|
لم يعد موضوع الحوار الوطني موضوعا قابلا للنقاش ليس فقط لأنه أحد مستلزمات المبادرة الخليجية وملحقاتها، بل ولأنه وبعد تجربة ثلث قرن من التفرد والخداع والإلغاء والادعاء والمكر والحروب، والتضليل، لم يبق أمام اليمنيين إلا أحد خيارين : الخيار الأول: تكرار تجربة المجرب وهو (هذا المجرب) لم يجلب لليمنيين سوى التخلف والعشوائية وتنمية الفساد وتفشي تجارة الضمائر وخراب الذمم، وهي الاستراتيجيات التي اعتمدها النظام المخلوع طوال فترة تحكمه بالأمور في البلاد، وأي محاولة لإعادة تجريب هذا النهج لن يكون إلا أشبه بالذي ينهى عن المنكر ويأتي مثله، والخيار الآخر: الذهاب نحو حوار وطني جاد ومنفتح وبلا محرمات أو خطوط حمراء وهو ما توافق عليه اليمنيون يوم إن اتفقوا على القبول بالمبادرة الخليجية وآليتها، رغم ما فيها من مرارات تجرعها الضحايا، وأضرار قبل بها الشعب اليمني من منطلق "بعض الشر أهون من كله".
الحوار الوطني بجد ذاته ليس غاية يمكن أن نحشد لها الطاقات ونجند لها الإمكانيات، بقدر ما يمثل وسيلة حضارية للدخول إلى لب المشكلات اليمنية المتعددة والمعقدة، الحقيقية والمصطنعة، بعد أن أضاع اليمنيون أكثر من نصف قرن من حياتهم وهم يبحثون عن سبل الخروج من دوائر الاستبداد والتخلف والاحتراب، ومن هنا فإنه سيكون من المهم إنجاز مؤتمر الحوار الوطني الذي صار كل اليمنيين مقرين بأهميته، لكن هذا الحوار لا يمكن أن يكون ذا قيمة وفاعلية ما لم يسبقه إعداد كاف يضمن من ناحية تجاوز العثرات والصعوبات التي تقف في طريق نجاحه، ومن ناحية أخرى تقارب وجهات النظر التي يتبناها كل طرف من الأطراف المعنية بالحوار من الأحزاب والتنظيمات السياسية والكيانات والمكونات المجتمعية ومنظمات المجتمع المدني والحركات الاحتجاجية والشبابية في الشمال والجنوب على السواء.
هناك مجموعة من المحاذير التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار عند الحديث عن الذهاب إلى مؤتمر الحوار الوطني، سأستعرض هنا أهمها.
أولا حول القضية الجنوبية: لا يدعي عاقل أنه يجب وضع الحل الفوري للقضية الجنوبية قبل البدء بالحوار لأن ادعاء كهذا سيلغي أي ضرورة للحديث عن القضية الجنوبية في إطار المؤتمر, لكن ما ينبغي التنبيه إليه هنا هو وجود موقفين متطرفين يتعلقان بالقضية الجنوبية الأول هو ذلك الموقف الذي يقول لا مكان لفك الارتباط ولا للفدرالية ، فضلا عمن يقول لا مكان للقضية الجنوبية بغض النظر إن جاءت هذه المواقف تحت مقولة أن اليمنيين متحدين وحبايب ولا مشكلة بينهم وليسوا بحاجة إلى إعادة النظر بشكل الدولة، أو تحت شعار " الوحدة أو الموت" أو إن الوحدة خط أحمر لا يمكن التعرض له، هذا القول بشقيه يبعث رسائل سياسية غير حكيمة تنبئ عن عدم الجدية أو النية الحسنة تجاه الجنوب والجنوبيين خاصة وإنه يأتي من أطراف لا تنتمي إلى الواقع الجنوبي الذي دمرته حرب 1994م، إن لم يكن بعض القائلين به هم من المستفيدين من نتائج تلك الحرب، الموقف الثاني ذلك الذي يقول أن الحوار لا يعني الجنوبيين وإن أي نقاش يجب أن ينطلق من مبدأ فك الارتباط والعودة إلى ما قبل 1990م، وهناك من يعتبر أن أي حوار هو "شرعنة للاحتلال" وإقرار بـ"مشروعية نتائج الحرب" هذا الموقف يغلق أي بوابة للنقاش لأنه يضع الحل قبل الحوار كالذي يضع العربة قبل الحصان.
ومن هذا المنطلق فإن أهم موقف هنا هو ليس بالضرورة أن يكون الاتفاق على حل القضية الجنوبية قبل المؤتمر، بل لا بد أولا من الإقرار بعدالة ومشروعية القضية الجنوبية وأحقية المنادين بها في طرح رؤاهم لحلها وترك الرؤى المختلفة بشأنها لمؤتمر الحوار للوصول إلى ما هو عقلاني ومثمر ومقبول وإيجابي لأطراف الحوار وسيكون على الجميع الجلوس على طاولة الحوار ولا خيار آخر غير الحوار، أما القول بأن الحوار هو "إقرار بنتائج الحرب" و"شرعنة للاحتلال" فإنه لا يختلف عن القول بأن قبض المرتبات من خزينة صنعاء يمثل خيانة للقضية الجنوبية، وكل هذا يكرس موقفا عدميا يرفض الممكنات المطروحة دون أن يقدم أي بدائل بناءة وفاعلة .
ثانيا حول هيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية: في تصوري إن الحديث عن أيهما أولى هيكلة المؤسسة الأمنية والعسكرية أم عقد مؤتمر الحوار، هو حديث بلا معنى لأن مؤتمر الحوار يأتي لتناول القضايا السياسة المعقدة والتي استعصت على الحل بسبب سياسة التفرد والإقصاء والاستعلاء، أما هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية فهي ليست قضية حوارية بل قضية إجرائية، ومن حق رئيس الجمهورية وحكومة الوفاق أن يعالجاها وفقا لصلاحياتهما الدستورية وما تمنحهما المبادرة الخليجية من صلاحيات إضافية، وهنا لا بد من الإشارة إلى إشكاليتين تتعلقان بهذه القضية، الأولى إن المسيطرين على المؤسسة الأمنية والعسكرية هم في الغالب ممن اغتصبوا قانون الحصانة من البرلمان اغتصابا وحصلوا عليه رغما عن إرادة الشعب ودماء الشهداء والمخزونات المالية والعينية المنهوبة وبالتالي فلا يحق لهم المطالبة بالبقاء في مناصبهم، بل ينبغي أن يشكروا الشعب اليمني على العفو الذي يفترض أنه قد منحهم عن جرائمهم التي ارتكبوها في حقه، الإشكالية الثانية أن أحد طرفي الحوار يواصل، وينوي أن يواصل إلى ما بعد مؤتمر الحوار، نهب مخازن الأسلحة والذخائر والبنوك والمؤسسات الاقتصادية، وسيأتي للحوار مدججا بما نهبه من أسلحة من مخازن المؤسسة العسكرية التي هي ملك للشعب، فكيف سيستقيم مثل هذا الحوار بين طرف يأتي للحوار مزودا بالمتفجرات والأسلحة المنهوبة والمصوبة إلى صدور محاوريه، والأموال المسلوبة المسخرة ضد إرادة الشعب وممثليه، وأطراف لا تملك إلا الفكرة ومشروعية القضايا التي تتبناها، وهكذا تأتي أهمية الإسراع في هيكلة المؤسسة العسكرية والأمنية قبل مؤتمر الحوار الوطني كقضية تغدو ضرورة لا غنى عنها، ولا يمكن الذهاب إلى المؤتمر دون إنجازها.
ثالثا حول قضية صعدة: أعتقد أن أهم إجراء ينبغي الإقرار به الآن هو إيقاف التوتر القائم في المناطق التي يسودها الاحتكاك، ثم الاحتكام إلى الحوار، وقبل هذا وبعده الإقرار بأن قضية صعدة هي من صنع النظام المخلوع وعلينا جميعا الإقرار بأهمية معالجتها وهنا تأتي إشكاليتين مهمتين، الأولى ضرورة احترام حرية الاعتقاد وعدم تكفير من يتبنى قناعات مخالفة، وثانيا الإقرار بأن صعدة اليوم (مثل كمل مناطق اليمن ) بحاجة إلى إعادة الإعمار أكثر من حاجتها إلى اختلافات عقائدية ومذهبية، ولكل منا أن يتبنى المذهب الذي يرتضيه دون إكراه أحد أو التعرض للإكراه من أحد.
أخيرا: إن الاستعجال في الدعوة لعقد المؤتمر الوطني في ظل سيطرة الجماعات الإرهابية على عدة محافظات تقترب مساحتها من ربع مساحة الجمهورية، وفي ظل شكوك وتسريبات أن أحد أطراف الحوار هو من سهل لهذه الجماعات مهمة السيطرة على تلك المحافظات سيحول مؤتمر الحوار الوطني إلى نوع من المراضاة بين الجناة والمجني عليهم أو بين الجلاد والضحية، وبهذا الصدد فإنني أقترح أن تتفرغ السلطة والقوى السياسية أولا لمجابهة الجماعات الإرهابية ثم الكشف عن الخلفيات التي مكنت تلك الجماعات من السيطرة على حوالي ربع مساحة الجمهورية ومحاكمة من قدم لها التسهيلات والدعم، وبعد ذلك الحوار مع من يستحق التحاور معه، وفي المؤتمر الكثير من الشرفاء ممن لم يتورطوا في العمليات الإرهابية ولا في عمليات الفساد، ولا في قتل المواطنين اليمنيين أو نهب الأراضي وعقد الصفقات المشبوهة، . . . .وما ينطبق على المؤتمر ينطبق على جميع أطراف الحوار بما في ذلك المشترك وأنصاره.
برقيات:
*أكبر خلل تضمنته المبادرة الخليجية أنها منحت المجرمين حق مواصلة الإجرام من خلال عدم ربط الحصانة باعتزال السياسة والوظيفة العامة، وبهذا فإن اليمن شهدت وتشهد هذه الأيام أكثر مظاهر الجريمة المعلنة ازدهارا في التاريخ.
*لا بد من تحية إكبار وتقدير لأبطال المقاومة الشعبية ورجال القوات المسلحة في محافظة أبين ومديرية لودر، الذين أثبتوا أن القاعدة ليست أسطورة لا يمكن قهرها، وإن ما حققته من نجاحات لم يكن ليتم لولا تخاذل وتهاون أنصار المخلوعين.
* قال الشاعر الجاهلي السموأل بن عاديا:
إسلمْ سلـمـتَ ولا سـليمَ على البلى فَـنيَ الـرّجـالُ ذوُو القُوَى فَفَنِيتُ
كـيفَ الـسلامة ُ إن أردتُ سلامةً والـموتُ يَـطلُـبـُني ولستُ أفوتُ
وأقـــــيلُ حيثُ أُرى فلا أخفى لهُ و يرى فــلا يعيا بحــــيثُ أبيتُ
ميـتاً خُـلِـقْتُ ولـم أكُـنْ مـِن قـبلها شيئاً يـمـوتُ فـمـُتُّ حيثُ حَيِيتُ
وأموتُ أخــــرى بعدها ولأعلمنْ إن كان ينـــــــفَعُ أنّني سأموتُ
في الإثنين 23 إبريل-نيسان 2012 05:14:44 م