مذاكرة في فقه تغيير المنكر وتطبيقاته المعاصرة
بقلم/ د. محمد معافى المهدلي
نشر منذ: 16 سنة و 5 أشهر و 5 أيام
الخميس 12 يونيو-حزيران 2008 04:56 م

مأرب برس - خاص

ظلّت فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر طوال التاريخ الإسلامي الزاهر، فريضة شامخة عزيزة، لا يختلف عليها اثنان، لولا أنه اعترى هذه الفريضة شيء من الغموض والضبابية لدى المنادين بها، والمعترضين عليها، سيما في الفترة الأخيرة من عهود الانحطاط والتخلف الإسلامي، ليس حول الفريضة نفسها، وإنما في تطبيقاتها وممارساتها .

الأمر الذي يجعلنا نعود إلى أصل المنبع، وحقيقة الصورة الإسلامية المشرقة لهذه الفريضة، مستبعدين من أذهاننا الأخطاء والتجاوزات التي قد تقع هنا وهناك، أو الفهوم الخاطئة ذات التأثر بالنمط الغربي المنحل في التعامل مع قضايا المجتمع ومشكلاته وممارساته، ومعالجة أخطائه .

وبادئ ذي بدء أؤكد أنّ هذه الفريضة هي إحدى أهم خصائص الأمة الإسلامية التي يجب الحفاظ عليها، وأنه لا يجوز أن تحملنا الثقافة الغربية الطاغية المنحلة أن نتنكر لأصالتنا وكرامتنا وأخلاقنا، وأسباب ديمومتنا وأمننا واستقرارنا، فالغربي من البدهي جدا ومن غير المستنكر عنده، ارتكاب كل المنكرات الخلقية على مرأى ومسمع من كل أحد، ولا يجوز في عرفهم الفاسد الاعتراض على أي سلوك أو خلق مشين، حتى الممارسات البهيمية كالشذوذ والسحاق والخمر ..الخ مما تعافه حتى البهائم والدواب .

وهذا بخلاف المجتمع الإسلامي الفريد الذي يستنكر كل جريمة ويعترض على كل خلق مشين، ويشكل المجتمع الإسلامي النظيف بكل فئاته وأفراده وسائل حصانة ومقاومة لكل فيروس سقيم أو مريض يغزو جسد المجتمع الإسلامي وبنائه الشامخ.

ولهذا السبب ظل المجتمع الإسلامي هو المجتمع الأنظف والأطهر والأفضل والأنقى وإلى يومنا، وباتت فيه وسائل الجريمة وروادها محل حصار ومطاردة ومقاومة من كل المجتمع وفئاته .

وبالتالي فالمعترضون على هذه الفريضة الإسلامية إما أنه أصابهم شيء من رذاذ لوثة الغرب الأخلاقية والفكرية، على أقل تقدير، أو أنهم في أنفسهم امتداد لفكر الأمركة واللبرلة، وهم غرباء على أصالة أمتنا وثقافتها .

ثانياً: أن هذه الفريضة الإسلامية ليست منوطة بجهاز أو هيئة معينة، حتى تكال عليها التهم وأطنان من الأوهام والتخوفات، بل هي في الأساس مهمة اجتماعية يجب أن يقوم بها كل فرد في المجتمع الإسلامي، لقوله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

وقد فسّر العلماء هذا الحديث بأن التغيير باليد موكول إلى الولاة الشرعيين، والتغيير باللسان إلى العلماء وطلبة العلم والعارفون بالحلال والحرام، والتغيير بالقلب إلى عموم المسلمين .

وقد توعد رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مرضى القلوب وموتى الضمائر الذين يرون المنكرات أمام أعينهم، ثم لا تتمعر وجوههم غضبا لله ورسوله، توعدهم بالهلاك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة .

كما ورد في الحديث: (لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يعمكم بعقاب من عنده) كما في الترمذي وغيره .

ولعل ما نراه من بلايا ومحن ومصائب حاقت وتحيق بالأمة، إنما هو بسبب تقصيرها في القيام بهذا الواجب الإسلامي العظيم .

كما أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة واجبة على الحكام والأمراء، بالدرجة الأولى، ويجب عليهم إنشاء الهيئات والمؤسسات لإقامة هذا الأصل العظيم من أصول الإسلام، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كجزء مكمل لواجب الأمة العام، ولأن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن كما قال عثمان رضي الله عنه.

ثالثاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس كما يظنه البعض حسبة على المستضعفين والفقراء، ومن لا يملك حولا ولا طولا، بل هو أمر بمعروف ونهي عن منكر، في مختلف شؤون الحياة ومساراتها السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية والأخلاقية، من كل من ظهر منه هذا المنكر، أميراً كان أو مأموراً، غنياً أو فقيراًً، وليس كما يتوهم البعض .

لكن تبقى هنا مسالة يجب الإشارة إليها، وهي مدى قدرة المحتسِب، فقد يقدر المحتسب أو المحتسبون على هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد لا يستطيعون، خشية ظلم أو قهر أو اعتداء في النفس أو العرض أو المال، أو فصل من الوظيفة أو الدراسة والسكن أو الحصار ..الخ، فهنا لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا تكليف إلا بمستطاع، لكن حبذا الشرع الإسلامي التغرير بالنفس في سبيل إرضاء الله رب العالمين، للحديث: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله)، سيما إن كان المحتسب متبوعا أو إماما وعنه يؤخذ الحلال والحرام، فقد يسع العامة ما لا يسع الخاصة .

رابعاً: لا إنكار في المسائل المختلف فيها، وتحضرني هنا قصة أرويها لظرافتها، وتعبيرها عن المراد، تبين وتجلي الأمر، في إحدى المؤسسات التعليمية في بعض البلدان الإسلامية، خلف المحيط، أنشأت هذه المؤسسة داخلها لجنة للحسبة، أي للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بيد أن اللجنة لم تلتفت إلى المنكرات الإدارية والفكرية وحالة التزمت والتشدد، والبغي وأمراض الحسد والكبر والغطرسة والمحسوبيات والفساد المالي... وسبل معالجتها، وركزت جهدها على المسجد والمصلين، وفجأة سمعنا عن اعتزال المؤذن الأذان، وعلمنا فيما بعد، أن السبب في اعتزاله أن هذه اللجنة احتسبت على المؤذن لحسن صوته، وأن في صوته "فتنة" للنساء، وهنا تحركت بوارج المحتسبين إلى إدارة هذه المؤسسة، وإلى مدير الجامعة مباشرة، آنذاك، لتغيير هذا المنكر، فالمنكر غير محتمل السكوت عليه، كما ترى اللجنة، وفعلا عُزل المؤذن من الأذان، رغم أنه كان رحمه الله متطوعا، وكان مع ذلك يعاني في أحشائه مرضا عضالاً توفي بسببه، رحمه الله رحمة واسعة، واستبدل بمؤذن آخر خشبي، حديدي وفولاذي الصوت ، لا فتنة في صوته . 

فيما من المعلوم شرعاً أن السنة تقديم الأندى صوتاً في القراءة والإمامة، فضلا عن الأذان والإقامة، ولو قيل بهذا المذهب الغريب لعزل إماما الحرمين فوراً، وكثير من المؤذنين في العالم الإسلامي .

غير أننا حمدنا الله على عدم نفي هذا المؤذن، إلى الشام، أو سيبيريا، وتداركته عناية الله وانتقل إلى جوار ربه، رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنانه .

 

فمثل هذه الاجتهادات الفاسدة عكّرت وشوشت على الأمة كثيراً في دينها، وأثرت على كثير من أداء الدعاة والمصلحين، ممن يحمل رسالة السنة والهدي النبوي، ومثل هذا الاحتساب على النساء المحتشمات اللاتي لا يلبسن النقاب، وإلزامهن بمذهب الإمام أحمد، فيما كشف الوجه من المعلوم أنه مختلف فيه، ما لم يكن في إبرازه فتنة، كما في حديث سفعاء الخدين في حجة الوداع، مع الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الجانب الأكمل والأفضل في حق المرأة من كمال الحشمة والستر، بلا إلزام .

ومثل ذلك الإلزام بهيئة معينة كالعمامة والجبة، أو لبس معين، كدليل على الخير والصلاح أو سعة العلم والتقى، فيما المسألة عرفية صرفة، لا دليل فيها، أو الاعتراض على الأناشيد الإسلامية سيما تلك التي تبث روح العزة والجهاد، وترغب في الله والدار الآخرة .

ومثل هذا كثير .

والحاصل أنه ينهى عن المنكر، الظاهر الذي لا خلاف فيه، وربما لعل الذين يتخوفون من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما من عوامل هذا التخوف بعض هذه الممارسات الخاطئة، التي تدور في مخيلة كل أحد منهم .

لكن تبقى فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة لازمة، وما يقع من أخطاء في الممارسة والتطبيق تجعلنا نتعرف أكثر وأكثر على مواطن النجاح والخير والبر والصواب، فلولا الخطأ ما عرف الصواب، كما يجب الاجتهاد في معالجة هذه الأخطاء المصاحبة، التي تغمر في بحار الحسنات، وألا نثرب على أصحابها بل نتقبلهم بسعة صدر ورحمة ورأفة، وحرص على المعالجة والتصحيح.

خامساً: الأمر بالمعروف يسبق النهي عن المنكر، ومن الخطأ أن نقدم دوما النهي عن المنكر، على الأمر بالمعروف، بمعنى أنه يجب أن ننشر المعروف في كل أرجاء الأمة، فكما ينتشر النور في الآفاق فيبدد الظلام، فكذا المعروف حين ينتشر في أنحاء الأمة المسلمة، فإن ظلام المنكر يتبدد، بمعنى آخر أن ننشر الفضيلة في كل مكان ومرفق ومؤسسة وشركة وجامعة.. وإذا انتشر الخير في مرافق الأمة، أضحى الشر والرذيلة غريبة مستوحشة، لا قرار لها ولا مكان .

وإلا قل لي بربك كيف نريد أن ينتشر الخير في أمتنا، ونحن نزج بالخيرين والصلحاء والدعاة والفضلاء والأحرار في غياهب السجون، وأنى للخير أن ينتشر، وكلما أوقدت للخير شمعة وبرزت له راية أطفأناها.

 ألا كم من جامعات كانت أشبة بالشوراع ومحلات الموضة والأسواق، وحين دخلها الحجاب ، وغشيها القرآن، تحولت إلى مساجد وروضات للعلم والفقه، وتوراى عنها الشر والفتنة .

إن علينا ألا نقفز عن الترتيب الشرعي لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنعكسها رأساً على عقب، بل نبدأ بما بدأ الله به ورسوله، وهو الأمر بالمعروف أولاً ثم النهي عن المنكر .

هذه مذاكرة عابرة وحديث عن هذه الفريضة، أسأل الله تعالى أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، والحمد لله رب العالمين .

Moafa12@hotmail.com