نشرة الأخبار
بقلم/ د.عائض القرني
نشر منذ: 17 سنة و 8 أشهر و 19 يوماً
السبت 10 فبراير-شباط 2007 06:14 ص

كنتُ في صباي أعيشُ بقرية جملية جنوب السعودية. تنام هذه القرية في سفح جبل أخضر، وكنتُ استمع لهيئة الإذاعة البريطانية ( B.B.C ) صباح مساء فكان يتردد على مسمعي اسم ماجد سرحان وهدى رشيد المدفعي وحسن الكرمي في برنامج «قول على قول»، والذي كنتُ أسجله وأحفظ أكثر أبياته و«السياسة بين السائل والمجيب»، وسماع أقوال «الغارديان» و«الصاندي تايمز» و«الديلي ميرور»، وغيرها من الصحف البريطانية،فكانت مدرسة إعلامية رائعة، فلما كبرنا ودلفت الفضائيات أمطرنا في العالم العربي بنشرة الأخبار الطويلة الثقيلة والتي تحمل فصولاً وأبواباً، فيبدأ المذيع بالأخبار السياسية منذ وصول الضيف إلى أرض المطار وفتح باب الطائرة والنـزول من السلم وعزف ا لسلامين الوطنيين واستعراض حرس الشرف وتناول القهوة العربية وأحياناً «النسكافي» وفي المغرب العربي الشاي الأخضر ثم مرافقة الضيف إلى المكان المعد، ثم الأخبار المحلية كافتتاح مدرسة ابتدائية ليلية لمحو الأمية وذكر فقرات الحفل والقصائد التي أُلقيت بهذه المناسبة العالمية وافتتاح سوق الخضرة في قرية، وترميم مستوصف أهلي بالبادية، ثم أخبار الرياضة وخروج المنتخب مبكراً من أرض الملعب مهزوماً ثمانية صفر لرداءة الجو وهطول الأمطار، ثم سباق الخيل والهجن والمزايين، ثم حالة الطقس وحالة البحر والريح والجبال والسهول والوديان وطلوع الشمس وكسوفها وخسوف القمر، ويُروى أن مذيعاً ضيّع ورقة حالة البحر فارتجل من رأسه غيباً وقال: البحر هائق ومائق ويطيش على الناس أي هائج ومائج، ومذيع آخر كانت دولته في حالة حرب فترك النص أمام عينيه وارتجل من الحماس وقال: «زمرة التشطير والانفصال قاتلهم الله أنَّى يُؤفكون». ومذيع آخر توفيَّ ابن رئيس دولته في حادث سير فبكى المذيع في الأخبار وأخذ يقول: «إلى جنة الخلد أيها الفقيد الشهيد». والمذيع العربي هو الوحيد الذي لا يستطيع الحياد حينما يقرأ الأخبار بل تغلبه عواطفه، فتجده إذا خُفض سعر الغاز في بلده تهلل وجهه وتبسم وغمرته الفرحة. وإذا مات مدير مدرسة متقاعد بكى وغلبته دموعه. ونشرة الأخبار غالباً تأتي بعد تناول طعام العشاء فتجد بعض المذيعين يتجشأ، وهو يقرأ الخبر ويقول: «عفواً عفواً». وبعضهم يشير بيديه، وهو يقرأ الأخبار من شدة الحماس والانفعال كأنه يلقي قصيدة في سوق عكاظ. ويُروى أن أحد المذيعين فاتته الصيدلية المناوبة تلك الليلة، فقال مرتجلاً: صيدلية العيدروس خلف الدوار العام أمام الجامع الكبير، ونشرة الأخبار في العالم العربي أطول نشرة في العالم، مع العلم أنها في العالم الغربي بلد الصناعة والإنتاج لا تأخذ إلا دقائق معدودة، وأنا اقترح أن توزع نشرة الأخبار على سائر اليوم حتى يخف على المشاهد متابعتها ولا يضيق صدره وتنطمس بصيرته من طولها، فحبذا أن تكون نشرة الأخبار السياسية بعد الظهر إلى قبيل العصر؛ ليتمكن الناس من الغداء والقيلولة وبعد العصر الأخبار المحلية، أما أخبار الرياضة فبعد صلاة المغرب وبعد العشاء حالة الطقس، ثم يُترك الناس لتناول طعام العشاء، ثم نشرة الصيدليات المناوبة، وبهذا يأخذ المتلقي الكريم الأخبار على دفعات ويتناولها على جرعات «يتجرّعه ولا يكادُ يُسيغه ويأتيه الموت من كل مكان» وإذا لم يُعمل بهذا الرأي فسوف تبقى التلفزيونات المحلية كما هو الحال مهجورةً لا يشاهدها إلا من رزقه الله الصبر وسعة البال ليكفر الله عنه الخطايا بحلمه وسعة باله، متى نعيش روح العمل والإنجاز على حساب القول والابتزاز؟ متى نودع الهذيان والإسهال اللفظي والإسهاب الخطابي ونعيش المعرفة الصادقة والوضوح مع النفس والناس؟ أربعون سنة ونشرة الأخبار في العالم العربي على وضعها الأول وبحالها، تحمل النشرة الخبر والبشرى والعزاء والمديح والهجوم المضاد ومعايشة التفاصيل اليومية التي تجري في كل شارع وقرية، قال: عبد الله البردّوني:

* وقاتلتْ دوننا الأبواقُ صامدةً - أما الرّجالُ فماتوا ثمَّ أو هربُوا

* وأطفئتْ شهبُ الميراجِ أنجمنَا - وشمسَنا وتحدّتْ نارَها الخطبُ

* نحن أمة البيان فأين إيجاز وإعجاز القرآن، لقد سمع أعرابي قوله تعالى: «وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين»، فاندهش الأعرابي وصاح: «الله أكبر في آية واحدة أمران ونهيان وبشارتان». كتب الرسول ( إلى هرقل فقال: «أسْلِمْ تَسْلَمْ"». وكتب سليمان إلى بلقيس: «أنْ لاَ تَعلُوا عليَّ وأتوني مسلمين». وكتب خالد إلى عياض بن غنم «إيّاكَ أُريد». وقال راكان بن حثلين: ما قلَّ دلَّ وكثرةْ الهرجْ نيشانْ والهرجْ يكفي صاملهْ عن كثيره.

وقال الأول:

* قالوا خذ العين من كلٍّ فقلتُ لهم: - في العينِ فضل ولكنْ ناظرُ العينِ

مشاهدة المزيد