لماذا فسدت البلاد والعباد؟
بقلم/ دكتور/فيصل القاسم
نشر منذ: 16 سنة و 8 أشهر و 17 يوماً
الأربعاء 13 فبراير-شباط 2008 07:24 ص

 لم تعد الشهامة شهامة، ولا الصداقة صداقة، ولا المروءة مروءة، ولا النخوة نخوة، ولا الأخوّة أخوّة، ولا الجيرة جيرة، ولا القرابة قرابة، ولا الأمانة أمانة في بلادنا التعيسة. لقد تآكلت القيم وخربت الأخلاق وبارت النفوس وتصدعت الأسس الإنسانية، فشاع النصب والاحتيال وتفشى الكذب والخداع والتدليس والإجرام والخيانة الاجتماعية، وأمسى الغريب طبيعياً والطبيعي غريباً. وغدا الشهم حماراً، والصادق مغفلاً، والغيور مخبولاً،والطيب ساذجاً، وكأن المطلوب منا أن نتحول مائة وثمانين درجة عن طريق الإنسانية الحقة، وأن نقرأ الأشياء بالمقلوب كي نساير العصر، وإلا اعتبرونا شاذين وغير معاصرين.

وكي لا يعتقد البعض أنني أحاول توضيح الواضح، لا بد من الاعتراف بأن انحطاط القيم وفساد المجتمعات ليس حدثاً جديداً بل شهدته كل حقب التاريخ بدليل أن الأدباء الانجليز مثلاً كـ دانيال ديفو وبرنارد شو ودي أتش لورانس وتشارلز ديكنز وغيرهم تناولوا الخراب الاجتماعي والإنساني منذ أكثر من قرن، ناهيك عن أن نبراسنا العظيم عبد الرحمن الكواكبي شرّح المجتمع العربي والإسلامي خير تشريح قبل أكثر من مائة عام في مؤلفه الخالد "طبائع الاستبداد". 

بالتالي ليس من الجدة بشيء أن يتحدث أحدنا هذه الأيام عن فساد البلاد والعباد. لكنني أجد نفسي مجبراً على طرح الموضوع وتكراره بعد أن وصلت براثن السرطان إلى قلب مجتمعاتنا التي كنا نحتفظ لها يوماً ما بصورة رومانسية ناصعة في مخيلتنا. وكما هو معروف فإن الخطب يصبح أكثر وقعاً وتأثيراً على النفس إذا كان قريباً منا، حسب النظرية الإعلامية، فسماع خبر عن زلزال في إندونيسيا لن يؤثر فينا كما يؤثر خبر سقوط ابن جارنا من على سطح المنزل وكسر يديه ورجليه، فما بالك إذا كان الخطب أشد وأنكى، كفساد مجتمعاتنا التي ترعرعنا بين أحضانها.

كم أشعر بغصة قاتلة وأنا أرى كيف انقلبت المفاهيم وتحجرت القلوب وفسدت الطبائع وأمست المصالح سيدة المواقف في بلادنا التي كانت طيبة، ووسط أبناء جلدتنا الذين كانوا يوماً خيّرين. كم بتنا نحِنُّ لتلك الأيام الخوالي عندما كان الناس أناساً والوحوش وحوشاً. أما الآن فقد تعولم الناس والوحوش في قالب واحد قيمياً. وغدا من الصعب جداً التمييز بين بني آدم وبني آوى من حيث الأخلاق والسلوك.

لقد قادني حظي العاثر قبل أيام إلى مكتب نائب عام في إحدى المدن العربية «والحمد لله لتناول فنجان قهوة لا أكثر ولا أقل» وليتني لم ألبّ الدعوة، فقد اطلعت خلال تلك النصف الساعة التعيسة على عجائب وغرائب كنت أعتقد أنها موجودة فقط في الروايات وأفلام الإجرام فقط، فإذ بها حدث يومي مكرور في منطقة عربية كنت أعتقد أن أهلها أقرب إلى الرهبان في بساطتهم وطيبتهم ومعشرهم وقيمهم وتصرفاتهم."نعم يا أخ ما هي مشكلتك"، سأل النائب العام أحد الداخلين إلى مكتبه، فأجاب الأخ: "مشكلتي بسيطة يا سيادة النائب: لقد استيقظت صباح اليوم لأجد أن زوجتي خطفت الأولاد وسافرت إلى إحدى بلدان أمريكا الجنوبية بعد أن رشت الشرطي على الحدود بمبلغ ما".

لقد كان الحدث بالنسبة لي كالصاعقة، خاصة وأنني ما زلت أحتفظ لتلك البقاع الطيبة بذكرى رهبانية جميلة وبريئة. أما سيادة النائب فقد بدا عادياً في رد فعله لا مستغرباً، لكن ليس لأنه متحجر القلب ولا يأبه بالمشاعر الإنسانية، بل لأنه، كما أردف لي قائلاً: "إنه حدث بسيط مقارنة بالجرائم الأخرى التي تمر على رأسي يومياً. لقد كنت قبل أسبوع مشرفاً على إعدام شاب قتل شخصاً شر قتلة لينهب منه ما يعادل خمسمائة دولار". فقلت له: "ربما يحدث ذلك في شوارع واشنطن الخلفية أو في شيكاغو، لكنه مستحيل أن يحدث في قرانا الوادعة"، فقال: "لا ياسيدي. لقد أصبح لدينا مجرمون ومنحرفون في مدننا وضيعاتنا الجميلة والمسالمة بخطورة أولئك الذين تشاهدهم على شاشات التلفاز في الأفلام الأمريكية."

لقد روى لي السيد النائب كيف احتاج شاب مقبل على الزواج إلى مبلغ بسيط لشراء الذهب لخطيبته قبيل الزفاف، فدعا أحد التجار إلى بيته على أمل أن تكون جيوبه ممتلئة بالمال، وبعد أن وصلا إلى المنزل جلس التاجر في غرفة الاستقبال، لكنه غط في نوم عميق بسبب التعب، وهنا كانت فرصة الشاب بأن ينقض عليه بفأس، فأغمي عليه، فجره إلى غرفة أخرى، وعندما وجده ما زال يحرك رأسه أتى بسلك الهاتف وخنقه به ليجهز عليه تماماً، ثم فتش جيبه ليجد فيها ما يعادل خمسمائة دولار فقط لا غير، فأخذها وتوجه إلى بيت خطيبته، وطلب منها أن تذهب معه لشراء «الصيغة»، وكأن شيئاً لم يحدث- هكذا بكل دم بارد.

وما كاد النائب العام يفرغ من رواية الشاب القاتل حتى دخلت علينا عجوز تشتكي جارها الطيب و"الآدمي جداً" الذي كانت تعتبره أفضل وأنبل وأكثر رجال القرية شهامة واستقامة، لكنه فاجأها بأن نصب عليها وسرق منها نصف مجوهراتها القديمة التي كانت تحتفظ بها ليوم الضيق. لقد غدت الأمانة والاستقامة عملة نادرة في الكثير من مجتمعاتنا، فالقريب يمكن أن يغش قريبه وينصب ويحتال عليه بطريقة خسيسة للغاية دون أن يشعر بأي وخز للضمير، حتى بات الأخ لا يأمن جانب أخيه أحياناً.

لماذا وصل أبناء جلدتنا الطيبون إلى هذا الدرك من السفالة والانحطاط القيمي والأخلاقي؟ أليس لأن السلطة في بلادنا العربية أفسدت كل شيء ورفعت شعار "يجب إفساد من لم يفسد بعد"، لأن حكم شعب فاسد أهون عليها بكثير من حكم شعب صالح؟ أليس الثلم الأعوج من الثور الكبير فعلاً؟ أليس من الخطأ تحميل العولمة الإعلامية والثقافية وزر انحراف مجتمعاتنا وتجريدها من قيمها الاجتماعية والأخلاقية والدينية والثقافية النبيلة بدعوى أن الانفتاح الإعلامي الخطير مكن الشعوب العربية التعرف على ثقافات العنف والإجرام والانحراف الأخلاقي في العوالم الأخرى؟

قد يجادل البعض بأن ما يحدث في بلادنا من انحرافات يبقى نقطة في بحر مما يحدث في الغرب المتوحش، وخاصة في أمريكا، حيث لا تمر دقيقة دون أن تقع جريمة مروعة، أو في أمريكا اللاتينية، حيث يقتلون الإنسان من أجل سيجارة. وهذا صحيح، لكن الفرق بيننا وبينهم أن ما يسميه كارل ماركس بـ"واقعنا الاجتماعي" الذي هو نتاج لواقعنا الاقتصادي يختلف تماماً عن واقعهم، فالجرائم التي تقع في أمريكا هي نتيجة طبيعية لطبيعة النظام الرأسمالي المتوحش. أما نظامنا فهو زراعي أو ما قبل صناعي مسالم حسب التحليل الماركسي. ناهيك عن أن المجتمعات الغربية على رغم العنف المتفشي في بعضها تظل أكثر التزاماً بالأخلاق الإنسانية من مجتمعاتنا، فالناس هناك صادقون في تعاملاتهم وأمينون ومستقيمون وحتى خيرون، وهو أمر تنبه له المصلح الكبير محمد عبده منذ زمن بعيد عندما قال ذات مرة: "لقد شاهدت في الغرب مسلمين من دون إسلام بينما لدينا في ديارنا إسلام من دون مسلمين."

أما أن تفرز بلداننا جرائم كتلك الموجودة في أمريكا ذات النظام الاقتصادي والاجتماعي المختلف كلياً فهذا يشير إلى خلل خطير لدينا وأن السيل قد بلغ الزبى. ناهيك عن أن لدينا تراثاً ثقافياً ودينياً رادعاً للجريمة بشكلها الأمريكي، بالإضافة طبعاً إلى النظام الأمني العربي الصارم الذي أخصى كل شيء آخر في بلادنا، كي يكون هو الكل بالكل. لكن هذه التركيبة الثقافية والمجتمعية والدينية والأمنية لم تحل دون تفشي الفساد والجريمة والخراب الاجتماعي على نحو خطير في ديارنا. لماذا؟ لأن الاستبداد أقوى منها جميعاً وهو المسؤول الأول والأخير عن التدهور الاجتماعي والأخلاقي في مجتمعاتنا على مبدأ "حاميها حراميها".

وكان الكواكبي قد حذر الآباء والأمهات في كتابه الشهير من تربية أبنائهم على الفضيلة والأخلاق الحميدة لأن الاستبداد قادر على قلب الأمور رأساً على عقب، بجعل الصادق كاذباً ومتزلفاً والشهم نذلاً وسافلاً والكريم لئيماً وخسيساً، وبذلك تضيع جهود الآباء سدى. وبالتالي علينا ألا نتوقع من مجتمعاتنا أن تكون فاضلة وخيرة إذا كان من يحكمها يدفعها بانتظام واستمرار إلى هاوية السقوط الاجتماعي والأخلاقي والقيمي، ولا يغمض له جفن إلا إذا فسدت البلاد والعباد.

* مدونة فيصل القاسم