دخلوا حلب دخول الفاتحين، دخلوا على جثة طفل، امرأة، على جثة مدينة.
الصور المقبلة من حلب مرعبة، الشوارع تزدحم برائحة الموت، الأزقة الخلفية تحتشد بصرخات الجرحى والمنتصرين على حد سواء.
وقفت حلب وحيدة في وجه العالم كله، العالم الذي أكل جثتها من أطرافها، العالم الذي ذهب فيها يقاتل «الأطفال الإرهابيين» الذين قتلهم بين أحضان أمهاتهم. نشر ناشط سوري صورة أم يتشبث بها أطفالها الثلاثة في حالة من الرعب السريالي، وكلٌ يحاول أن يدفن رأسه في جزء من جسد أمه، والأم تغطيهم بيديها، وتدفن رأسها بين رؤوسهم.
مراسل قناة «العالم» الإيرانية يرسل تقريره من داخل الجامع الأموي في حلب، يكاد يرقص على جثث الصلوات الخمس، وهو يستشعر هزيمة يزيد ومعاوية وكل قتلة الحسين من أطفال المدينة المنكوبة. لكل القادمين إلى سوريا من مرتزقة أفغان وعراقيين ولبنانيين الحق في أن يشربوا أنخاب بشار وحسن نصر الله وخامنئي وبوتين هناك. قال معلق كبير «حلب طردت الدواعش»، وقال آخر: «انتصرت حلب، عادت وعاد سيف الدولة الحمداني». يتساءل المرء عن هوية سيف الدولة الذي دخل حلب فاتحاً تحت مظلة طيارات بوتين، وعلى جثث أطفالها. لا تفوت الفرصة إعلامياً كبيراً آخر تصور مبتسماً بالزي العسكري، إلى جانب دبابات الفاتحين.
يحدث أن يتحفك الواقع بصور لا تجود بها عليك الفانتازيا. صورة «الإعلامي الكبير» إلى جوار دبابة تدك أجساد أطفال حلب، موغلة في رمزيتها، في فداحتها، في مكاسبها وخساراتها، في جمالياتها الجارحة، ولؤمها الذكي، موغلة في رسالتها التي تلاشت فيها الفوارق بين الكلمة والرصاصة، حيث تحولت الكلمة إلى رصاصة، والصورة إلى قذيفة مدفعية تسحق عظام المدينة التي حولها بوتين وبشار إلى «غروزني» سورية، تطل منها صور تشبه تلك الخارجة من كتب الملاحم الإغريقية القديمة.
وتقف أمام كاتب عربي كبير يطل من على قناة «ممانعة»، ليقول عن «مذبحة حلب»: هذه حرب، ومن الطبيعي أن يسقط فيها ضحايا مدنيون. ينال الضحايا المدنيون تعاطف «الكاتب الكبير» عندما يسقطون على يد من يخاصمهم، بينما يضيع تعاطفه مع الضحايا الذين يسقطون على يد من يكن لهم الود. «الوطن العربي» لفرط ما أصيب بالتبلد لم تخرج فيه مظاهرة واحدة للتضامن مع السوريين الذين فتحوا بيوتهم للعراقيين في 2003 وما بعدها، وللبنانيين في 2006 وما بعدها.
يعجب المرء كيف يتحرك الشارع العربي تنديداً برسم كاريكاتيري سخيف، مسيء لنبي الإسلام، والرسم أصلاً لا يستحق الرد، ولا يغضب لمرأى مدينة شواها الجرم والنفاق العالمي على جلود سكانها. يحدث أن يصاب الحس بـ»جلطة شعورية»، ويذهب الضمير في إجازة مفتوحة، قبل أن يقدم استقالته من أي التزام أخلاقي إزاء ما تنتجه الفانتازيا الواقعية من صور لا يريد ضمير العالم أن تجرح له «شعوره المتخثر». بوتين يقول إن طائراته وطائرات بشار أوقفت التحليق فوق حلب منذ شهور، ولنا أن نصدق أن البراميل المتفجرة والقنابل الفراغية كانت تقذفها على رؤوس الحلبيين «أطباق طائرة» قدمت من الفضاء الخارجي.
أكثر التعليقات إيغالاً في الفداحة قول أحد المتدينين «إن الله سخر للمجاهدين من أتباع أهل البيت في سوريا طائرات الروس». ذكرني ذلك بقول أحد قيادات الحوثي قبل أكثر من عامين، يوم كان الحوثيون يضربون رداع في اليمن بإمكانيات الحرس الجمهوري اليمني، وتحت مظلة الطائرات بدون طيار الأمريكية، حين قال: «إن من آيات الله أن أيد أولياءه من الحوثيين بطائرات العدو الأمريكي تقاتل إلى جانبهم».
أما نائب قائد الحرس الثوري الإيراني، فقال مفاخراً «إن انتصارنا في حلب هو «وعد الله»، وإن الفتوحات الإسلامية ستصل البحرين واليمن». بالطبع تناسى «القائد الإلهي» أن قيادته هزمت في حلب رغم كل مرتزقته من أفغانستان والعراق ولبنان وباكستان، لولا استنجادها بطائرات بوتين.
نسي حسين سلاميان كذلك أن العالم الموغل في حسه الحضاري، أو «العالم الحر»، على رأي سيئ الذكر جورج دبليو بوش، هذا العالم الذي فجر في خصومته مع حلب، سمح لكل مقاتلي مليشيات إيران بالوصول إليها وأعطاهم المظلة الدولية، في حين وصم كل من يقاتل إلى جانب حلب بالإرهاب، ومنع عنها السلاح، الأمر الذي يسر مهمة «النصر الإلهي» في حلب الشهباء. وصل الجرم في حلب إلى الحد الذي دفع بوزير الداخلية الإسرائيلي لأن يطلب من حكومته الدعوة إلى اجتماع في مجلس الأمن لمناقشة مذابح حلب على يد الروس والإيرانيين ومليشيات النظام والمليشيات الطائفية الأخرى.
طبعاً إسرائيل دولة محتلة ومعتدية، وفعلت في غزة الفظائع، لكن المهانة تبلغ مداها ونحن نستمع إلى مثل تصريحات آرئيه درعي التي يندد فيها بـ»الهولوكوست في حلب». وبعد كل تلك الموازين المختلة، وكل هذا الاصطفاف العالمي إلى جانب مليشيات طائفية يظهر منظر غربي كبير من إحدى ضفتي الأطلسي، ليتساءل لماذا تتوسع منظمات مثل «داعش» و»القاعدة» في المنطقة الموبوءة بالنياشين العسكرية، والديكتاتوريات المعلبة.
سقوط حلب يجب ألا يكون مفاجئاً، لأنها سقطت يوم سقوط بغداد في 2003، التاريخ الذي انطلق فيه «الفرس والروم» يغزون «عاصمة الرشيد»، وسط صمت العواصم العربية الأخرى، التي جاء الدور في ما بعد على بعضها. الشيء المهم في هذه المرحلة من التاريخ هو أن نعرف أن سقوط حلب، ليس سقوطاً لها كرمز، ولكنه سقوط آخر للنظام الرسمي العربي، سقوط مؤسسة الدولة الوطنية التي جاءت بعد رحيل المستعمرين، هذه الدولة التي لم تستوعب طموحات شعوبها، ولم تحقق أيا من أهداف الثوار في منتصف القرن الماضي.
ومن ركام حلب، وركام المنظومة السياسية والاقتصادية والثقافية والمفاهيمية والدينية في هذه المنطقة سيواصل الإنسان العربي مشواره، سيتلمس طريقه للخروج من تحت الركام، من بين الأنقاض. لا تكترثوا كثيراً، «تكمن الكنوز تحت الأنقاض»، كما يقول جلال الدين الرومي.