أنا خائن لكل هذا الجنون!
بقلم/ محمد العلائي
نشر منذ: 13 سنة و 9 أشهر و 10 أيام
الأربعاء 26 يناير-كانون الثاني 2011 11:26 ص

اليمن في قبضة هستيريا المحاكاة الهزلية: فلطالما أراد علي صالح محاكاة التجربة المصرية والسورية والليبية، فيما أنور العولقي وتنظيم القاعدة يستلهمون التجربة الطالبانية، والبيض وباعوم والحراكيون التجربة السودانية وما شابهها، والحوثي يحاكي تجربة حزب الله والصدريين، وتوكل تريد إعادة تمثيل التجربة التونسية.. وهكذا دواليك!

في مناخ كهذا، لا شيء يزدهر أكثر من الحماقة، الحماقة الضارية، الحماقة التي لا تأبه. حاملوا الرؤوس الناشفة، الرؤوس الخاوية مثل الطبيعة في كوكب زحل، وحدهم يملؤون سطح الفوضى.

أنا خائن لكل هذا الجنون! سجلوني انهزامي وجبان. أنا كذلك بالفعل!

تركت الانتفاضة التونسية حالة سعار في اليمن تملأ الأرجاء. لا احد يريد تصديق كم أننا لسنا تونسيون. إذا كان نظام صالح يلتقي في قواسم مشتركة معينة مع نظام بن علي، فإن المجتمع التونسي يختلف عن المجتمع اليمني جذريا.

هذا الكلام يستفيد منه نظام صالح بالتأكيد لكن مع ذلك هو حقيقي جدا. لا ينبغي تجاهل الابتزاز بالحرب الأهلية "عندما يكون المبتز بلطجي قوي القلب"، بتعبير ياسين الحاج صالح.

كانت شرعية بن علي تقوم على الرعب، الرعب الذي زرعه في نفوس التونسيين من خلال جهاز بوليسي لا يرحم. ولسوف يحطم التونسيون مشاعر الرعب بعد سيدي بوزيد فيلوذ بن علي بالفرار. بالنسبة لليمنيين نجحوا منذ سنوات في قهر خوفهم من الأدوات القمعية للسلطة، وخرج الناس في كل مكان، وكتب الكتاب، وتمرد المتمردون، وانشق المنشقون. وأفكر في كيف أن علي صالح بات يستمد شرعية استمراره من حالة الغموض التام حيال المستقبل، أو الوضوح التام.

ولا بد أن النظام هو المستفيد الأكبر من تغذية مشاعر الخوف المصاحبة للرغبة في التغيير. يكمن مأزق الراغبون في التغيير، وأنا أحدهم، في أن المخاوف العظيمة التي يستدعيها التفكير في مستقبل اليمنيين بعد الإطاحة بالحكم، حقيقية بشكل لا يطاق. المعارضين المتحمسين يجادلون بأن تونسة اليمن ممكنة جدا، يتطلب الأمر تحريك طلاب جامعة صنعاء وعدن وسلسلة اعتصامات، وعلى الفور نستطيع تخيل طائرة الرئيس صالح تحلق في الأجواء باحثا عن مأوى على غرار زين العابدين بن علي.

السلطة، أو الموالاة، تعتقد أن اليمن أقرب للعرقنة والأفغنة والصوملة منها إلى أي شيء آخر. في ظني، حتى لو كنت أجازف باقتراف خطيئة التطابق مع السلطة في هذا الأمر بالذات، فإن اليمن بالفعل هي أقرب للنماذج الثلاثة منها إلى تونس. والفوارق بين اليمن وتونس أوضح من أن تشرح.

من سوء الحظ أن السيناريوهات التي يبشر بها النظام سهلة التصديق.

الرهان الآن على من يمتلك أجوبة مختلفة بشأن المستقبل. من بوسعه تقديم ضمانات بأن اليمن ستظل يمنا، وليس أفضل أو أسوأ، يمنا فقط مثلما هي عليه الآن، من يضمن بقاءها أثناء وبعد تغيير هذا النظام على الطريقة التونسية أو سواها؟

من بمقدوره إقناعي؟ اقصد يمنحني الطمأنينة المفقودة!

طبعا، قد يكون إسقاط السلطة سهل، رغم أن الرئيس بدا يوم الأحد وكأنه على استعداد لأن يقاتل إلى آخر قطرة دم وسيزج البلاد في قتال أهلي مرعب.. نتذكر أن طرد البدر من القصر الملكي استغرق ليلة واحدة فقط، لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟

ثورة 23 يوليو في مصر مثلا تمت بسلام ولم تسقط قطرة دم، تم تصديرها في حينه إلى اليمن وكان هذا أمرا جيدا بالنظر إلى السياق الذي تمت فيه وحجم التعقيدات، لكنها في اليمن استغرقت 8 سنوات من القتال الضاري والدماء والتناحر لا نزال ندفع ثمنها إلى الآن. لم يكن ثمة شيء اسمه قاعدة، وكان الجنوب لا يزال جنوبا، والزيدية زيدية، أما الآن فالوضع مرعب بحق وشديد التعقيد.

أنا هنا في النهاية أتساءل أكثر مما أقرر حقائق. أي شخص يمتلك القدرة على التبشير بسيناريوهات أقل سوادا من هذه أنا سأكون غدا في ميدان التحرير.. مع العلم أن الاحتجاجات الجماهيرية مهمة وضرورية، لكن يجب أن يكون الهدف منها الضغط على النظام الحاكم ليقتنع بهندسة انتقال آمن للسلطة أقل كلفة.. لأنه وحده يملك ذلك حاليا.

احترم من يختلف معي، كل شيء نسبي وغير مضمون، أنا ضد احتكار الحقيقة. المسألة تحتاج نقاش بصدق وليس مقامرة، والمحاكاة ليست أمرا معيبا على الدوام، لكن يجب الأخذ في الاعتبار ما نحن عليه وما هي عليه تونس.

كان التونسيون ديمقراطيون يحكمهم ديكتاتور، أما نحن شعب لا ديمقراطي يحكمه نظام لا ديمقراطي. حتى لو تأخر ضبط الأمور بعد التغيير في تونس، لن يتخذ الصراع هناك طابعا طائفيا ولا عشائريا ولا عرقيا ولا جهويا. نحن في مأزق، بقاء السلطة على هذه الشاكلة كارثة وتغييرها قد يبدو سهلا في النهاية لكنه خيار مفتوح على احتمالات يقشعر لها البدن.

بالعقل، مع أن اللاعقل هو الذي يفرض نفسه في أغلب الأحيان، جربوا إضافة أبطال المحاكاة الذين ذكرتهم مع العلل اليمنية التي لا تحصى، إلى التجربة التونسية، سنحصل على مركب مخيف بالنسبة لي على الأقل.

طمأنينة، طمأنينة، طمأنينة، فطنت الآن أنها أكثر ما ينقص اليمنيين على الدوام! يخطر لي أحيانا بأن كسرة طمأنينة تكفي لانتشالنا من الوحل المميت للمنطق والعقلانية السخيفة والرهاب الشخصي حيال المستقبل.

أم هل يجب أن يتمتع المرء بقدر من الجنون لكي يحظى بموطئ قدم في المستقل؟