التمكين الاجتماعي مطلب التغيير الاقتصادي
بقلم/ عبد الرحمن تقيان
نشر منذ: 12 سنة و 9 أشهر و 4 أيام
السبت 11 فبراير-شباط 2012 08:52 م

في عام 1998، سجلت حكومة رئيس الوزراء الراحل د. فرج بن غانم نجاحاً منقطع النظير في اليمن رغم قصر فترة حكومته (عام واحد فقط)، فقد قفزت حينها المؤشرات الاقتصادية أعلى من الأعوام التي سبقته فين كان ذلك العام هو أسوأ عام على الإطلاق منذ بداية الثمانينات حيث تدني سعر برميل النفط إلى 12 دولاراً فقط. كان ذلك بفضل فكره الاقتصادي المتقد الباحث عن العدالة والتنمية الممنهجة، وكذلك كان الأمر في سنى حكم الرئيس إبراهيم الحمدي القليلة والتي أضحت كالحواديت عن أيام هارون الرشيد.

بالمقابل، فلقد انتهجت حكوماتنا السابقة "إصلاحات" لا تعمل على تمكين المجتمع في الحياة الاجتماعية والإنسانية ولا تشركه في عملية الإصلاح والتنمية الاقتصادية، بل انها عملياً تحمّل الفئات الاجتماعية الفقيرة (الأغلبية) أعباء وقيمة الإصلاحات غالباً لصالح الفئات والشرائح البرجوازية (الأقلية). لذلك فعلى الحكومة الحالية وما بعدها إعادة النظر والتفكير الجدي لقلب هذه المعادلة ليستفيد الجميع (كونهم جميعاً هدف التنمية ومسئولية الحكام) من تلك الإصلاحات، وذلك بتقييم الأثر الاقتصادي والاجتماعي "الواسع" للإصلاحات السابقة أولاً ومن ثم تجريب تغيير المنهجية والأدوات لتضمن إشراك الأغلبية والأقلية على حد سواء في رالي التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

"جور السياسات المالية والنقدية الحالية"

ركزت الحكومات السابقة بإمعان على زيادة الإيرادات النفطية والضريبية اللتان تمثلان أكثر من 90% من إيرادات الخزينة العامة، مستخدمة أدوات إنكماشية وإقصائية للمجتمع تحول دون إشراك أفراده كلياً في النشاط الإقتصادي ليفضي ذلك إلى فقدان الأثر الاجتماعي والاقتصادي الحقيقي من تلك الايرادات. وكما ذكرت بشكل مقتضب في مقال سابق، فتلك الايرادات المتحققة، حتى وإن كانت كبيرة جداً، فإنها ذات فعالية محدودة في حياة الفرد (هدف التنمية)، رغم أنها تؤدي إلى زيادة الناتج القومي الاجمالي لليمن وزيادة حجم الموازنة والنفقات، لأن العائدات ببساطة لم يتم تناولها بين الناس (فرص عمل وكسب مهارات) لكن تم تداول معظمها فقط بين المقاولين والشركات والاستيراد والاستهلاك..إلخ. 

كان ذلك ما يتصل بالايرادات والانفاق، لكن هناك ما يتصل بالسياسة النقدية ومعالجات الهيكلية الاقتصادية والنقدية التي أيضاً قامت بتهميش أكبر للمجتمع بل بالتخلي عن خدمته وتحميله مالا يطيق. وقد ركزت تلك السياسات إلى تحقيق وفورات في الموازنة (مثل إزالة الدعم للمشتقات النفطية وزيادة أذون الخزانة وإضافة ضريبة المبيعات)، وعن طريق تقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، بل وحتى إلغائه وعبر تعمد خفض الإنفاق الحكومي على خدمات أساسية ليساهم ذلك في زيادة الفقر وتدني مؤشرات التنمية البشرية وهي خدمات لا يجوز التهاون فيها مثل التعليم والصحة ومعدلات الاستثمار العام. فإذا ما حدث وفر مالي كبير صرف الوفر سريعاً يمنة ويسرة وبدون موافقة البرلمان ليطلب من البرلمان في نهاية كل عام الموافقة على صرف كافة تلك المبالغ في شكل موازنة إضافية وهمية لا تتعدى الأوراق التي كتبت عليه ولتعود نسبة الانفاق العام على موازنة البنود الاجتماعية تلك بنفس نسب الأعوام السابقة وليشعر المواطن أنه تم استغفاله بواسطة ممثليه البرلمانيين.

"السياسات الاقتصادية"

مارست الحكومات المتعاقبه ذات أدوات "الإصلاح الاقتصادي" التهميشية التي طالما سمعنا الكثير عنها ثم تلاشت عن الأسماع وهي لا تزال قائمة فعلياً رغم فشلها المعلن تنخر في جسم المجتمع المهتريء كالسرطان الذي ينهك الجسم بطيئاً لئلا يدركه الطبيب خوفاً من استئصاله. وكانت من تلك الأدوات تحرير التجارة والانضمام إلى اتفاقية التجارة العالمية وخفض التعريف الجمركي للواردات لأدنى درجة وتحرير سعر الديزل وتبني اقتصاد السوق وافشال استراتيجية الأجور وإعادة التكييف والهيكلة الاقتصادية، وبخاصة أقامة مشاريع الخصخصة التي ساعدت ذوي النفوذ في الإمعان في نهب أصول البلاد بدلاُ من تطويرها، بحيث نقلت ملكيتها الاقتصادية والاجتماعية من ملكية الشعب إلى ملكية ناهبي الأراضي وتجار السلاح ومهربي النفط ليحال موظفو تلك المؤسسات المخصخصة الى صندوق الخدمة المدنية الفاشل. وكان نموذج مثل هذه الممارسات المؤسسة الاقتصادية العسكرية التي أضحت فجأة المؤسسة الاقتصادية اليمنية التجارية العامة التي لم يعد أحد يعلم إلى أي مؤسسة أو وزارة تنتمي!! وما هويتها!! هل مدنية أم عسكرية!! وما هو السبب في عدم خضوعها حصرياً إلى رقابة الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة!! وعدم نشرها حساباتها الختامية في الجريدة الرسمية!! ونسب أرباحها...إلخ!! 

كل ما سبق كان يجري على قدم وساق بشكل ديناميكي طفيلي لم يكن يصب في مصلحة المجتمع ولا يصل خيره إلى الريف والعاطل والمريض والمزارع وبذلك أنتج إقتصاداً متهالكا وانتاجاً معدوماً وانساناً معدماً. بل وتعدى الأمر ذلك إلى رفع تعرفة جميع الخدمات الحيوية الأساسية للشعب مثل الماء رغم تلوثه والكهرباء رغم انطفائها المستمر والمجاري والمستشفيات المرجعية الأساسية فما بالك بالريفية رغم وصول خدماتها لمن يقدم فيتامين "واو" الجديد وحتى وسائل كسب المعرفة شبه المجانية في العالم مثل الاتصالات والانترنت رغم جودتها الرديئة وقيمتها الباهظة.

"أدوات اقتصادية مساندة"

وعندما ترغب الحكومة بالاستجابة لضغوط ممولين بتحسين أداءها الضريبي مثلاً فانها وبدلاً من أن تصلح أسلوب الجباية الضريبية القائم على قيام شبكة عصابة تضامنية لجابيي الضرائب، تنزع ببساطة إلى فرض ضريبة المبيعات التي يتحمل الفقراء تبعاتها الضريبية المالية الكبيرة.

وبدلاً من أن تفعّل جهاز "النيامة العامة" لمكافحة الفساد بحزم، فانها تتفنن في إختراع جهاز الرقابة والمحاسبة الذي يفرغه قانونه من محتواه انتماؤه للسلطة التنفيذية وعدمُ اعتبار أي تقرير رسمي صادر عنه قرينةً قانونيةً يعتد بها أمام أي محكمة يمنية! ولتكن المحصلة عمالة مقنعة لمئات من موظفيه واعتمادات مالية خيالية لنفقاته ومناقشات لتقاريره في دهاليز البرلمان بعد مرور سنوات وسنوات من صدوره.

وكان الاختراع الأطرف "هيئة مكافئة الفساد المستقلة" الذي أدارته أدوات حاكمة صرفة (من أحزاب التحالف الوطني) وبضعة شخصيات تتصل بالمجتمع المدني استقال معظمها منه. كان الأطرف فيها على الإطلاق تعيين وكيل الأمن القومي الشاب نائباً لرئيس الهيئة بقرار رئاسي غير منشور ويعرف ذلك كافة موظفي الهيئة. أما الأقدم طرافة فيها قانونها أيضا الذي يحكم على الصحفي أو المبلغ عن حالة فساد ولا يمتلك دليل إدانة ضده بمعدل 100% بالسجن لسنوات ودفع غرامة للفاسد نظير التشهير (رغم تقديم الدليل في ظرف مختوم لا يقرؤه إلا لجنة صغيرة جداً). ثم بعد ذلك يرتكز معظم عمل الهيئة على تشجيع جميع فئات المجتمع على المشاركة في فضح وتقديم الفاسدين إلى العدالة، رغم أن دور الهيئة في حال إدانة فاسد لا يتجاوز إحالة ملف ذلك الفاسد إلى النيامة العامة التي تنييمه في درج "النائم العام" لسنوات. وكان الأسهل من كل ذلك أن يتقدم المواطن أو الصحفي بأي دليل يمتلكه إلى النيابة العامة لتقوم هي ببقية العمل دون التهديد بالسجن ولا الغرامة.

يتطلب الاقتصاد المتعافي ولادة دولة مؤسسية حديثة تقوم على جودة العمل والاستهداف وآليات الحكم الرشيدوسيادة القانون والقضاء النزيه والمستقل وإدارة فنية متمرسة وموظفين حكوميين عموميين أكفاء يعتمدون على قاعدة الكفاءة والخبرة. وينبغي على السياسات الاقتصادية ضمان خلق حد أدنى من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعدم إقصاء دور الدولة بشكل كامل في مجتمع حاد الفقر والأمية والمرض طالما لم تستطع الاضطلاع بإعطائه تلك الحقوق.

في الأخير: لقد كان كل ما تقدم شرحه هو الحافز الرئيس لخروج الشباب إلى الشوارع وسيؤدي إلى خروجهم في مرات قادمة إن لم تدرك الحكومة مكامن الغضب الشعبي ومكابح