آخر الاخبار

علوي الباشا: استمرار الاحتلال الإسرائيلي في جرائمه الإرهابية يمثل تهديداً لكافة المواثيق العالمية ويتطلب وقفة جادة عاجل ..البارجات الأمريكية تدك بأسلحة مدمرة تحصيات ومخازن أسلحة مليشيا الحوثي بمحافظة صعدة حيث الإنسان يبعث الحياة في سكن الطالبات بجامعة تعز ويتكفل بكل إحتياجاته حتى  زهور الزينة .. تفاصيل العطاء الذي لن يندم عليه أحد أردوغان يتوقع زخمًا مختلفًا للعلاقات مع الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة ترامب تعرف على خيارات قوات الدعم السريع بعد خسارتها وسط السودان؟ شاهد.. صور جديدة غاية في الجمال من الحرم المكي خلال ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان تعرف على مواعيد مباريات اليوم الإثنين والقنوات الناقلة دراسة ألمانية مخيفة أصابت العالم بالرعب عن تطبيق تيك توك أكثر .. إعادة انتخاب رودريجيز رئيساً لاتحاد الكرة بالبرازيل حتى 2030 كبار مسؤولي الإدارة الأميركية يناقشون خطط الحرب في اليمن عبر تطبيق سيجنال بمشاركة صحفي أضيف بالخطا

تاريخ اليمن بعيون سائق شاحنة مثقف
بقلم/ انور العنسي
نشر منذ: 3 أسابيع و ساعة
الثلاثاء 04 مارس - آذار 2025 01:28 ص
 

كم هو العالم صغيرٌ حقاً، الأرض والحياة والناس أيضاً، وكم تصغر حكاياتنا عندما نصغي لسماع قصص الآخرين وتجاربهم.

 التقيت، في ترحالي حول العالم، بسائقِي سيارات أجرة وحافلات وقطارات وسفن وطائرات من مختلف الجنسيات، لكنني لم ألتق مثل هذا السائق اليمني الذي أنوي أن أحدثكم اليوم عنه.

من عاداتي الغريبة أن أنام مبكراً وأصحو كذلك؛ لأخرج قبل زحام وضجيج الناس والمركبات إلى صباحات مصر التي عرفتها في صباي مفعمةً برائحة القهوة والطعمية والفول، ثم أتجه إلى أقرب مقهى في الجوار، أتأمل الرائحين والغادِين، العائدين من ورديات عملهم الليلية، أوالذاهبين إلى أيامهم كل صباح بكل همةٍ ونشاط.

كان رجلٌ في العقد الثامن من عمره تقريباً يتخيَّر مقعداً ليجلس عليه في مقهىً خالٍ من أي أحد سواي، وذلك عند السابعة صباحاً في حيٍّ وسط القاهرة يعج بعد ذلك بعشرات اليمنيين المقيمين والزائرين والعابرين.

عندما لاحظت من ملامحه أنه يمنيٌ طلبت منه الانضمام إلى طاولتي الصغيرة بدلاً من جلوس كل منا لوحده.

وبعد سؤال وجواب عن أسباب وجوده في القاهرة، عرفت أن الرجل قدِم للعلاج من آلام في ركبتيه، أخبرني أنه بدأ حياته في قيادة شاحناتٍ لنقل البضائع داخل اليمن، وفي الجزيرة العربية، وهو في الـ18 سنةً من عمره.

سألته، وهو القادم من اليمن إلى مصر منذ أيام، عن أحوال البلاد والعباد، فتحدث الرجلُ بأسىً بالغٍ عما آلت إليه أحوال الناس من بؤسٍ وفاقةٍ وقهرٍ وانعدامٍ الأمن والأمان وفرقة وتمزّق.. لم يكن لديه الكثير لإضافته إلى معلوماتي سوى بعض المشاهد والظروف التي عاشها وهو في طريقه من تعز إلى عدن للسفر من مطار الأخيرة إلى القاهرة.

انهمر الرجل عليَّ بمعلوماتٍ، غايةٍ في الدقة، عن مراحل من تاريخ اليمن الحديث، شهدها بذاته، مسافراً ومقيماً داخل اليمن وخارجه.. معلوماتٌ لا يمكن الإحاطة بها حتى لو تناولتها عشرات الكتب والبحوث والدراسات.

 دقةُ وطريقة وصف الرجل لليمن، في زمن الإمامة وحتى قيام الجمهورية، وفي ظل عهود كل الزعماء الذين حكموا البلاد، جعلتني أشك في أنه كان مجرد سائق شاحنة، ولم يرد أن يتحدث عن خلفيةٍ أخرى جاء منها، كأن يكون ضابطاً سابقاً أو مثقفاً سياسياً حزبياً، أو مهاجراً في بلدٍ متقدّم ساعده على أن يفتح عينيه على حقائق في التاريخ والجغرافيا والسياسة لا يمكن أن تسترعي انتباه واهتمام سائق شاحنةٍ عاديٍ، أو غيره من بسطاء وعامة الناس.

 على مدى أكثر من ساعتين، أدركتُ حقائق يعرفها سائق الشاحنة أكثر مما كنت أعتقد أنني أعرفها كصحفي وباحثٍ على مدى أكثر من نصف قرن.

موضوعيةُ حديث الرجل ومعارفه ومعلوماته، التي استقاها بنفسه من واقع المعايشة لنحو ثمانية عقود من حياته الشخصية ومن حياة اليمن وعلاقات البلاد بدول الجوار (السعودية وعُمان)، حملتني على الشعور بتواضع ما اعتقدت أنني عرفته عن كل ذلك.

شرح الرجل وقائع الحرب بين المعسكرين الجمهوري والإمامي عقب اندلاع ثورة سبتمبر 1962، وإلى أي مدى كان أثر ذلك على الوضع الديموغرافي لليمن، خصوصاً في المناطق الحدودية مع السعودية وعُمان.

تحدّث سائق الشاحنة عن الحدود الجغرافية لليمن مع الجوار، وكيف تراجعت إلى الخلف، خصوصاً في الصحراء والمناطق الأخرى قليلة السكان لتتوسع في المقابل حدود "الجيران" على حساب حدود ومساحة اليمن الطبيعي.

تناول ماضيّ التجارة بين اليمن وجيرانه، وكيف تقلّصت صادرات اليمن من الحبوب والبُن لتزداد وارداته من المواد الاستهلاكية؛ مثل الإليكترونيات والكماليات وغيرها.

 تمنيتُ لو اتسع وقت الرجل لأسمع منه المزيد، لكن موعده مع طبيبه المعالج اضطرّه إلى المغادرة، تاركاً إياي في حيرةٍ وتساؤل عن جدوى كل ما كُتب عن تاريخ اليمن السياسي الحديث والمعاصر حتى الآن، ما لم تكن روايات كبار السن من عامة الناس كسائق الشاحنة هذا، ممن صالوا وجالوا في طول وعرض البلاد، وليس الساسة والقادة العسكريون وشيوخ القبائل فقط، جزءًا من مصادر البحث والتوثيق لمراحل ووقائع وأحداث لم يحط بها الكثير من الدراسات والمذكّرات