في مختلف الجبهات شمالا وجنوبا , وأمام كل نصر وتقدم يحققه أبطال الجيش والمقاومة ضد القوات الانقلابية , مازال دعاة المناطقية والجهوية , ورافعو راية العصبية والنرجسية , يتفننون عبر وسائل التواصل والإعلام , في أداء مراسيم التعالي والكِبر , والبرع على أهازيج ( نحن ) , والغناء على دان ( نا ) .! مع غمط ظالم منهم لبطولات فردية وجماعية يحققها رجال بذلوا أرواحهم ودماءهم دفاعا عن حق وأرض وعِرض . ويزعم المناطقيون أنهم وحدهم من يحقق النصر , وأن وجودهم فقط يصنع الفتح . والواقع أن المقاتلين في مواطن الشرف جسد واحد , يفخرون بما حققوه دون أن ينسب أحدهم ذلك له دون غيره .
متى سيفهم هؤلاء !؟ أنه قد ولت موضة تلك التقليعات , واندثرت طقوس تلك القربات . متى سيدركون ؟! أن التاريخ قد طوى صفحة الشخابيط , وأخذ يسطر بخط الثلث العربي الأنيق ملحمة سامية , يًصعب على الأميين ـ أمثالهم ـ قراءة سطورها الرائعة , وفهم حروفها الراقية , واستشعار رسالتها الوضاءة . سطورها تفاهم فكري , وحروفها ترابط قلبي , ورسالتها تآلف روحي وتماسك جسدي . أبطالها من شمال وجنوب وشرق وغرب , ومن كل عمر وعلم وفكر وتوجه . في ثناياها .. على تعاريج الوديان , تلاقت سيولُ العرق المنهمرة من جبين الرجال في جبهات القتال , لتصنع نهرا عذبا من التلاحم والوفاء . وعلى ذرات الرمال امتزجت دماء الشهداء من كل جهة وتوجه لترسم قلبا نابضا بالحب يسع الجميع دون استثناء ولا استعلاء , وعلى صخور الجبال ترابطت جراح المقاومين من كل سن وشريحة , لتجسد وطنا ساميا بالإخاء يحتضن أبناءه دون تمايز ولا عداء .
لقد خلق ضيق الثكنات وطنا حديثا فسيحا في نفس كل مواطن , يرى الحقيقة بعين الواقع دون زيف ولا خيال . ولقد حقق غبار المواجهات وحدة جديدة ناصعة في قلب كل إنسان , يرشف ندى ترابها بلسان الصدق دون تدليس ولا جدال . اليوم لم يعد هناك فرق بين من هو البطل ! ومن هو صاحب الفضل !. اليوم لم يعد انتماء المنطقة يشكل غاية , إلا في عقول من لا يهمهم أن يُقسمَ الواحد على اثنين أو على عشرة ! . اليوم ـ بكل فخر ـ قد أصبح الجميع ذرات من صعيد تلك الأرض التي يقاتلون لأجلها , وأضحوا نسمات من هواء تلك السماء التي يدافعون عنها .
هناك ـ كما هو هنا ـ من رحم الابتلاء , ومن بطن الشقاء , ولد مولود سوي صحيح سليم , يرضع حليب الحب من ثدي السلام , ويبشر بحياة جديدة تنبض بالمساواة والإخاء .