ضفاف, لنشوان العثماني.. قراءة في قصيدة النثر (2-3)
بقلم/ د.عبدالمنعم الشيباني
نشر منذ: 13 سنة و شهر و 22 يوماً
الخميس 08 سبتمبر-أيلول 2011 10:07 ص

قصيدة "ضفاف" للشاعر الشاب نشوان محمد العثماني من ضروب "قصيدة النثر" موضوع ثريٌّ للدراسة والتحليل النقدي تستحق لإتمامها عشر حلقات او اكثر –لا ثلاث- وموضوع هذه الحلقة:

الشاعر يكتب النص المقدَّس

في الحلقة السابقة اوضحتُ ان قصيدة النثر الرائدة هي التي تعكس عبقرية في كل اشكال التناص مع الحضارات والافكار الانسانية، وهي قصيدة رائدة من وجهين، الأول حضورها الشاعري كعبارات وكلمات والفاض (شكل النص)، فالشعر اولاً واخيراً يُكتب ليُتذوق لاليُفهم. والحضور الفني للقصيدة هو مايأتي بجديد غير مألوف.. قرأ شاعرٌ قصيدةً امام ناقدٍ جاء في القصيدة عبارة :(وجنتي للشمس) فرد عليه الناقد :(حتى الكلب وجنته للشمس)..اما الوجه الثاني للقصيدة الرائدة فهو حضورها الفكري والفلسفي بعيد الغور مع حضورٍ للأبعاد النفسية الإنسانية والتاريخية.

قراءة اكاديمية علمية للنص (ضفاف) يشير الى نجاح النص في الشكل والحضور الفكري واجتذاب الوجهين معاً. تعالوا نقرأ فاتحة النص:

المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه,

يؤرشفني مصيري لأجله:

الكرامة.

فـ «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»

*** 

موضوع القصيدة "الكرامة" والتي هي اخت الحرية. اول نقطة للحضور الريادي للنص هو ان الشاعر (او المتكلم داخل النص) لم يعد مجر متلقٍ للنصوص المقدسة بل صار هو نفسه يكتب "النص المقدًّس" وصار يستدرك اشياء عظيمة المعنى ربما لم تشملها النصوص المقدسة القديمة كـ (الكرامة) فهو الآن يكتبها:

 المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه

يرتقي الشاعر (او المتكلم اوالراوي) الى مراتب عليا في المعاني ربما كانت تبدو بعيدة المنال لا تُكتب الا في النصوص المقدسة، لكنه صار يكتبها لأنه اديب والاديب لايأتي الابماهو انسانيٌّ راقٍ ومقدسٍ وبهذا ينتقل الشاعر من موقع (المتلقي) الى موقع (المنشئ) للمعاني الجديدة.

لا أريد أن أتفلسف و(اعجن) ولكن اريد ان ابسط الكلام للقراء الأعزاء ومنهم شعراء ونقاد.. هناك نظريات وفلسفات نقدية عالمية -غربية طبعاً- تقول ان النص المقدس او الكتاب المقدس –يقصدون الإنجيل- ما هو إلا كتاب في الشعر والفكر والأدب لا اقل ولا اكثر، فهو كتاب ادبي يحوي كلام ادبي يشبه الشعر والنثر... ثم يقولون :(مادام هذا الانسان او الشاعر –خصوصاً- قادراً على قراءة تلك النصوص في الكتاب المقدس فهو بنفس القدر اقدر على محاكاتها اوكتابة مثلها واحسن قليل)، هكذا هم يقولون، يعني جهابذة النقد والفكر الغربي، ومثل هذا الكلام ظهر مع ظهور التيارات الرومانسية الشعرية في (انجلاند): من امثال الرواد وليام بيليك ووليام وردسورث وكلوريدج وغيرهم.. وهم يقولون ان الأديب او الشاعر او المنشئ للنص كائنٌ مقدسٌ بطبعه، يقبس من وحي الإله ومن بشارات النبي ولهذا هو يأتي ببشارات والهامات تشبه ماهو مكتوب في الكتاب المقدَّس.. يكاد هذا الكلام ينطبق على قراءتنا للسطور فاتحة النص " ضفاف" فـ موقع المتكلم في النص لم يعد مجرد متلقٍ بل صار هو مصدر المعاني المقدسة والأجل قدسية كـ الكرامة... ثم تعالوا نتأمل عبارة :

«ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»

هذه العبارة وردت فيما يسمى بالعهد الجديد (نيوتستامينت) الكتاب المقدس عند النصارى.. الا تشبه هذه العبارة سطراً شعرياً يمكن ان يكتبه شاعر؟؟ أليس النص المقدس «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» من قبيل الشعر؟ ويمكن ان يقوله شاعرٌ؟

دعوني اضرب لكم مثلاً آخراً.. رجلٌ مفكرٌ غربيٌ نصرانيٌ لا يعرف العربية ولم يقرأ القرآن الكريم قال ذات مرة كلاماً فيما معناه: (لا يوجد رجلٌ محايدٌ في هذا العالم، ان المحايدين في اسفل قعر في جهنم).. الايشبه هذا الكلام قوله تعالى: (ان المنافقينَ في الدركِ الأسفلِ من النار)؟ كيف اهتدى هذا المفكر الى هذا المعنى المقدَّس؟!! تعالوا نضرب مثلاٌ آخر من تراثنا الاسلامي (السلفي) حين يقال: (كان الحسن البصري رضي الله عنه يشبه كلامه كلام الأنبياء).. ما معنى هذا؟ بل وان الخليفة هارون الرشيد كان يزين مقدمة رسائله لعماله وللأمراء والملوك اما بآية قرآنية او بكلام من كلام الحسن البصري.. ما معنى هذا الكلام؟

يقول الغربيون من ارباب مدارس النقد والشعر ان للشاعر قلب نبي فهو ملهمٌ ويأتي دائماً بالمقدًّس. وهكذا فليس بمعجز ان نقرأ في النص معانٍ تشبه المعاني المقدسة فهي درجة عليا من الإلهام لكنها ليست مستحيلة على شاعرٍ يحمل بين جنبيه قلب نبي.

ضفاف لـ نشوان العثماني

المعاني غادرت

والمقدّس الذي يكتبني, أكتبه,

يؤرشفني مصيري لأجله:

الكرامة.

فـ «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان»1

***

ثم أنني التَفِتُ يسارًا, فأجد غمامة ماطرة, وسحابة تكاد تلد, وترقصان,

وأسمع رعدًا يغني, وأرى برقًا يتسلق السماء,

وأقرأُ هذه اللوحة,

وماذا تعني؟

أتعلم؟

كانَ من الجميل أنني لا ألفت ناحية أخرى!

***

قال لي طاغور:

«حين رحل الجميع

بقينا، أنا وأنتَ، جالسين

نلعبُ بالمعنى وقصائد الألوان والفراشات

نلعبُ بحبّات الدموع

نلعبُ برموز الوهم حتّى دهمنا المساء

وألقى القبض علينا

بتهمة تسوّل المعجزات

عند ضفاف الأنهار المقدسة

بتهمة انتظار من لا يجيء أبداً,,»2

ودخلنا السجن, ودخل معنا فتيان,

وعزمنا الأربعة على أن نصطحب رفاقنا على ضفاف تلك الأنهار, المرة القادمة,

وأن نصنع مركب الانتظار,

***

وقرأتها من زمن, وكتبتُ,

وسافرت روحي, وهي تستغيث,

وهجرتني أحلامي,

ثم تركوني هنا, شتاتًا,

وأشلائي تشكوني, وتهجوني,

وحين لجأت إلى شاطئ القصيدة, ومحراب الصبر,

رأيتني أفترش سجاد الفضاء, ولم أصرخ, بل صرختُ؛

«اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وأنْبَتَتْ»3

***

رأيتني, وأنا على جانبي, يلتهمني الوجع,

وحفلتُ بي, وقاومتُ,

واحتشدتُ لأقرأ كتابًا عن المجريات,

كنت أقرأه في وجوه الناس,

وألمس شغفًا أن أنظر في أعينهم معنى الشيء الذي يكتبني, يؤرشفني: الكرامة,

***

سادتي, انتظروني عند حافة المدينة المقدسة, عند شاطئ النهرين, وانتظروني هناك عند السد العظيم,

لن يأتي, أعرف ذلك,

انتظروني وفقط,

اِنتظروني سأقوله لكم,

...

...

...

اَنتظروني,

وأتيتهم,

اقتاتوا العزيمة من مثواي الأخير,

ولا أدري ما صنعوا,

أثق بهم,

الأمنيات لو كنت معهم. سأصلي.

_________________

1من «العهد الجديد».

2من قصيدة لـ «طاغور».

3من سورة «الحج».

....

*يتبع الحلقة القادمة.

**شاعر وناقد يمني مقيم في الهند

a.monim@gmail.com