|
استمعت إلى خطاب الرئيس الأميركي باراك حسين أوباما الذي ألقاه في واشنطن، في اليوم الأول لتوليه مهام منصبه رسميا. وقد استمر الخطاب حوالي عشرين دقيقة عقب أدائه القسم الدستوري، ولفت انتباهي الكلمات التي صاغها بعناية فائقة لإيصال رسائل قوية إلى العالم أجمع وعلى وجه الخصوص العرب والمسلمين. ومن الواضح أن اسلوب أوباما حسب العبارات التي اختارها في خطابه اختلف تماما عن أسلوب سلفه الرئيس بوش، في تقسيم العالم إلى فسطاطين، فسطاط " معنا" وفسطاط " ضدنا"، وهو التقسيم الذي استهوى أسامة بن لادن وأتباعه، وخدمه كثيرا، في حين أن عبارات أوباما صيغت بطريقة في منتهى الذكاء تنبئ عن تغيير جذري في السياسة الخارجية الأميركية، منذ اليوم الأول للعهد الجديد.
يهمني هنا أن أناقش ما تضمنه الخطاب من رسائل للعرب والمسلمين، رغم أن الرسائل الأخرى الموجهة للعالم أجمع تشملهم أيضا، وفيما يلي أهم النقاط التي تستحق التوقف عندها والتأمل فيها:
أولا: لوحظ في الخطاب الفصل الواضح بين العرب والمسلمين وبين القتلة والإرهابيين، الذين يذبحون الأبرياء، إذ خصص أوباما سطرين من خطابه التاريخي موجها رسالة قوية لأولئك الذين يسعون لتحقيق أهدافهم عن طريق الإرهاب وذبح الأبرياء، وحذرهم قائلا:" إن روحنا المعنوية أقوى ولا يمكن كسرها، وإنكم لن تتمكنوا من الصمود أمامنا، وسف نهزمكم".
هذه العبارة التحذيرية ليست مستفزة لأنها موجهة للقتلة والمجرمين، وليس إلى أي شعب من الشعوب أو أمة من الأمم، ولكي لا يفهم المرجفون والمتلاعبون بالكلمات أنها موجهة للعرب والمسلمين- بحكم أن معظم إرهابيي اليوم هم عرب أو مسلمون- فقد أتبعها أوباما بشرح حيثيات ثقته في القدرة على هزيمة القتلة والإرهابيين بالقول: " إننا أمة تتألف من مسيحيين ومسلمين، من يهود وهندوس، ومن غير المؤمنيين بأي دين، إننا مزيج من كل اللغات والثقافات، ونابعون من كل طرف من أطراف الأرض.." هو بهذا التأكيد أراد تذكير المسلمين في العالم أن الدين الإسلامي جزء من مكونات أميركا، وأن العداء ينصب على القتلة والمجرمين، بغض النظر عن دينهم أو شكلهم أو لونهم. ولم يسرف أوباما في استخدام كلمة الإرهاب حيث لم ترد الكلمة في خطابه سوى مرة واحدة.
ولم يكتف أوباما بالتفريق ضمنيا بين المسلمين والإرهابيين، بل تعمد أن يستخدم كلمة الفاشية في سياقها الطبيعي قارنا إياها بالشيوعية، وليس بالإسلام كما فعل سلفه جورج بوش في استخدامه لمصطلح "الفاشية الإسلامية" المثير للجدل. فقد أعاد أوباما تذكير السامعين بأن الأجيال السابقة لم تهزم الشيوعية والفاشية بالصواريخ والدبابات فقط، وإنما بالتحالفات المتينة والقناعات القوية. وشدد على أن القوة وحدها " لا يمكن أن تحمينا، ولا يمكن أن تؤهلنا أن نفعل ما نريد"، مشيرا إلى أن الآباء أدركوا بأن " أمننا ينبثق من عدالة قضيتنا، ومن قوة النموذج الذي نقدمه، ومن صفات التواضع وضبط النفس التي يجب أن نتحلى بها." مشيرا إلى أنه سوف يسير على طريق الآباء المؤسسين وسوف يعيد لأميركا إيمانها بمبادئ الفضيلة.
وحرص اوباما على القول بأن مواجهة الأخطار الجديدة تتطلب التعاون والتفاهم بين الأمم، وهو بذلك يكون قد ابتكر مصطلح جديد هو " التفاهم بين الأمم" الذي يخالف مصطلح " الصراع بين الحضارات". ويبدو أن باراك أوباما يقصد العرب والمسلمين في إيراده للمصطلح الجديد وإن لم يذكرهم بالاسم، لأنه أتبع عباراته بالقول: " سنبدأ بترك العراق لشعب العراق، وتعميق السلام في افغانستان بالتعاون مع الأصدقاء القداماء، والخصوم السابقين، كما شدد على أن اميركا لن تقدم الاعتذار عن أسلوب حياتها، في إشارة إلى أنه سيدافع عن القيم الأميركية، وفي المقابل لن يتدخل في شؤون الغير.
ولكن الأهم من كل ذلك هو الرسالة التي بعثها في خطابه للعالم الإسلامي بالاسم وبأسلوب صريح وواضح لا يحتمل أي جدل في ترجمة معناه أو تفسير مدلولاته، حيث قال:
إلى العالم الإسلامي ( نقول): "إننا نسعى إلى المضي قدما في مسار جديد، قائم على الاحترام المتبادل، والمصلحة المتبادلة"، وهو بذلك يضع خطين تحت كلمتي الاحترام والمصلحة المتبادلتين، بما معناه، نحن نحترمكم لتحترمونا، ونريدكم أن تراعوا مصالحنا كي نراعي مصالحكم، وهي رسالة عميقة المعنى لأن السياسة قائمة على المصالح، ومشكلة العرب أنهم يتعاملون مع الآخرين ومع أنفسهم، معتمدين على العواطف بعيدا عن المصالح المشتركة وبعيدا عن الاحترام المتبادل، ولكن أوباما لم يقل ذلك صراحة بل ركز على ما يريد أن يرسله من إشارات لمن يهمه الأمر بأننا سنراعي مصالحكم وسوف نحترمكم على عكس ما كانت تسير عليه الإدارة السابقة.
وأوضح أوباما، بكلمات مختصرة قصيرة، أنه يقصد مصالح الشعوب العربية والإسلامية وليس مصالح الحكام الأنانيين، حيث واصل رسالته بقوله: " إلى أولئك القادة حول العالم، الذين يسعون لبذر الشقاق، أو لوم الغرب على العلل التي تعاني منها مجتمعاتهم يجب أن تدركوا أن شعوبكم سوف تحكم عليكم بما تستطيعون أن تبنونه، وليس بما تدمرونه" في إشارة إلى أن العنتريات والتهديد بالتدمير لن يفيد في كسب تعاطف الشعوب. وقد حرص باراك أوباما على استخدام كلمتي حول العالم رغم أنه بدأ الفقرة يتوجيه حديثه إلى العرب والمسلمين والسبب على مايبدو أنه لا يريد أن يستثني إسرائيل، لأن خطابه تزامن مع تدمير اسرائيل لجزء كبير من غزة، كأنه يقول لقادة إسرائيل: إن شعبكم سيحكم عليكم بما يمكن أن تبنونه له وليس بما تدمرونه على الآخرين. وتنطبق هذه العبارة أيضا على بعض القادة المسلمين الذين يسعون لإلحاق الأذى بالولايات المتحدة ومصالحها، وكان الأحرى بهم أن يكبحوا رغباتهم في التدمير، وأن يركزوا على بناء ما تسفيد منه شعوبهم داخل أوطانهم.
وكان أوباما أكثر صراحة عندما خاطب أولئك القادة المتشبثين بالسلطة، عن طريق الفساد والخداع، وإسكات الأصوات المعارضة، قائلا لهم: " يجب أن تدركوا أنكم في الجانب الخاطئ من التاريخ، ومع ذلك فسوف نمد يدنا لكم إذا ما أبديتهم الاستعداد لإرخاء قبضتكم ( عن شعوبكم). ولأهمية هذه الرسالة للزعماء الفاسدين والمراوغين يستحسن إيراد النص الإنجليزي لها، لما له من مذاق تفتقد إليه الترجمة الحرفية:
" To those who cling to power through corruption and deceit and the silencing of dissent, know that you are on the wrong side of history; but that we will extend a hand if you are willing to unclench your fist ."
ربما أن هذه كانت أقوى وأهم فقرة وردت في خطاب أوباما، لأنها جاءت بعد اعتراف ضمني بالأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأميركية السابقة، ويطلب فيها أوباما من القادة المعنيين أن يعترفوا أيضا بأخطائهم وأن يخففوا من قبضتهم الخانقة على شعوبهم إذا أرادوا أن يمد يده إليهم. مضمون الرسالة هو: عليكم أن تدركوا أنكم تمارسون خطأ كبيرا في تشبثكم بالسلطة عن طريق الخداع والفساد، وهذه الأساليب التي نرفضها في بلادنا ونحاول تصحيح أخطائنا السابقة حيالها، سوف تجعلنا نقف في الجانب الآخر ضدكم، ومع ذلك لدينا مهمام أخرى ولا نريد أن نضيع وقتنا بالمواجهة معكم، ولديكم فرصة أن تبدأوا صفحة جديدة مع شعوبكم كي يتسنى لنا مد يدنا إليكم بناء على المبدأ السالف ذكره بأن مصالح شعوبكم واحترامنا لها ستكون الأساس في تعاملنا معكم.
سنحاول خلق توازن مع المبادئ والمصالح السياسية، ولن نقف ضد شعوبكم من أجلكم. وربما أن الرسالة القصيرة جدا تحمل معان لا حصر لها من المؤمل أن يدركها القادة المعنيون، حيث أن معرفتهم بأنهم ماضون عكس تيار التغيير يعتبر بحد ذاته تغييرا مهما ربما يكون الخطوة الأولى لتصحيح الأوضاع سلميا في تلك الأوطان.
كما بعث أوباما في خطابه الموجز رسائل إلى فقراء العالم بأن عهد الأنانية قد انتهى وأن الدول ذات الوفرة النسبية سوف تساهم بتخفيف آلامهم لما فيه خدمة السلام والإزدهار العالمي. ومن المعروف أن الشعوب الإسلامية على وجه التحديد من أكثر شعوب الأرض فقرا وتخلفا، وبالتالي فإن الرسالة ضمنية لهذه الشعوب بأن الرئيس الأميركي الجديد سيكون مع هذه الشعوب لأن ازدهارها ورخائها يصب في مصلحة أميركا، بعد أن كانت مصالح القادة المستبدين الفاسدين كانت سابقا هي التي تخدم مصلحة أميركا. وفي هذه النقظة يتفق أوباما مع سلفه الرئيس بوش، غير أن الفارق بين الاثنين كبير، إذ أن أوباما يبدو عليه أنه يعي ما يقول في حين أن بوش كان يقرأ خطابات كتبها آخرون ويمارس سياسات تخالف مع يعلنه في خطاباته عن الحرية والديمقراطية ومقاومة الاستبداد. كما ان أوباما مفكر يحمل درجة الدكتوراة في القانون الدستوري، ويدرك أهمية احترام أميركا لحقوق الإنسان لأن ذلك هو السبيل الأول لتسويق العدالة في الخارج، كما يدرك أن قوة أميركا في مبادئها وعدالتها التي أوصلته للمنصب الأول في العالم، وليس في جيشها وصورايخها، مثلما قال في خطابه.
كما أن إشارته إلى حقيقة أن الغرب يستهلك موارد العالم النامي الطبيعية ولا يساهم في حل مشكلة التلوث العالمي والاحتباس الحراري يشير بوضوح إلى موقف أميركي جديد من هذه القضية، قد يتبعه موقف مماثل من معاهدة إنشاء محكمة جرائم الحرب الدولية التي قد تنظم إليها الولايات المتحدة في عهد أوباما رغم المخاطر المحدقة بفريق بوش المغادر إذا ما انضمت الولايات المتحدة للمعاهدة. ولكن الخطر الأكبر من إنضمام واشنطن للمعاهدة سيحدق بالحكام الفاسدين الذين أرهبوا شعوبهم ونهبوا خيرات بلدانهم وارتكبوا مجازر جماعية في أوطانهم، ويبدو أن عصر أوباما سوف يساعد على تغييرهم.
* كاتب صحفي يمني أميركي مقيم في واشنطن
almaweri@hotmail.com
في الأربعاء 21 يناير-كانون الثاني 2009 04:34:39 م