لا تزال العلاقة بين القبيلة والدولة في اليمن محور جدل بين الدوائر السياسية والاجتماعية التي تتباين رؤاها حيال القبيلة والدولة من جهة والنفوذ والحضور والسيطرة والولاء والكيان المؤهل لقيادة التحول السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
القبيلة مكون ومحرك للدولة
وتأتي الإشكالية بين القبيلة والدولة انطلاقا من أن القبيلة في اليمن ظلت مكونا أساسيا في البنية الاجتماعية بل روحا
محركة للدولة والبوصلة في معادلة الحكم تماما كما كانت الدول اليمنية من صنع القبيلة حتى أن العلاقة بين الحاكم والقبيلة في التاريخ اليمني اتسمت بالحذر وكثير من الحكام كانوا يتجنبون مخالفة القبيلة كونها متراس البقاء واستقرار النظام والدولة ما اوجد علاقة تعايش بين الدولة والقبيلة قامت على أساس تقاسم النفوذ . وهذه الصيغة ظلت قائمة في كثير من الحكومات اليمنية منذ قيام الثورة باستثناء تجربة الرئيس اليمني الأسبق إبراهيم الحمدي الذي قاد مشروعا في سبعينات القرن الماضي حاول فيه تخفيف نفوذ القبائل في الدولة وتقوية السلطة المركزية وخاض واحدة من أندر وأهم محطات الصراع السياسي بين القبيلة والدولة انتهت باغتياله لتعود بعد ذلك صيغة التعايش بين القبيلة والدولة بشروط القبيلة ومصالحها . والقبيلة في اليمن اليوم لا تزال الأكثر قوة وحضورا وتأثيرا في القرار رغم التطورات السياسية والاجتماعية التي حدثت خلال العقود الماضية ، ولا يزال هناك أكثر من 200 قبيلة أكبرها تتميز بالقوة والغلبة والنفوذ الذي يتضح في بينة الحكم والمؤسسات الرسمية كمجلسي النواب والشورى ومؤسسة الجيش . في حين يرى البعض أن القبيلة في اليمن مكون اجتماعي أساسي لعب دورا هاما في حركة التطور فان البعض الآخر يرى في حضورها واستمرارها وغلبتها عائقا لقيام الدولة الحديثة والمجتمع المدني العصري المؤهل لقيادة التحولات في هذا البلد . ويشير هؤلاء إلى أنه رغم إفساح القبيلة المجال قليلا لمؤسسات المجتمع المدني كشريك معها إلا أن حضور الأخيرة في القرار لا يزال هزيلا ما جعل الدولة أشبه بكيان قبلي كبير ومتباين وأكثر نفوذا وتأثيرا من الأحزاب السياسية .
جدل القيادة
ويثور الجدل اليوم لدى الدوائر السياسية اليمنية بشأن الكيان القادر على احتواء الآخر الدولة أم القبيلة وما هو الأصلح لليمن وكيف يمكن ايجاد صيغة تعايش بين القبيلة والدولة والمجتمع المدني تحفظ للأخير بمؤسساته الحديثة التأثير في القرار وتعزز المشاركة والديمقراطية وبناء دولة المؤسسات والنظام والقانون . هذه القضية كانت محور اهتمام المرصد اليمني لحقوق الإنسان ومركز أبحاث التنمية الدولية بكندا الذي دعم مؤخرا دراسات تناولت الدور السياسي للقبيلة في اليمن وعلاقاتها بالأحزاب وتأثيرها على الدولة إلى دعمه تنظم ندوة « نحو بنية قبلية ذات ثقافة مدنية» وضعت رموز التكوينات القبيلة والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني والسياسيين وجها لوجه في محاولة لإقامة حوار للبحث في انماط العلاقة بين القبيلة والدولة في اليمن خلال السنوات الماضية في محاولة لمأسسة الدور السياسي للقبيلة والدولة .
تباين في المفاهيم
وفي الفعالية التي شارك فيها عشرات السياسيين ورموز القبائل والأكاديميون وممثلو منظمات المجتمع المدني والأحزاب بدا أن هناك تباينا شديدا بشأن مفاهيم القبيلة والدولة والدور السياسي لكل منهما ونتائج تأثير نفوذ القبيلة علي القرار السياسي وعوامل بقاء القبيلة عصية على الانصهار في الدولة وطبيعة الشراكة بين القبيلة والدولة في القيادة . وأثارت الندوة الكثير من الأسئلة حول ما إذا كانت القبيلة في اليمن ظاهرة ايجابية أم لها انعكاساتها السلبية على الوضع السياسي والاجتماعي اليمني حاضرا ومستقبلا.. ومناطق التقاء واختلاف القبيلة والدولة وتأثيرات تغلب الولاء القبلي على الوطني وسيطرة القبيلة على القرار .
القبيلة أولا
استنادا إلى عوامل ومتغيرات كثيرة ثمة من يرى أن الشعب اليمني مجتمع قبلي وأن القبيلة كانت ولا تزال من أكثر مكونات المجتمع تأثيرا وتميزت بقدرتها على البقاء والتطور والتكيف مع المتغيرات كما أسهمت في تماسك المجتمع وحفظ هويته وموروثه الحضاري مدى قرون . ويشير هؤلاء إلى أن القبيلة اليمنية مثلت كيانا تميز بالكثير من الرسوخ والأعراف والقيم والضوابط والقدرة التنظيمية أهلتها للبقاء والنماء وجعلتها عاملا مؤثرا كما أثبتت في التاريخ السياسي الحديث تفوقها على منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية . ويقول الدكتور محمد الظاهري أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء ان القبيلة اليمنية تاريخيا كانت جزء من الدولة ولعبت الدور الأقوى في التاريخ اليمني الحديث والمعاصر وهي اليوم تشارك سياسيا في صنع القرار السياسي وتؤثر فيه بشكل مباشر من دون الوصول إلى قمة السلطة. «كذلك لعبت دورا محوريا في التعاطي مع قضايا تكويناتها وتحقيق متطلبات إفرادها وتفوقت في العقود الأخيرة على الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني التي بدت ضعيفة عن ممارسة دورها . تعايش وتوافق بين القبيلة والدولة ويقول عضو البرلمان اليمني وأستاذ علم الاجتماع بجامعة صنعاء الدكتور فضل أبو غانم ان القبيلة في اليمن كانت ولا تزال لها دور هام ومؤثر في المجتمع اليمني وفي النسيج السياسي للدولة. ويشير إلى أن هناك تعايشا بين القبيلة والدولة في اليمن جعلهما يشكلان ترجمة منطقية لمعادلة الكل في واحد كما أن الجماعات القبلية الفاعلة والمؤثرة تواجدت بقوة في العمل الحزبي والسياسي منذ ثورة عام 1962 كما شهدت السنوات الأخيرة تطورا في العلاقات بين القبيلة والدولة وأصبح رموز القبائل يشغلون العديد من المناصب الحكومية ويتم استشارتهم في إدارة شؤون البلاد بل وأصبح التواصل بين سلطة الحكم ورجال القبائل من ضرورات العمل الوطني . قياسا بذلك يرى البعض أن القبيلة والدولة في اليمن لم تتلاقيا إلا كصيغة توافق غير متكافئ وأن التعايش بين القبيلة والدولة كان تعايشا لتقاسم النفوذ وللحفاظ على المصالح فيما ظل صراع قوى الحداثة والقبيلة في اليمن قائما من دون أن يؤثر على الخارطة السياسية والاجتماعية . ويشير هؤلاء إلى أن تقاليد وقيم وقوانين القبيلة المنغلقة على حالها في إطارها الجغرافي لم يكن على مر الزمان مؤهلا لقيادة النهوض الحضاري في اليمن ما أدى إلى أن التركيبة القبيلة لمؤسسة الدولة صارت مشلولة تماما ويشيرون في ذلك إلى تركيبة مجلس النواب التي تسيطر عليها الوجاهات القبلية ما جعله مؤسسة مشلولة .
صراع قوى الحداثة والقبيلة
ويوضح الدكتور عادل الشرجبي أستاذ الاجتماع بجامعة صنعاء أن صراع قوى الحداثة مع القبيلة في الشمال بداء منذ مؤتمري عمران وخمر في سبعينات القرن الماضي عندما أفرزت تكويناته القوى التي سيطرت على الدولة فيما بعد في اشارة إلى الصراع الذي حصل بين القوى القبلية والدولة ممثلة بالرئيس اليمني الأسبق ابراهيم الحمدي الذي قاد مشروعا لإزاحة القبيلة عن مراكز القرار في الدولة انتهى باغتياله . ويلفت الدكتور الشرجبي أن الكثير من التوجهات الرسمية تأثرت بالضغوط القبلية بينما لم تعط المطالب السياسية للأحزاب أدنى اهتمام وهو ما خلق في رأي البعض تداخلا بين مكونات الدولة والبنية القبلية وبدلا من أن تحتوي الدولة القبيلة ركبت القبيلة الدولة . وفي حين يرى البعض أن القبيلة في اليمن كانت ولا تزال كيانا تقليديا غير قادر على إدارة الأمور بمنظور التحولات الحديثة يرى آخرون أن إقصاء القبيلة ربما يهدد بانقسامات وصراعات طويلة يصعب احتواؤها .
عامل توازن بين السلطة والمجتمع
يقول الدكتور محمد عبد الملك المتوكل أستاذ العلوم السياسية بجامعة صنعاء إن القبيلة في اليمن ثقافة وليست جهوية في حد ذاتها إذ ينتمي إليها الهاشمي والقبيلي والمهمّش واليهودي وأنها عبارة عن تجمع جغرافي محدد ومميز وتمثل اليوم توازنا بين السلطة والمجتمع ويضيف « القبيلة حمت المجتمع عندما انهارت سلطة الدولة وإذا انهارت القبيلة في هذه المرحلة لصالح من سيكون ذلك ؟ لصالح مؤسسة عسكرية .. وهل ستكون هذه المؤسسة قادرة ومؤهلة لحماية الدستور والقانون ؟ ويشير المتوكل إلى الحاجة إلى تحديد مفهوم موحد لماهية القبيلة ودورها كما يرى أهمية تشجيع أبناء القبائل على الاستثمار كون ذلك سيحولهم إلى قوة تحفظ أمن واستقرار المجتمع. وفي حين يتفق الباحث أمين اليافعي مع رأي الدكتور المتوكل بان القبيلة ثقافة وحيز جغرافي إلا أنه يرى أنها ثقافة اقصائية تقوم على التمايز والتغاير . ويشير اليافعي إلى أن القبيلة في اليمن مكون اجتماعي تقليدي لكنها لا يمكن أن تكون مكون ضمن المجتمع المدني فكلاهما نقيض الآخر.. وما يدمر القبيلة هو عدم قدرتها على التجدد من الداخل وسيطرة الشيخ عليها كما أن نظام التوريث في القبيلة في ظل الصراع السياسي يدفع بالشيخ الى ان يجعل من القبيلة سلاحا في وجه السلطة ليس من اجل العدالة والمساوة بل من اجل مصالحه لا مصالح القبيلة.
القبيلة والحزب
تتباين رؤى السياسيين بشأن علاقة القبيلة بالأحزاب السياسية إذ يرى البعض أن القبيلة كانت مكونا رئيسيا لحركة النضال السياسي في اليمن واندمجت تاليا بالنظام السياسي للدولة فيما يرى آخرون أن انحسار الدور المؤسسي للأحزاب المعبر عن الحالة المدنية حول القبيلة إلى قوة لتكريس العصبية كأساس للحماية والاستقراء لتحقيق مكاسب ريعية وضغطا على الدولة وانتقاصا لحقوق المجتمع فيما ظل التعايش بين القبيلة والدولة والأحزاب تعايشا لتقاسم النفوذ وتحقيق المصالح المشتركة من دون أن يترك للدولة قيادة حركة التطور في المجتمع اليمني .ويوضح الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني أن الحزب الاشتراكي في تجربته مع القبيلة في جنوب اليمن سابقا كان له مشكلة مع القبيلة إذ تصدى من البداية للتطور الاجتماعي وللقبيلة في إطار تصديه للمعضلات الاقتصادية والاجتماعية بشكل عام وساعد على ذلك ان القبيلة كانت في المراحل المبكرة من مراحل الفرز الاجتماعي والسياسي مكونا رئيسا في كثير من الأحيان لحركة النضال السياسي سواء في إطاره المحلي ضد ظلم الحكام المحليين أو المستعمر.. وحصل فرز في مرحلة تاريخية معينة داخل القبيلة نفسها بينما البنية العليا في القبيلة التي هي قيادة القبيلة انحازت لمصالحها وتعاملت مع حماة هذه المصالح وانحاز افراد القبائل حينها للنضال الاجتماعي ضد هذا الظلم هذا الفرز مهد لنشوء انتقال طبيعي لأفراد القبلية للعمل السياسي في إطار التكوينات المحلية السياسية أولا ثم انفتاحها على أحزاب كبرى.
ويوضح نعمان أن الجبهة القومية تشكلت منذ البداية من حركات إصلاحية قبلية «ثلاث أو أربع منها» كانت حركات إصلاحية قبلية ويشير إلى أن الصراع الذي حدث في يناير 1986 بما بدا أنه صراع بين قوى قبلية لم يكن صراعا قبليا بل كان صراعا بين رومانسية الفكرة الثورية وبرجماتية الدولة ... «فالفكرة الثورية كانت ممثلة بالحزب وسدنته وبنفس الوقت برجماتية السلطة التي فرضت مصالح وعلاقات معينة داخل المجتمع لم يتحاوروا بالشكل المطلوب ولم تستطع الفكرة الثورية أن تستوعب أهمية تطور هذا البرجماتي داخل الدولة والدولة ببرجماتيتها تعالت على الفكرة الثورية حصل التصادم والتنافس».
عجز الاحزاب السياسية
لكن الباحث السياسي امين اليافعي يرى أن الأحزاب السياسية عجزت عن إيجاد هوية وعصبية وطنية جديدة وجامعة قادرة على استبدال الهويات والعصبيات القديمة.. وتحت تأثير وحضور كبير لشيوخ القبائل في النسيج الاجتماعي ولضعف مركزية الدولة، ولقلة النُخب وحضورها الهزيل مقارنة بزعماء القبائل، وللاستقطابات التي حدثت أثناء الصراعات الداخلية بين النُخب الحاكمة وللأمية والجهل تمكن هؤلاء الزعماء وأقرباؤهم من مد جذورهم في كل مفاصل الدولة السياسية والاقتصادية والعسكرية حتى تلك التي تبدو كشكل خالص من أشكال الدولة المدنية الحديثة
(مجلس النواب، الأحزاب السياسية) .
ويشير اليافعي إلى أن هذا التداخل مع المؤسسات السياسية والعسكرية ساعد على امتداد نفوذ الزعامات القبلية ليس على مستوى قبائلهم فحسب بل إلى كل أرجاء الدولة دون أن يحتم هذا التداخل ذوبانهم مدنياً داخل المؤسسات التي يرأسونها في الدولة . ويؤكد الباحث عبد السلام الأثوري أن الإشكالية بين القبيلة والدولة ستظل على حالها بسبب انحسار الدور المؤسسي الحزبي المعبر عن الحالة المدنية في إطار العلاقات السياسية .وهذا الوضع بحسب الأثوري هو ما حول القبيلة إلى مزاج لتكريس العصبية كأساس للحماية والاستقراء لتحقيق مكاسب ريعية وضغط على الدولة وانتقاص لحقوق المجتمع . ويؤكد أن هذه الحالة تكرست نتيجة غياب الدور السياسي والثقافي والاجتماعي للأحزاب مع القبيلة ومكوناتها لحملها على التفاعل الايجابي مع الدولة ومنظوماتها المؤسسية .
* اليوم
في الإثنين 18 فبراير-شباط 2008 07:53:59 ص