إن القيادات الآسرة نادرة، عمرها قصير، وتأثيرها كبير، ولقد مات صلاح الدين مبكراً، ومات محمد الفاتح مبكراً، بينما الأراذل يُطال في أعمارهم جداً، وكأن من طال عمره كان في حياته رذلاً!، فكم نبتغي الحياة للنبلاء أن تتطاول، وكم نبتغي الموت أن يكرم الأمّة بزهق أرواح أنذالها، فيخيب دعاؤنا في الأولى، ويُستجاب على غير وجهه في الثانية، أو هكذا نجد.
فهل نحن معشر الداعين أُصِبنا بما أُصيب الأراذل أيضاً،! فكنا بمشاعرنا لا بوعينا، وكنا بأقوالنا لا بأفعالنا؟
أشك في ذلك، ولست متحيزاً لنا، إلا أن مشاعرنا بنات وعينا، كما أن دعاءنا ابن أفعالنا، ولكن لماذا لايُستجاب لنا؟
في ظني أن السؤال أقل ذكاءً من الإجابة، إذ لا حجر أصلاً في السؤال كي نشيد عليها إجابة الأقدار، تلكم الأقدار التي تقتلع أمتنا كل أمتنا من جذورها يوماً بعد آخر، وليس بطلاً من أبطالها فحسب، أو قائداً هماماً ضيغماً من قاداتها.
في وطني، وفي مأرب الضاربة في أعماق التاريخ بالتحديد، ارتقى شهيدنا ولم يسقط، ارتقى ويده على الزناد، وزيت الكلاشنكوف يعطر كفوفه، وإلى جواره صفوة من الأعيان، كانوا به وعليه يتحامون، وهو بهم كذلك، لبسوا نعالاً من رصاص، ولم يلبسوا خوذة من حديد، أو واقياً من الرصاص، وعلى ظهورهم الكاكية العسكرية، وفي صدورهم قلوب الرجال الشجعان
لم يخصص شهيدنا مكاناً له في غرفة العمليات، فيصدر الأوامر بهاتفه اللاسلكي وهو يحتسي الشاي، ولم يرتضِ أن يبقى في عيون اليمنيين بعد أن ذاد عن عيونهم، حتى أضاء لهم ناظريها، وأزاح عنها غشاوة لياليها، وانبثق النور فيه ومن لدنه عليها، فضوّاء حنادسها الثلاث، (العسكرية - والوطنية - والجمهورية)، لم يبقَ لكونه ذهب إلى أبعد مما تراه عيونهم، وكان ذلك من أجلهم ولأجلها، أرادوه أن يبقى فيها روحاً وجسداً، أغمضوها مراراً كي لا يُشاك بشوكة، أو يُصاب بجرح، إلا أنه غادرهم وغادرها، وأبكاهم وأبكاها، ولم يبقَ منه سوى عيونهم، التي استحالت إلى شهيد، وإلى تاريخ، وإلى لهفة عاصفة، وحرقة قابضة على الأفئدة، مضى إلى حيث ستراه الأجيال في أحداقها، وفي أحلامها، وفي خيالاتها، ولن يغادرها مرة ثانية
كنت في مساء تلكم الليلة الكابية، مُكباً على كتبي الجامعية، وكانت ثلاثة اختبارات تنتظرني دفعة واحدة، وكنت أمام ذلك الحدث الجلل أتنكر لي وأتنكر لأحاسيسي، وقد شعرت بالانتصار على مشاعري المضطربة حين التباين الذي أعاد إلي توازني أمام ذواتي، أما ذاتي ففي عناية الانفعالات التي لم أفهمها، وبرفقتها الاضطرام والتأوه، والبسمة والثقة، ذلكم التباين حيال ارتقاء شهيدنا عبد الرب الشدادي قائد المنطقة الثالثة، اضطرني إلى أن ألقي الكتب من يدي، وأتمايل كالدرويش.
طفقت أركض بين صفحات الزملاء في الفيسبوك، أبتهج تارةً، أنقبض تارةً، أُفكر، أُخمن، أُحلل..الخ. وجدتني أطحن ورحى التباين تعصرني، فهذا ينفي، وذاك يعزي، وهذا يبرر صدق مقالته، وذاك يعارضها، وأنا بينهما في ذهول، كزنبقة افتض قلبها بمشرط، حيث كانت الأخبار تقتلعني من مكاني مرة تلو أخرى، دون أن أبدي مقاومة أو أتحرك، حتى ضمرت، وبانت عظام الألم في أعماقي، فقد أطبق الجميع بأن الشهيد شهيد.!
ثويت أصرخ في كهف نفسي، والدموع تتحدر، كما لو كنت أعرف الشهيد منذ كنت، أو كما لو كان أبي أو صديقي أو شقيقي، إلا أني وجدته كل ذلك، فهو من دافع عن أبي وعن صديقي وعن شقيقي وعن كل إخوتي، دافع عن وطني وفي وطني يجتمع كل من ذكرت، قاتل من أجل مستقبل زاهر من أجل كل من ذكرت، ضحى بروحه الزكية من أجل كل من ذكرت، ودافع عن وطني كجغرافيا وكهوية وكعقيدة. بينما أنا وغيري ندبج الحروف ونخيط الكلمات في ذروة معاركه، ويوم رحيله، ونحن على أرائكنا، وهو يخيط الجراح النازفة من كتفه يوم جراحه تحت ظل بندقيته، ودماؤه الشاخبة تثعب، حتى آخر لحظة سقى فيها رمال آمالنا بما بقي في جسده من الدماء، مدبجا بها ثياب الوطن.
إن الإمام الحق، هو ذاك الذي يكون في الأمام، قبل جنوده وحاشيته، معتجنا بهم وفيهم، يأكل من ذات صحنهم، ويشرب من ذات كأسهم، وفي صحنه وكأسه الحمل الثقيل والمسؤولية الكبيرة، مقارنة بجنوده، فيكون بذلك ملهماً لهم حتى يصيروا مثله، تدفعهم نجابته ومناقبه، إلى هناك، حيث مناقب الأفذاذ ومراقي النجباء.
كان لمثل هذا شهيدنا، فكلما أوصيناه بالابتعاد عن مواطن الاحتدام، سار إلى قلبها، فشعور القائد مناط بشعور جنوده لا بمشاعر المتفرجين، وكلما أوصاه جنوده لحرصهم عليه وحبهم له، مضى في مقدمتهم كي يكون القدوة، فالقيادة قدوة، ولسان حاله يردد قول الإمام المودودي حين أُطلق عليه الرصاص، فقيل له اجلس، فرد عليهم بقوله: إن جلست أنا فمن يقوم.!
ترجّل شهيدنا عن أرضنا وذهب مسافراً إلى السماء، ترجّل وهو ملئ أسماعنا وأبصارنا، وملئ ذرات يمننا المكلوم، وفي أوراقنا وذاكرتنا صورة مبروزة لبطل، لن تمحوها السنون، ولن تغبر رفوفها الدهور، فقد أوجد الرجال الأشاوس الحاملين للشعلة التي أوقدها، آخذين في دربه محاسنه، وفي محاسن كل واحدٍ منهم زعامته، وصدق الشاعر حين قال : (إن الزعامة والطريق مخوفة :::: غير الزعامة والطريق أمان).