الدكتور الدغشي أستاذ أصول التربية بجامعة صنعاء
بقلم/ متابعات
نشر منذ: 14 سنة و 7 أشهر و 22 يوماً
الأربعاء 05 مايو 2010 09:32 م

صحيفة السياسية- وكالة سبأ للأنباء -أجرى الحوار عبد الله الصنعاني

ينطلق المتعصب من شعوره بأنه امتلك زمام الحقيقة المطلقة وفي الوقت ذاته يشعر المتعصب بالنقص والخذلان تجاه الآخر الذي يفوقه وتسيطر عليه التعصب حالة من ردة الفعل ولذا تجد المتعصب يكابر ويرفض أن يعترف بغير "أناه" في هذا الحوار نتحاور مع أستاذ أصول التربية وفلسفتها الدكتور أحمد الدغشي نتساءل عن التعصب ونناقش أبعاده التربوية والفلسفية

السياسية: كيف يمكن التمييز بين مفاهيم مثل التعصب ، الثبات على الحق، المرونة؟؟

الدغشي: أحسب أن التمييز بين هذه المصطلحات يقتضي تحديد المقصود بالتعصب أولا؟ فالتعصب يعني التشبث بفكرة ما على أنها حقيقة مطلقة لا تقبل النزاع بصرف النظر عن دليلها وحقيقتها الموضوعية ودلائل الإثبات التي تؤكد بأنها حقيقة أو ليست حقيقة هذا فهمي الإجرائي للتعصب والمتعصب هو شخص يعتقد و يؤمن بشيء ما اعتقده بصرف النظر عن مرجعيته ودليله وحقيقته وبصرف النظر عن ما إذا كان آخرون يتفقون معه من ناحية الحيثيات التي استند إليها أم لا، أما بالنسبة للثبات على الحق فهو مصطلح ذو دلالتين قد يكون الثبات على الحق لأن صاحبه محق فعلا، وقد يكون ثباتاً على ما يظنه حقا وهو في الواقع ليس إلا أيديولوجيا عمياء أو تعبئة خاطئة أو شيئاً ما اعتنقه كأي فكرة يعتنقها صاحبها بصرف النظر عن أدلتها ومرجعيتها وقوتها، وهنا يصبح تعصباً، أما المرونة فيجب أن نميز بين مستويين من المرونة هناك مرونة فيما لابد أن تكون المرونة فيه ما نسميه في الفكر الإسلامي بالمتغيرات بحق الاجتهاد واختلاف النظر وتعدد الرؤى، هناك تكون المرونة والثبات في شيء لا يقبل المرونة، يعني مثلا الحفاظ على الشرف أو الدين أو العرض أو ما يسميها الأصوليون الضرورات الخمس، هذه الثبات عليها ثبات على الحق ولا تقبل المرونة على حين أن متضمناتها وتفاصيلها، ويقبل الاجتهاد في إطارها فهو مرن يمكن أن يصنف في إطار هذا المصطلح وعليه فالمرونة تأتي فيما يسمى بالمتغيرات في حق الاجتهاد وما إلى ذلك، لكن لا يعقل أن يكون كل شيء يقبل المرونة كأن يأتي شخص ويقول لك لابأس بأن تقبل بأن ثمة إلهاً آخر وأن هناك نبيا سيكون بعد محمد – مجرّد أمثلة -.

السياسية: لا أعتقد أن الناس يختلفون على مثل هذه الأشياء فالكل في مجتمعنا مؤمن بأركان الإسلام الخمسة مسلم بالضروريات الخمس ومع ذلك هناك تعصب في مسائل يمكن أن تقبل المرونة..

الدغشي: لا قلت لك: إذا دخلنا في تفاصيل مثلا أول الضروريات الخمس الدين فعندما ندخل في الدين سندخل الاجتهادات وتعدد الرؤى لكن الدين كحقيقة، وهنا سؤال: هل الدين ضروري للإنسان أم لا؟ نحن أمام جوابين جواب يقول لك أحدهما: نعم وهنا الثبات، وجواب يقول لك: لا وهنا ما قد يسميه البعض مرونة فإذا قلت في مجتمعنا أنا معك قد لا يوجد من يعتقد هذا الكلام وإذا وجد فإنه لا يجاهر به لكن على مستوى النخب الفكرية والثقافية أحيانا في أطرها الخاصة قد يطرح مثل هذا الطرح..

السياسية: لا أعتقد أن أحدا في مجتمعنا لا يؤمن بالدين إنما هناك خلاف بين من يقول أن الدين والدولة شيء واحد وبين من يقول أن الدين شيء والدولة شيء آخر

هذا مثال جيد، ومثال الدين والدولة أنا أعده في تربيتي -وأدّعي بأنني أنتمي إلى التيار العريض من المسلمين ومدرسة الوسطية الإسلامية- بأن الدين على مدار التاريخ الإسلامي كله -وكما يقول محمد عابد الجابري- بأننا لا نعرف فصلا بينه وبين الدولة، وهذه حقيقة تاريخية فلا يمكن أن تفصل بين الدين والدولة باعتبار أن المشكلة الكنسية لم تبرز في تاريخ المسلمين، فلا يجوز أن تطرح عندهم -كما يقول الدكتور الجابري أيضاً- فلتسموها الديمقراطية أو العقلانية، لكن هناك من يطرح الآن -في إطار النخب- بأنه ينبغي أن ينحى الدين جانباً- وهناك طرح يقول: نحن إزاء هذا الصراع الذي يجري الآن باسم الدين في إطار الجماعات وكل يدعي الحقيقة الحل ينبغي أن نقدم فكرة العلمانية التي تفصل بين الدين والدولة لتكون هي الحل!! لا أنا أعتقد أن هذا حلّ كارثي تماماً، لا إن هذا الحل المفترض – على فرض سلامته لمجموعة تعاني من الإشكال مع قيم المجتمع ومعتقداته- فإنها أغلبية المجتمع وسواده الأعظم ستظلم، لأن الكل يتفق بأن المجتمع متديّن ويطالب بتطبيق الشريعة في أغلبيته الساحقة، بما في ذلك حتى المجتمعات التي تعرّضت للعلمانية على مدى يزيد عن سبعين عاماً كالمجتمع التركي -مثلاً- ، وهذا أكبر مأخذ وفق المنطق الديمقراطي! وهنا نكون دخلنا في الثوابت لا أقبل بوصفي مسلما -وأدعي الاعتدال- أن تطرح فكرة العلمانية في مجتمع ذي أغلبية مسلمة، وهذا في نظري ثابت وليس من قبيل المرونة، فإذا تصلب أحدنا بأن يكون الإسلام ديناً ودولة، فهذا ثبات محمود ومطلوب وإن زعم أحدنا بأنها مرونة هن؛ا فإنه متحلل ومنسلخ .

السياسية : متى يكون التعصب إيجابيا؟

الدغشي: أنا لا أسميه تعصباً بل ثباتا على الحق أو إصرارا على لوازم المنطق أو الدليل أو العقل، وهنا لا بأس أن يصر أحدنا على ذلك ولا يسمى تعصباً، متى يغدو تعصبا سلبياً –إن صح أن نقول أن التعصب قسمان- عندما يتحول صاحب الفكرة التي يدعي لها المشروعية أو الحقانية المطلقة إلى فارض لها بالقوة والعنف إما أن تؤمنوا وإما فياويلكم؟ وهنا يكون تعصبا أعمى، لكن في الثبات على الحق إذا أصر أحدنا على رأيه دون عدوان على أصحاب الرأي الآخر، فهذا إصرار محمود وإن شئت أنت أن تسميه تعصبا فذلك مصطلحك .

السياسية: ماذا عن التعصب من أجل الحفاظ على الهوية وهل ثمة هوية يصح التعصب من أجلها؟

الدغشي: مرة أخرى التعصب لا يراد به الثبات على الثوابت، على الأقل من وجهة نظر محدّثك، فذلك – وإن خالف اللغة- لكنه التعصّب حتى للحق عرفا غير مستساغ، ولذلك لا أعتقد أن من يؤمن بفكرة سليمة تماماً، ويصر عليها، ويدافع عنها يسمَّى متعصباً، فكوني أدافع عن ديني أو وطني أو قيمي المجتمعية الإيجابية، أومكتسبات بلدي وأمّتي لا أسمي هذا تعصباً بل قياماً بالواجب أو ذودا عن الحق، و الهوية داخلة في هذا، لكن الهوية ذات مستويين أحدهما: الانتماء الحضاري العام، بمعنى الانتماء إلى الدين والأمة، والآخر انتماء خاص، أي الانتماء إلى الوطن، أو الانتماء إلى الطائفة، أو المذهب أو الحزب، أو إلى القبيلة، وهنا تتفاوت المسألة فإذا كان الانتماء الحضاري هو الأعلى والأسمى؛ فإن الانتماء الخاص مشروع ولكنه محفوف بجملة من التحدّيات أبرزها أن يطغى الانتماء الخاص على الحضاري العام، أما أن يكون واحداً من طرائق الوصول إلى الانتماء العام؛ فلا نستطيع إلا أن نشدّد على ما يمكن وصفخ بأخلاق الهويّة أو الانتماء .

السياسية: لو تحدثنا عن التعصب الديني برأيك من الذي يصنعه؟

الدغشي: أعتقد أن هناك جملة عوامل لصناعة التعصب الديني أساسها مايُعرف بمؤسسات التربية التي تبدأ بالأسرة، فأحيانا قد نجد الأب أو الأم أو الأخ أو الجد – في إطار الأسرة الممتدة- قد يكون هؤلاء جميعا مؤثرين على نمط التنشئة، بحيث كلها أوامر أو كلها نواه وعندهم أنها حقائق ولا مجال للبديل والحوار وليس هناك إلا رأي كبير الأسرة، ما يسمى بالسلطة الأبوية، وهنا يبدأ يتشرب التعصب ولاسيما في بعض الأسر المتدينة -للأسف الشديد- فهذا يجوز وهذا لا يجوز وهذا حلال وهذا حرام هكذا بإطلاق، فإذا لم نميز بين ما أحل الله حقا وما حرم حقا فمشكلة محقّقة، ومسألة التحليل والتحريم نسبية إلى حد بعيد في كثير من المسائل لاسيما التربوية والاجتماعية، والتعامل الدوغمائي( الفوضوي) مع مسألة الحلال والحرام يكون هو العامل الأول في تشرب ثقافة التعصب، بحيث إن أي شيء يخالف القناعات التي تربى عليها الطفل ولاسيما في الست السنوات الأولى -كونها المحك الأساس في عملية التنشئة- ولذا فإن من الصعوبة أن يستقبل الطفل أي متغيرات تخالف تلك التي تنشأ عليها سواء كان سلبيا أو إيجابيا، فإذا انتقل بعد ذلك إلى المدرسة التي قد تكون عامل تعزيز للتنشئة الأولى خطأ كان أم صوابا ثم المسجد ثم الرفاق ثم مؤسسات التنشئة الأخرى ولاسيما في أيامنا كمؤسسات المجتمع المدني والتنظيمات السياسية فهنا إما أن تكون هذه المؤسسات متوافقة –سواء على الصواب أو الخطأ- فيخرج المتعلم نمطا محددا إيجابيا أم سلبيا سويا أم منحرفا، وإما أن تكون متضاربة وهذا هو الغالب لاسيما مع دخول مؤسسة الإعلام على خط التنشئة، فيحدث تضارب، وهنا يصبح المتعلم كما يقول أستاذنا سعيد إسماعيل علي أشبه بعربة يجرها حصانان، ينطلق الأول يمينا و الثاني يسارا، وكل يلهب ظهره بسياط أوامره ونواهيه، والنهاية سيتمزق نفسياً وذهنياً! من هنا تنشأ الذهنية الدوغمائية عند المتعلم فيتصوّر أن ثمّة حقائق مطلقة في كل شيء، وأحياناً عندما يجد أمراً من هنا ونهيا من هناك في الموضوع نفسه فيحدث فيه من الاضطراب والتمزق والتشتت وفقدان الثقة في كل ما يحيط به، مما يجعله غير قادر على أن يؤمن بفكرة سليمة إلى النهاية، حتى إننا لنجد الآن من المخرجات العدمية التي تقول: لا يوجد شيء مطلق، لا يوجد حق مطلق كل شيء نسبي، وكل شيء قابل للأخذ والعطاء، وكل شيء عادي، لا تقل لي حلال ولا تقل لي حرام، هذه – ياعزيزي- بل يقولون كل شيء نسبي، فلا يوجد حلال ولا يوجد حرام، ولا باطل ولا صواب؟ وكل شيء ممكن، والإنسان حر فيما يفعل، وحتى لا يستفزك يقول:"ورب الناس سيحاسب الناس". هذه هي ردة الفعل المتطرفة لتلك الأوامر أو النواهي القاسية الصارمة التي كانت تأتي من هذا الطرف أو ذاك. نريد أن نحدد ما هو الخطأ وما هو الصواب ؟ما هو الثابت المطلق؟ وما هو المتغيّر النسبي؟

السياسية:الآن في ظل هذه التعصبات التي فرضتها طبيعة السياسة وتقلباتها ما هو واجب مؤسسات التربية كونها صاحبة التأثير الأول في المجتمع بكل شرائحه، من أجل الاعتراف بالآخر والتعايش مع المختلف؟

الدغشي: في تصوري أنه يمكن النظر إلى الموضوع من زاوية تأكيد أن الإلغاء أو المصادرة لأي مكون اجتماعي أمر مرفوض وغير مقبول، والدستور والقانون يكفل التعايش للجميع، بمن فيهم الأقليات، وذوو الخصوصيات. وإذا كانت لدينا جدية حقيقية في الموضوع أن تشكل لجنة موسعة من خبراء في التربية وكل ذي صلة بالتربية من مؤسسات وأفراد وشخصيات مؤثرة، لتنظر في المناهج الحالية من حيث وجود التعصب فيها من عدمه، ليشمل ذلك التعليم العام والأهلي والخاص، وكذلك الحال في مؤسسات التعليم العالي العام والخاص أيضا، وبالذات الأقسام والكليات ذات الصلة بالعلوم الشرعية، وإعادة النظر فيها، إذا ما ثبت تبنيها لأي معنى من معاني التعصّب، أو بث ثقافة الكراهية، وهذا ليس سهلا ويتطلب اختيار أزكى وأنظف وأطيب العناصر المخلصة وهذا في المؤسسات المقصودة،ويتوازى مع ذلك مؤسسات التنشئة غير المقصودة من الأسرة والإعلام والأحزاب والتنظيمات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني ومساجد وأندية ونحو ذلك، وتبقى المدرسة هي المؤسسة الأهم والأبرز، ليس الضرورة عبر خطاب الكتاب ومضامينه الرسمية المعلنة، بل هناك ما يبثه المدرس من الأفكار والسلوكات الخاصة والأنشطة المصاحبة عبر ما يُعرف بـ(المنهج الخفي)، ولكن هذا الإجراء سسهم في محاصرة التعصب إلى أقصى نطاق.

الجزء الثاني

السياسية: لماذا يوسم العرب والمسلمون على وجه الخصوص بأنهم أكثر تعصبا؟

الدغشي: هذا حكم غير علمي وغير موضوعي وهي أحكام عامة مرسلة، وأيّما حكم تعميمي خاطئ فإنّه لا يستأهل البحث أو النقاش.

السياسية : (مقاطعا) لكن العرب والمسلمين اليوم أكثر الناس صراعا وانقساما فيما بينهم، بالرغم أنهم يدينون بدين واحد أليس هذا دليلا على أن كلاً يتعصب لرؤاه بل ويقاتل من أجلها؟

الدغشي: أرجو أن لا يُختزل التاريخ في حقبة معينة. أنت تعلم -وينبغي أن يعلم الكل- بأن الأوروبيين كانوا مضرب المثل في التناحر والصراع المدمِّر إلى متصف القرن الميلادي المنصرم فقط، لا تُعرف الحروب الكونية إلا بين الأوروبيين مع أنفسهم، كم عدد ملايين ضحايا الحرب العالمية الأولى؟ أمّا الحرب العالمية الثانية وحدها فهل تصدِّق أنها بلغت ستين مليوناً من بني آدم، وكلهم أوربيون مسيحيون، ولا علاقة للمسلمين – تحديداً بذلك- من أي وجه. وتخيّل أن تندلع حرب أهلية بين الأمريكيين الشماليين والجنوبيين تمتد لأربع سنوات أي من سنة 1861- 1865م، ثمّ لا يُلفت ذلك نظر مَن يجعل الغرب والولايات المتحدة خصوصاً قِبلته وأيديولوجيته! أنا لا أقول: إنّ التاريخ الإسلامي نظيف ومشرف كله، لكن تصويره بأنه فصول من المآسي، وليس فيه غير ذلك، في مقابل انبهار غير مبرّر علمياً، كما هو غير دقيق تاريخياً، بما جرى عند الآخرين، وفي مقدمتهم الأوربيون ظلم وسطحية وعيب في حق من يروّج له!. 

السياسية( مقاطعا) لكن في أوربا كان الصراع بين رأيين كبيرين الكاثوليك والبروتستانت، لكن المسلمين اليوم الخلاف على مستوى الأسرة والحي وخلافات داخل المذهب والواحد ناهيك عن الخلافات الشاسعة بين المذاهب ..

الدغشي: يا أخي مرة أخرى ستون مليوناً في الحرب العالمية الثانية بين أبناء دين واحد، وحضارة واحدة، هل هذا أمر عادي وبسيط، ولا يلفت النظر؟!. ومع أن الخلاف الذي أشرت إليه في إطار الأسرة والحي ليس دائماً سيئاً وسلبياً؛ فأنا لا أبرر ولا أقول إن واقعنا أو تاريخنا -قبل ذلك- شيء جميل ومشرّف، ولكن لا أريد أن نكرِّس لدى الجيل عقدة أن قَدَرنا هو السوء، وأن الآخرين هم أحسن منا في كل شيء، بل أستطيع القول إن العدوان والإرهاب مكون أساس في الشخصية الغربية، ليس لأنها من جينات معينة، ولكن لأن تنشئتها قائمة في جانب غير قليل منها على مكوّن العدوان والتعصّب، وما مظاهر النازية، وتضخّم العِرق الآري، ونتائج الشعور بالاستعلاء على الآخرين، وما الإحساس بنزعة التفوّق المتطرّفة لدى الإنسان الأوربي الأبيض، بل المصائب التي تنزل حالياً ببعض الأقليات المسلمة في بعض دول أوروبا الغربية، وما أمراض العنصرية ضد السود، وما يُعرف عندهم بـ(الخُلاسيين) والملونيين تلك التي وجدت لها تشريعات وقوانين أحيانا في بعض الولايات الأمريكية، وما سحق عشرات الملايين من العبيد والهنود الحمر لتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية قبل ذلك؛ إلا دليل على أن تأثير الفلسفة الهوبزية ( نسبة إلى توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي الشهير) لاتزال مؤثرة جدا في مسار الحضارة الغربية المعاصرة، رغم الحديث عن البراجماتية كثيرا، لكن البراجماتية- في حقيقة الأمر- جزء من الهوبزية الواقعية في بعض جوانبها، أما النظرية الهوبزية( نظرية الشرّ) فتقول إن الإنسان كائن متوحش بطبعه، وهو ذئب في صورة آدمي، وإنما أوجد الإنسان القانون والفن والآداب والتقاليد الحسنة لتحاول جميعها أن تهذبه، وإلا فإنه كائن متوحش، وعلى هذا الأساس، فلسان حالها يقول لكل مختلف معها: تغدّى به قبل أن يتعشى بك، فأنت قاتل أو مقتول على أيّ حال. وما يجري اليوم في العراق، أو أفغانستان من انتهاك فطيع لحقوق الإنسان،من قبل القوات الأمريكية وحلفائها الأوروبيين، وخاصة حين نجد ذلك القتل العشوائي، وتحويل كثير من الأفراح إلى أتراح، وضعف بل انعدام أخلاق الحرب في كثير من الأحيان، وقبل ذلك وبعده ما يجري في فلسطين على مدى عقود مديدة ، بزراعة أوروبية، وعبر رعاية ودعم غير محدود من قبل الأمريكان بوجه خاص، والأوروبيين بصورة عامة للعصابات الصهيونية في فلسطين المحتلة؛ إلا دليل على مدى تمكّن تلك الفلسفة الهوبزية ورفيقتها البراجماتية، من السيطرة على نفسية صنّاع القرار الأمريكي والأوروبي. ومع أنني أؤكد أن واقع العرب اليوم مؤسف ومخجل، لكن ليس ذلك قَدَرهم المقدور، لأنهم بالمقابل توحّدوا بعد فرقة، وأدخلوا أمما كانت ذات حضارات متغطرسة واستعمارية كالفرس والروم في حضارتهم وانصهروا فيها، وضرب المسلمون أروع الأمثلة في العدل والمساواة والانتصار للضعيف والمظلوم، لأنهم اقتربوا من هداية الوحي، وصاروا – بحق- دعاة إخاء ومحبة، ولأنهم لو ابتعدوا عن هداية الوحي يقعون في التعصب للمذهب أو الطائفة أو الحزب. والتاريخ لا يرحم، وهذه هي السنن لاتحابي أحداً: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجزَ به، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا)، أي ليس لأنكم مسلمون ستتجاوزن السنن. وتجد أصحاب المنطق المخالف يقولون نحن المسلمين مخاطبون بقول الله –تعالى-( كنتم خير أمة أخرجت للناس) وينسون تتمة الآية (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)، وهذه لوازم الخيرية، لأنه بالمقابل إذا أخذنا بهذا المعنى سنقف عند آية أخرى يقول فيها رب العزة --يخاطب بني إسرايل- (يابني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين) فهل هم أفضل الناس؟ لاهُم أفضل الناس بالمطلق، ولا أننا خير الناس بالمطلق، نحن خير الناس عندما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله بكل مقتضياته، وهم أفضل الناس لو أنهم التزموا أوامر أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام.

(السياسية) هناك من يقول إن التعصب الديني أكثر شراسة فتكا بالمجتمع فما رأيك؟

نعم بالفعل أعتقد أن التعصب الديني هو أسوء أنواع التعصب، لأن التعصب هنا يستند إلى (المقدس)، يستند إلى مشروعية الذات الإلهية أو الحق الإلهي في تعصبه -إن صح التعبير- وذلك لا ينفي أن غيرهم متعصب، حتى لو استند إلى خيار لا ديني، أو علماني، أو نحو ذلك، بل أحيانا -وإن لم يصرح دعاة الحل غير الديني- قد لا يختلفون من حيث الممارسة والسلوك عن التعصّب الديني، حتى لو ادّعوا أنهم براغماتيون أو لا دينيون أو علمانييون ليبراليون، أو لا يحملون إيديولوجية مطلقا؛ فإنني لا ألتفت إلى الدعوى، بل أنظر إلى الفعل والنتائج.

السياسية: الإشكال هنا أنك في الوقت الذي قد تستطيع أن تقنع بالحوار والفكر والعقل أي مؤدلج غير ديني لكن المتعصب الديني لا يمكن أن تقنعه مهما قلت لأنه يرى أن رأيه هو رأي السماء.

الدغشي: ظاهر الأمر –كما قلت- أن أسوأ أنواع التعصب هو التعصب الديني، للأسباب التي ذكرتها، لكن ذلك لا يعني أن المتعصب الآخر أقل خطورة أو شيئا عاديا، فتجده -على سبيل المثال- لو أردت أن تقنعه بقضية لباس المرأة المسلمة، ذي المواصفات الخاصة،أو ما يسمّى بالحجاب، وأحياناً النقاب؛ فإنه سيقول لك هذا مستحيل، أنت تريد التخلف والدمار، وإحلال الأصولية، لا يمكن أبدا، وتأمّل ليس النموذج العلماني الغربي في تونس أو تركيا، بل في النموذج العلماني الليبرالي الغربي في فرنسا، أو بلجيكا مؤخراً –مثلاً- تجاه هذه القضية. صحيح أن من يتبنى هذا الموقف الدوغمائي لا يقول قال الله، قال الدين، قال الفقيه، ولكنه من حيث النتيجة والمآل لا يختلف عن غيره، ولا يقبل النقاش في موضوعات يرى أنها مسلَّمات، ولذا فلا يختلف من هذه الزاوية عن التعصب الديني.

السياسية: ماذا عن التعصبات المنطلقة من ذات المقدس؟ التعصبات الدينية المذهبية لماذا هي موجودة والمرجعية الدينية واحدة وهل يمكن إذابة مثل هذه التعصبات طالما أنها تشترك في منطلقاتها؟

الدغشي : في البداية لا بد أن نميز بين المؤسسين الأوائل للمذاهب الشهيرة كالشافعي وابن حنبل ومالك وأبي حنيفة وزيد والثوري هؤلاء إذا ذهبت إلى مصادرهم ونصوصهم تجدهم يرفضون التعصب، ولسان حالهم ومقالهم يقول بمقولة الإمام مالك :"كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة"، وأشار إلى قبر النبي -صلى الله عليه وسلم- لكن بعض أتباعهم هم الذين طغوا في التعصب لهم إلى حد أن تجد جملة من الأحاديث المدسوسة، وهذا عامل من عوامل التعصب الكبيرة التي لم يجد بعضهم ما يبرر به تعصبه لإمامه إلا نسبة أقوال مكذوبة إلى النبي الأعظم- ص- . وهذا بالمناسبة ليس بين الشيعة والسنة فقط كما يروج الآن سياسيا ويغطى بالثوب الديني، بل على مستوى الطائفة الواحدة، فعلى سبيل المثال يروي بعضهم حديثا مكذوبا يقول: "سيخرج على أمتى رجل يقال له محمد بن إدريس(أي الشافعي) أضر على أمتى من إبليس، وسيأتي رجل يقال له أبو حنيفة سراج أمتي" عندما يقدّم الموقف من الآخر على هذا النحو المقدس هنا، والجيل قد يتلقّف مثل هذه التعبئة بلا تمحيص؛ فإن ذلك سيخلق من التعصب والاحتقان باسم الدّين ما لا يمكن التقليل من شأنه على مستوى الحاضر أو المستقبل. عندما نربي أبناءنا على قول واحد لإمام واحد، وكأننا -من حيث ندري أو لا ندري- نشطب على الآخرين، ولئن صح هذا عند العامة والأميين فلا يصح في المؤسسات العلمية الكبرى العامة كالجامعات. ويجب أن يتم تبني الفقه المقارن في مؤسسات التعليم العالي: في كلية الشريعة وفي أقسام الدراسات الإسلامية، وما في أحكامها، بحيث يتخرج الطالب الجامعي وهو مدرك أن هناك آخر موجودين في مجتمعه، أو خارج مجتمعه، يمكن أن نتعايش وإياهم، ولا ينبغي أن يقتصر على المذاهب الأربعة فقط ،فثمة زيدية في اليمن وثمة إمامية في العراق وإيران وبعض دول الخليج، وثمّة إباضية في عُمان، فلا بأس من أن تدرس الآراء الأخرى على سبيل الفقه المقارن وليس لتعبئة بعض الناس بكل لأفكار ..

السياسية :كيف ذلك وهو يتعلم أن مذهبنا هو الأصح والأرجح والأفضل والحقيقة المطلقة أحيانا، ويرى الآخر أن مذهبه كذلك وكذلك الثالث والرابع..بل وفي أحسن الأحوال تجد من يقول بمقولة الشافعي أنا على خطأ يحتمل الصواب وغيري على خطأ يحتمل الصواب ولكن هذه العبارة ليس لها أي ترجمة فعلية في الواقع؟

الدعشي : أرجو أن أؤكد على أمر ما يجري اليوم في العراق على وجه الخصوص، ذلك أن البعد السياسي فيه صارخ، على نحو لامزيد عليه، ولا علاقة للمذهبية الدينية به، في حقيقة الأمر إلا من حيث التغطية بالورقة الدينية، وإضفاء الشرعية على المسلك لسياسي البائس، بحيث تجد اليوم علمانيين مشاهير لا علاقة لهم بالدين، لكنهم امتطوا صهوة المذهبية أو الطائفية لإثبات وجودهم والحصول على مشروعية( طائفية) لبقائهم، فهي -إن صحّت أن تكون مذهبية أو طائفية – فهي مذهبية أو طائفية سياسية لا دينية.

السياسية: المشكلة أن هذه المذاهب المنغلقة تلقى رواجا؟

الدغشي: نعم تلقى رواجا، لاسيما مع أوضاع الاستبداد السياسي، لأن النظام السياسي في هذا البلد أو ذاك يستخدم المذهب مطية لمشروعيته، فمثلا قبل الثورة اليمنية قد كانت الزيدية شماعة بيت حميد الدين لتبرر الظلم والقهر والتخلّف والتفريق بين أبناء المجتمع، لأن الذي يجري إنما يتم باسم السماء، والمذهب الزيدي هو السائد، وكان الزيديون هم الحكام والمتنفذين بصورة عامة، وفي تسمية مناطقهم بـ(اليمن الأعلى) دلالة ليست جغرافية فقط بل دلالة على العظمة والتفوق، في مقابل الدونية التي يشير إليها مصطلح (اليمن الأسفل) الذين ينتمون إلى المناطق الشافعية، حتى الشريحة الهاشمية التي تنتمي إلى تلك المناطق ( اليمن الأسفل) هي درجة ثانية، ومن ثم فلا شك أن للتعبئة الخاطئة بأن هناك حقاً لمذهب معين أو سلالة معينة تمتاز عن الآخرين أثرا في تكريس هذا الظاهرة المؤسفة.

السياسية: هل يعني أن المذاهب المتعصبة ستظل قائمة طالما وجدت أنظمة سياسية مستبدة؟

الدغشي : نعم لكن هذه شماعات، ويجب أن نبرئ المذاهب كل المذاهب من التعصبّ، وإنما تستغل لإضفاء الشرعية على هذا النظام أو ذلك، ولن تجد مناخا أنسب للتعصب من مناخ الاستبداد السياسي.

السياسية :هل نستطيع أن نقول كلما وجدت جماعات دينية متعصبة كان هناك نظام سياسي مستبد بالمقابل كعلاقة جدلية بين الاستبداد والتعصب؟

الدغشي: هذا يعتمد على مدى نفوذ المؤسسات الدينية بالمعنى الكهنوتي، أو بالمعنى المعتدل الوسطي،أي أنّه يصبح وجود المؤسسات الدينية في بعض الأحيان عامل توازن واعتدال واستقرار وأمن، وأحياناً عامل قهر وإقصاء وانغلاق، حين يستغل الدّين ويسيّس لخدمة حزب أو جماعة أو طائفة، أو طبقة حاكمة، أو نحو ذلك، فالنموذج التركي حزب العدالة والتنمية – مثلا- مثّل بقدوم خريجي مدارس القرآن الكريم، كعبد الله جول وطيب أردوغان ومن على شاكلتهم في العام 2002م إلى مقاعد السلطة نموذجا متميزا، إذ لم يقصوا خصومهم، بل عملوا على تقديم نموذج مشرّف لحكم الإسلاميين على مستويات عدة، رغم الضغوط التي يعانونها من اللوبي العلماني والمؤسسة العسكرية بوجه أخص، لكنهم لم يستغلوا الدّين على نحو انتهازي رخيص، كما فعلت المؤسسات الدينية في العراق-مثلاً- بعد 2003م في استغلال الورقة الدينية لتبرير سلوكيات النظام السياسية المتخلّفة، وعلى هذا الأساس فلا يمكن وصف مذهب ما بأنه منفتح بالمعنى المطلق ولا مذهب آخر بأنه منغلق بالمعنى المطلق وإنما الأمر يفرض نفسه من خلال حقيقة التعاطي مع القضايا بموضوعية واعتدال.