والمبعدين، وألغى نظام الرهائن، وكوّن مجلساً استشارياً من أربعين عضواً نصفهم ينتخبون والنصف الآخر يعينون، بالإضافة الى إنشاء مجالس بلدية في كل المدن بمعدل عضو لكل 5000 مواطن. وكبداية نحو تطوير الإنتاج وتنمية الموارد الفردية والجماعية دون تأخير، اضطلع بأعباء منصب رئيس الوزراء، بالإضافة إلى منصب رئيس الدولة، حتى إصدار مرسوم.

وكانت المملكة العربية السعودية والأردن أول من بادر من الدول بإرسال التعازي إلى الإمام الجديد في وفاة والده، كما سبقت الكثير من الدول عبدالناصر في تقديم التعزية، وأبدت جمهوريات مثل سوريا والعراق مظاهر احترام غير عادية.

وجاءت رسالة عبدالناصر في الحادي والعشرين من الشهر التي تمنى فيها للبدر النجاح في تحقيق أماني شعبه في (مستقبل يحقق له الكرامة التي أرادها الله للإنسان) ولكن أذاع راديو عبدالناصر، في اليوم نفسه تعليقاً يقول إن هناك ملوكاً عرباً آخرين، مثل سعود وحسين، هم في حقيقة الأمر أموات مثل الإمام أحمد، ولكنهم لم يدفنوا بعد، أما خليفة الإمام أحمد فهو (مصنوع من ورق).

وأذاع الراديو في اليوم التالي، ضمن حلقات (أسرار اليمن)، تعليقاً جارحاً حول خلافة البدر وأعاد التأكيد على أهداف إنشاء الجمهورية وغيرها من الاصلاحات التي أوردها الدكتور البيضاني في حديثه بتاريخ 3 أغسطس المتضمن النقاط الثمان.

وأضاف البيضاني في حديثه الجديد اتهاماً كاذباً تهكمياً للبدر بأنه أعلن عزمه على السير قدماً على خطى (السياسة الرشيدة لوالده الراحل). وقد ختم آخر حلقة من سلسلة أحاديثه من القاهرة بالقول إن ميعاد اليمنيين مع القدر قد أزف.

ولم يمر اسبوع حتى اندلعت الثورة في اليمن في 26 سبتمبر 1962.