عن بديهيات الحوار والفدرالية المستحيلة والدكاترة فرانكشتاين"
بقلم/ سامي غالب
نشر منذ: 9 سنوات و 8 أشهر
السبت 07 مارس - آذار 2015 12:55 م

  سقوط الدولة والمؤسسات في العاصمة صنعاء، ثم سقوط عواصم محافظات يمنية في قبضة اللجان الشعبية والأنصار من كل الأصناف، بدأ رسميا في يناير 2014 عندما فوض "شعب موفنبيك"* الرئيس الانتقالي عبدربه منصور هادي بتشكيل لجنة لتقسيم اليمن إلى اقليمين أو 6 أقاليم أو أي عدد بين ال2 وال6.

كانوا يفوضون رئيسا انتقاليا بمهمة من اخطر المهام في تاريخ اليمن: تفكيك دولة بسيطة وتحويلها الى دولة مركبة (أي بتنفيذ مهمة خارج المنطق والسياسة والطبيعة). صار الرئيس الانتقالي هو رجل المستحيل. وهو سارع الى تشكيل لجنة وزارها في اليوم التالي وابلغ اعضاءها بسرعة الانتهاء من تقسيم اليمن إلى 6 اقاليم. (كان قد اتفق مع الاصلاح والناصري وقيادات في المؤتمر الشعبي على تقسيم سداسي يمنع انفصال الجنوب ويعزل "المركز المقدس" في معزل عنصري اختاروا له اسم شديد العذوبة هو "آزال"، وآزال هو الاسم القديم لمدينة صنعاء التاريخية).

كان الرئيس هادي "رجل المستحيل" وقادة الاحزاب القومية واليسارية والاسلامية هم الصحابة الاولين، وشعب موفنبيك هم "التابعون"! وشباب ثورة فبراير وجماعات المجتمعين المدني والحقوقي هم المؤلفة فلوبهم الذين تم استرضاؤهم في موفنبيك، وإغراقهم بمعسول الكلمات والامتيازات المؤقتة في دولة فندق ال5 نجوم ودولة ما بعد الفندق.

كان "رجل المستحيل" مدعوما من المبعوث الدولي وسفراء غربيين، قد تمكن من إقناع محمد علي أحمد بتشكيل مكون حراكي جديد باسم "مؤتمر شعب الجنوب"، يتيح لنخبة صنعاء وسفراء الدول الراعية القول إن الحراك الجنوبي صار ممثلا في مؤتمر موفنبيك. [في وقت لاحق من عام الحوار الوطني انسحب رئيس مؤتمر شعب الجنوب (أحمد فريد بن صريمة) من هيئة رئاسة المؤتمر، ثم في الصيف القائظ قرر محمد علي أحمد الانسحاب من موفنبيك لكن الرئيس هادي وبنعمر وقادة المشترك كانوا قد تمكنوا من شق هذا المكون ذي التمثيل المحدود في الجنوب، وهكذا استمرت البقية الباقية من "الحراك" الموفنبيكي في جبسات الحوار).

بينما كانت "المهزلة اليمنية" تواصل عروضها في صالات الفندق، كان الحوثيون يشقون طريقهم إلى العاصمة مستفيدين من كل التناقضات بين أطراف المبادرة الخليجية. فهم استفادوا من الصراع بين صالح وهادي (الرئيسين السابق والحالي)، ثم بين المبشرين بفدرالية الاقليمين والمبشرين بفدرالية ال6، ثم بين الرئيس هادي ومستشاره (غير الشقيق!) علي محسن الأحمر. وهم الآن أسياد العاصمة يتلاعبون بالمبشرين جميعا ويعلمونهم درسا في السياسة والقوة!

منذ عامين والرئيس هادي يتصرف كرئيس خارج الواقع. كرئيس لشعب موفنبيك، ولدولة "اليمن الاتحادي". كان مؤدى هذا السلوك أن تسقط "الجمهورية اليمنية" في مستنقع الحروب الاهلية والطائفية، وأن تنشأ دويلات الأنصار (أنصار الله وأنصار الشريعية وأنصار الثورة وأنصار الشرعية). لكن الدولة المبشر بها (دولة اليمن الفدرالي) ظلت مثل رئيسها، دولة مستحيلة.

الفدرالية (اللامركزية السياسية لا المركزية الإدارية، التقسيم السياسي لا الإداري التنموي) مستحيلة في اليمن. لا يمكن لها ان تتحقق في واقع اليمنيين شديد التعقيد والتداخل و"الانفجار". لا يمكن تصور كيانات مستقرة ومتعاونة تتخلق من هذا "اليمن" المعذب والطافح بالجماعات العصبوية، الطائفية، التي تشتغل على تدمير النسيج الاجتماعي واشاعة الكراهية لتصعد على انقاض اليمن.

***

الفدراليات تنشأ من اتحاد دول، غالبا. في حالات نادرة تنشأ من احشاء دولة بسيطة تضم قوميات واديان واثنيات متعددة.

تنشأ من وحدويين يريدون وطنا اكبر ودولة مهابة وهوية وطنية جامعة، كما الامريكيين والالمان (والإمارات العربية المتحدة في العالم العربي). لكن في اليمن تغيب الايجابية كليا وتبهت الهوية الوطنية ويتم التبشير بأقاليم موهومة (كما في وسائل الإعلام اليمنية الموالية لهادي والمشترك) ضدا على الهوية الجامعة والآمال المشتركة لليمنيين. ثم انها تستجيب استجابة مرضية لمخاطر التفكك. فبدلا من الذهاب فورا إلى الجنوب لمعالجة المظالم ورد الاعتبار للوحدة اليمنية التي اهينت في حرب 94، قرر "الدكاترة فرانكشتاين" تخليق كيان حي من جسد "المريض اليماني" الذي لما يمت بعد. وها هو "المسخ" اليمني يفتك باليمنيين في كل مكان.

(في الرواية الأصلية يتصدى الدكتور فرانكشتاين للمسخ لإنقاذ البلده من شروره، لكن في اليمن يقرر الدكاترة فرانكشتاين _ بداعي المرض او بزعم التقدم في العمر_ الاعتزال، اعتزال صناعة الخزعبلات، تاركين شعبهم يغرق في القوضى)

أعرف ان الذين بشروا بالفدرالية كانوا في اغلبهم يجهلونها، لا يدركون ماهيتها، ولا يمحصون في امكان تحققها، ولا يتحسبون لمضاعفات إعلانها كحل للأزمة الوطنية وبالتالي لمخاطر تطبيقها الارتجال الغشوم والجهول على السلم الأهلي. [في مارس 2013 أدرت في فندق البستان جنوب العاصمة حلقة نقاش ضمن فعاليات "برنامج دعم الحوار الوطني في اليمن"، وشارك في الحلقة ممثلو الأحزاب والجماعات السياسية اليمنية. وقد هالني انه لا يوجد حزب واحد لديه رؤية مفصلة عن اليمن الفدرالي الذي يطالبون به. الخفة والجهل كانتا تهيمنان في صالة مكتظة بالمنظرين الحزبيين الذين يبشرون شعبهم بحلول سحرية لا يعرفون تركيبتها ولا سياقها ولا يبالون لتأثيراتها.

أعرف الآن ان "الفدرالييين" _ بدءا من الرئيس هادي ومستشاريه بمن فيهم "الدكاترة فرانكشتاين" الثلاثة المعتزلون_ لا يقرؤون ما جرى في العام الماضي (عام ما بعد الحوار الذي سيبني اليمن الجديد) بموضوعية ويراجعون خياراتهم المستحيلة بصرامة ونزاهة، ويمحصون في البدائل التي كانت معروضة على الدوام لكنهم تجاهلوها بل وطوحوا بها بعيدا في غمرة انغماسهم في "صناعة الأجماع" التي أخذت اليمن إلى هذه الفوضى المستدامة!

أي منهم لم يعتذر لليمنيين.

لم يصارح الطيبين بانه اخطا إذ لم يحسن تقدير عواقب الأمور.

اعتزل البعض.

وواصل الآخرون الحفر في عدن.

***

لكن الفدراليين هم متدينون بإخلاص.

هم الوريث البيولوجي لشموليي الماضي

هم النسخة الجديدة من "الوحدويين الفوريين" والمبشرين اليساريين والاسلاميين في القرن ال20.

يكفي في نظرهم أن يرددوا شعار "الفدرالية هي الحل" لتتنزل 6 فراديس (أو فردوسين) على الأرض.

الفدرالي اليمني هو القومي العربي واليساري والاسلامي في قالب واحد. بروحية مناضل أو مجاهد أو رفيق صارم لا يساوم في المبادئ، يعتنق الشعار الجديد ثم يخرج في الناس مبشرا بالفراديس التي ستتنزل من مجرد اقرار نص في الدستور يقول ان اليمن تتركب (أو تتفكك) إلى ستة أقاليم (أو اقليمين).

 

في اليمن فقط تتحول الفدرالية إلى "ايديولوجيا" والدولة إلى لعبة يمكن تفكيكها قطعا ثم يتبارى التبشيريون في الطريقة المثلى لإعادة تشكيلها مجددا.

بيد أن الفدراليين ليسوا اليمنيين. هناك جماعات فدرالية_ ضد فدرالية في الواقع، تقيم اماراتها من دون انتظار موافقة مجلس الأمن واستفتاء شعبي أو شرعية توافقية. هناك الآن دويلات داخل الدولة وخارجها من حضرموت إلى صعدة. وهناك إمارات قيد الإنشاء تنتظر ساعة الانفجار الكبير لتعلن عن نفسها فيما يمكن اعتباره ولادة جديدة ل"يمنات" ترث اليمن المحتضر الذي نعرفه منذ عقود.

****

نظرة سريعة على قائمة المبشرين بالفدرالية في اليمن تمكنك من معرفة "الوظيفة النفسية" لها في اليمن. فهي تحرر الأيديولوجي من "التبخيس الذاتي" الذي يكابده جراء هزيمته الكبرى في واقع يمني شديد التعقيد. وتعيده مجددا إلى هذا الواقع مسلحا بما يظنها ايديولوجيا "الفدراليه" تستحثه ثأراته من كل اعدائه وأصدقائه.

"الفدرالية هي الحل" هو الشعار التعويضي لشعارات الحالمين جميعا: "حتمية الحل الاشتراكي" و"حتمية الوحدة العربية" و"الإسلام هو الحل".

توفر الفدرالية خلاصا مركبا لايديولوجيي الماضي: فهي تزودهم بالتعويض النفسي الضروري لمواجهة خساراتهم الايديولوجية الفادحة. وهي أيضا تقتص لهم من كل الذين أذلوهم في الماضي. إنها السلاح (السحري والموهوم) الذي يتحرر به نفسيا واجتماعيا.

الفدراليون مثلهم مثل "انصار الشريعة" و "أنصار الله".

لا يقبلون أي تشكيك بمعتقداتهم الدينية (الفدرالية).

يرفضون الدخول في أي نقاش في التفاصيل. فالفدرالية تؤخذ كلها.

يرفضون أية تدرجية بدءا من حكم محلي واسع الصلاحيات (كتجريب واختبار وتدريب)، فالتغيير الشامل والثورجي والفوري هو الناجع بدلا من التدرجية التي تتيح لأعداء الفدرالية ‏ smile ‏ رمز تعبيري الثورة المضادة او أعداء الثورة) الوقت والامكانات للانقلاب على هذا "المنجز التاريخي".

الفدراليون استعلائيون _ عن جهل وكِبْر مرضي _ كما ايديولوجيي وثورجيي العقود الماضية. إما أن يقبل اليمنيون بدينهم، جملة، وإما أنهم رجعيون ومتأخرون حضاريا، ويوالون "المركز المقدس" أو ينتمون إلى محافظاته. والمركز المقدس، هنا، مفهوم صلصالي يتشكل وفق هوى المتحدث أو المتشدق بنظرية الانفكاك عنه. قد يكون الرئيس السباق صالح وجماعة مقربيه وأقربائه الذين كانوا يشاركون سلطة القرار خلال حقبة حكمه. أو يتجاوز دوائر القرار في العاصمة ليشمل قبيلة حاشد ومراكز النفوذ القبلية والعسكرية في المناطق القريبة من العاصمة. وقد ينفتح على مناطق جغرافية بأكملها في ما يشبه أخذ المظلومين بجريرة الظالمين.

**

الفدرالية، مرة عاشرة أقول، هي الدين الجديد للنخبة السياسية اليمنية الفاسدة. لنخب الخمسينات والستينات والسبعينات التي شاخت وهرمت لكنها لا تريد ان تغادر منصة العرض.

وهي، بالتالي، الحشيش الذي تروجه هذه النخبة ل"جماهير" الشعب اليمني العظيم لتصطبر على البلاء المقيم في اليمن في انتظار الجنة التي وعد بها "أهل موفنبيك" اليمنيين المؤمنين!

 

***

بوسع أي كان الادعاء بأن مشكلة اليمنيين بدأت في 19 يناير 2015 عندما أكمل الحوثيون سيطرتهم على العاصمة صنعاء، وصفوا "المربعات الأمنية" للرئيس هادي. بالوسع العودة إلى 21 سبتمبر الذي أفرز اتفاق سلم وشراكه وقع عليه الأطراف المتحاورة جميعا. يمكن العودة إلى بناير 2014 عندما فرض الرئيس هادي وحلفاؤه في المشترك صيغة قرار يفوضه تقسيم اليمن سياسيا إلى عدد من الأقاليم (كان هادي ومستشاروه باستثناء الدكتور ياسين سعيد نعمان المتشبث بتقسيم اليمن إلى اقليمين، قد قرروا سلفا التقسيم إلى 6 اقاليم).

يمكن العودة إلى الوثيقة المقترحة من جمال بنعمر في خريف 2013 والتي تقوض "الكيان الوطني" لليمنيين وتؤسس لفتنة طائفية في اليمن من خلال التمييز تشريعيا في حقوق المواطنة.

يمكن العودة إلى مطلع 2013 عندما قرر الرئيس ومستشاروه وجمال بنعمر وسفراء الدول الراعية (والحوثيون معهم) المخاطرة بالسلم الأهلي عبر أخذ "اليمن" إلى طاولة حوار حول الدولة والنظام السياسي والنظام الانتخابي والعدالة الانتقالية ومشكلة صعدة والقضية الجنوبية والجيش والأمن والسلاح الميليشوي و"زواج الصغيرات" وشحة المياه وكل ما يخطر على بال خبراء الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمنظمات التابعة لهما.

اتخذوا قرارهم بعقد المؤتمر قبل أية تهيئة للحوار تتصل بالأوضاع في صعدة والجنوب. يومها تشاركوا جميعا في "صناعة إجماع" ضدا على عضوي اللجنة التحضيرية للحوار رضية المتوكل وماجد المذحجي اللذين استقالا احتجاجا على هذا القرار الأخرق.

كانت صناعة الإجماع تستهدف حرمان المظلومين من حقوقهم وتحويل القضية الجنوبية وقضية صعدة إلى ورقتين تفاوضيتين على الطاولة (أو تحت الطاولة) وابتزاز اليمنيين العاديين من أجل القبول بصيغة مقررة سلفا ( في الخطوط الرئيسية على الأقل) للتمديد لسلطة الرئيس هادي وحكومة الوفاق، ولتقسيم اليمن سياسيا بذريعة أن التقسيم هو الحل الوحيد الذي يقبل به الجنوبيون. وقد جرى تمرير الفدرالية في سياق تآمري كهذا.

يمكن العودة إلى نقطة أقدم في الزمان لفهم ما جرى. إلى التقاسم الاجرامي للوظيفة العامة ولمؤسستي الجيش والأمن من قبل الأطراف السياسية الموقعة على المبادرة الخليجية. إلى انشقاق علي محسن الأحمر في 21 مارس 2011 وتحالفه مع المشترك من أجل تحويل الثورة الشعبية إلى أزمة سياسية بين المؤتمر الشعبي واللقاء المشترك. إلى انفراد الرئيس صالح في ديسمبر 2010 بتقديم مشروع تعديلات دستورية غير متفاهم عليه مع المشترك. إلى فشل الانتخابات الرئاسية في تحقيق تغيير سلمي للسلطة. إلى حرب 1994 التي شكلت ضربة قاصمة للديمقراطية وصدعا عظيما في الوحدة... (يمكن لأي كان السفر في الماضي إلى ما هو أبعد؛ عقود، قرون، ألفية، الفيتين، إلى هيمنة مملكة حمير على اليمن القديم وتقويضها مملكة حضرموت، او إلى تحالف سبأ وحضرموت لإنهاء مملكة أوسان!)

بوسع أي كان الإفلات عبر رجعة في الزمن حسبما يعن له. لكن الشاهد أن المسار الكارثي بدا عندما تنازل الاشتراكي والناصري والحوثيون والحراكيون الممثلون في اللجنة التحضيرية للحوار الوطني، عن التهيئة للحوار طيق "نقاط الحد الأدنى" التي اشتهرت اعلاميا ب"النقاط ال20".

اسقطوا البديهيات من اجل الدين الجديد الذي اعتنقوه.

لقد قدموا الضحايا قربانا على مذبح الفدرالية.

ارادوا تفكيك اليمن بأي ثمن حتى لو كان اطنان من دماء الأبرياء.

إذ كيف يمكن تفكيك دولة دون "كراهية" و"احتقانات" و"جروح مفتوحة" و"ملفات ساخنة" يتم تغذيتها بالوقود دوريا؟

***

اسقطوا البديهيات فسقطت الدولة، وتغولت الجماعات المسلحة.

والآن يتحاورون مجددا، ويراوحون حول مخرجات حوار محكوم عليه بالفشل منذ ما قبل انطلاقه.

يفعولن كل هذا ويزدادون تمسكا بالفدرالية بما هي "مكسب تاريخي"!

هؤلاء هم أصل البلاء وسبب الكارثة.