اسرائيل تعترف بفشلها
بقلم/ عبد الباري عطوان
نشر منذ: 15 سنة و 10 أشهر
الأربعاء 31 ديسمبر-كانون الأول 2008 11:15 ص

ان تجتمع الحكومة الاسرائيلية لمناقشة المبادرة الاوروبية بوقف لاطلاق النار لمدة اربع وعشرين ساعة، ناهيك عن القبول بها، فهذا يعني اقرارا بعدم القدرة على تحقيق الاهداف المعلنة من العدوان الحالي على قطاع غزة، مثلما جاء على ألسنة كل من ايهود باراك وزير الدفاع وتسيبي ليفني وزيرة الخارجية، وابرزها القضاء على المقاومة، وتغيير الاوضاع بشكل نهائي في قطاع غزة، وهو نفس ما حدث في حرب تموز ضد لبنان.

الاتحاد الاوروبي لم يتحرك لانقاذ الفلسطينيين، وانما لانقاذ نفسه، وأمنه، ومصالحه، ثم بعد ذلك انقاذ اسرائيل نفسها من نفسها، بعد ان ادرك قادته ان نتائج كارثية ستترتب على هذا العدوان على المديين القريب والبعيد، في وقت يواجه فيه العالم الغربي حروبا خاسرة في العراق وافغانستان، وانهيارا اقتصاديا شاملا، وتنبؤات بموجات من العنف والارهاب.

فبعد اربعة ايام من القصف الوحشي، وتعاظم ارقام الضحايا من الابرياء، وانتشار صور الاطفال الشهداء على صدر الصفحات الاولى من الصحف، وعلى شاشات التلفزة العالمية، بات واضحا للعيان ان الخاسر الاكبر في هذه المواجهة غير المتكافئة هو اسرائيل وحلفاؤها من الزعماء العرب الذين شجعوها على هذا العدوان على امل التخلص من حركات المقاومة الاسلامية في قطاع غزة، وازالة عقبتها امام خطواتهم التطبيعية معها التي تتسارع بشكل مسبوق هذه الايام.

الغارات الجوية الاسرائيلية لم ترعب فصائل المقاومة، ولم تدفعها لرفع الرايات البيضاء استسلاما، بل زادتها قوة وصلابة، فاطلاق الصواريخ لم يتوقف مطلقا، وزاد خطره عندما وصلت هذه الصواريخ الى بئر السبع وأسدود، وبدأت توقع ضحايا من القتلى والجرحى في صفوف الاسرائيليين.

القيادة السياسية الاسرائيلية وجدت نفسها امام خيارين: الاول هو الاستمرار في الغارات الجوية وحدها، حتى بعد استنفاد مهامها، حيث لم يعد هناك ما يمكن ضربه من اهداف غير اكوام اللحم الفلسطيني، او الانتقال الى العمليات البرية، واعطاء الضوء الاخضر للدبابات المحتشدة على تخوم غزة لبدء عملية الاقتحام.

'''

التورط في حرب برية هو آخر شيء يريده جنرالات الجيش الاسرائيلي، لان هذا يعني خوض حرب عصابات طويلة الامد، ربما تترتب عليها خسائر بشرية ضخمة، وهزيمة ثانية في غضون عامين بعد الهزيمة الاولى في جنوب لبنان، الامر الذي سيدمر ما تبقى من معنويات وهيبة لدى المؤسسة العسكرية الاسرائيلية.

صباح امس كان ايهود باراك يقول ان ما تم حتى الآن هو المرحلة الاولى من هذه الحرب، وان هناك مراحل اخرى عديدة قادمة، وان الحرب ستستمر حتى نهاية حركة 'حماس' وفصائل المقاومة الاخرى، واقتلاعها من جذورها، وبعد ذلك بساعتين سمعنا المتحدثين باسم الحكومة الاسرائيلية يتحدثون عن دراسة مبادرة وقف اطلاق النار، وبعد دقائق معدودة من هذا التراجع المهين، نطق الناطق باسم البيت الابيض بعد صمت طويل، وتحدث بدوره عن ضرورة وقف اطلاق النار.

جميع هذه الاطراف، من اوروبية وامريكية وعربية لا تقيم اي اتصالات مع حركة 'حماس' باعتبارها حركة ' ارهابية'، الآن اصبحوا يطلبون وسطاء للتفاوض معها على وقف اطلاق النار، الا تدل هذه الحقيقة على تغير المعادلات السياسية بفضل الصمود على الأرض، والاصرار على المقاومة؟

الهدنة في حال اقرارها، يجب ان تعني فتح المعابر بما فيها رفح وتدفق المساعدات الانسانية، ورفع الحصار الظالم، ودفن الشهداء، وعلاج الجرحى، ولذلك تبدو مطلوبة، لالتقاط الأنفاس، والانطلاق نحو التفاوض من أجل تحسين شروط أي تهدئة جديدة، تجبّ كل ما قبلها من وسطاء وبنود ظالمة مجحفة جاءت نتيجة تواطؤ ذوي القربى، وخداعهم الواضح والمتعمد للطرف الفلسطيني ولمصلحة الطرف الاسرائيلي.

'''

وباجراء جردة سريعة لوقائع الأيام الأربعة الماضية، والنظر إلى النتائج من منظور الربح والخسارة، يمكن تلخيص كل ذلك في النقاط التالية:

أولا: استمرار حكومة 'حماس' وفصائل المقاومة الأخرى في قطاع غزة هو هزيمة للمشروع الاسرائيلي العربي الرامي إلى انهاء ظاهرة المقاومة.

ثانيا: سلطة رام الله هي الخاسر الأكبر بكل المقاييس، فقد ظهرت بمظهر المتواطئ مع العدوان، وتعاملت مع أهل الضفة الغربية كسلطة قمعية، عندما التقت مع الحكومة الاسرائيلية على هدف منع المظاهرات تضامناً مع اشقائهم في قطاع غزة. والأهم من ذلك ان هذه السلطة كانت مهمشة عربياً ودولياً، لا أحد يتصل بها، ودون أن يكون لها أي دور فاعل في الحرب أو التهدئة.

ثالثاً: تعرضت الحكومة المصرية إلى أكبر صفعتين في تاريخها الأولى من شعب مصر الوطني الشريف الذي تعاطف بملايينه مع اشقائه في قطاع غزة وخرج بالآلاف في مظاهرات غضب عارمة، والثانية من الشعوب العربية التي فضحت التواطؤ الرسمي المصري مع العدوان الاسرائيلي، عندما تدفقت في مسيرات احتجاج إلى سفارات النظام المصري في عواصمها.

رابعا: خسر 'عرب الاعتدال' ما تبقى لديهم من مصداقية، عندما تلكأوا في عقد قمة طارئة لبحث الأوضاع في قطاع غزة، لاعطاء القوات الاسرائيلية المزيد من الوقت على أمل ان تنجز مهمتها، وتحقق آمالهم في 'سحق' ظاهرة المقاومة الشريفة، تماماً مثلما فعلوا أثناء الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان.

'''

ما نريد قوله هنا، انه سواء نجحت جهود الوساطة في وقف اطلاق النار أو تعثرت، فان الأيام الأربعة الماضية أكدت ان المنطقة العربية تغيرت، وشهدت 'صحوة' غير مسبوقة، حيث تحدت الشعوب سجانيها، ورفعت صوتها عالياً ضد مشاريعهم الاستسلامية، وخطواتهم المتسارعة نحو تحويل اسرائيل إلى صديق يمكن التعويل عليه للعب دور الشرطي، أو 'الفتوة' في مواجهة العدو الجديد ايران.

الرئيس المصري حسني مبارك بشّرنا يوم أمس بأنه لن يسمح باعادة فتح معبر رفح إلا بعد عودة قوات السلطة والمراقبين الأوروبيين، مؤكداً على عدم استفادته من الوقائع الجديدة التي فرضها الصمود الفلسطيني على الأرض في الأيام الأربعة الماضية، وربما فيما هو قادم من أيام.

تصريحات الرئيس مبارك هذه تكشف الاستمرار في التواطؤ، والاصرار على اهانة الشعب المصري، وتقزيم دور مصر، هذا اذا بقي مثل هذا الدور في ظل سياساته هذه، الامر الذي يذكرنا بعناد الرئيس الراحل انور السادات في الاشهر الاخيرة من حكمه.

قواعد اللعبة في المنطقة تغيرت فعلا، ولكن في غير مصلحة اسرائيل والغرب المنافق المتواطئ مع عدوانها الذي ساوى بين الجلاد والضحية بتبريره العدوان، وتبنيه للأدبيات الهمجية الاسرائيلية، وسد اذنيه وعينيه عن رؤية ضحايا النازية الاسرائيلية في مستشفيات قطاع غزة من الاطفال الابرياء.

هذه المجزرة الاسرائيلية رسخت قيم المقاومة، وانهت عملية سلمية مضللة، ومهدت لصعود جيل جديد من الاستشهاديين، يتحرق شوقا للانتقام لاشقائه وآبائه الذين مزقت اشلاءهم الصواريخ الاسرائيلية.

بقي ان نختم بالقول ان هذه الشعوب العربية والاسلامية الشريفة بزئيرها المزلزل في مظاهرات العزة والكرامة ضد العدوان، وشعاراتها المتحدية لتخاذل النظام الرسمي العربي وانحيازه الفاضح للمعتدين، ساهمت بدور كبير في حدوث هذا التغيير، وقلب كل المعادلات التي فرضها الاسرائيليون والامريكيون في شهر عسلهم الموبوء الذي اوشك على نهايته.