ولأن الأمم المتحدة في عصرها الجديد، توقع اتفاقيات أكثر من تنفيذها، ولأنها معنية بالتفاصيل على الورق أكثر من حلول على أرض الواقع، ها نحن نستعد لحلقة أخرى من مسلسل حوارات جنيف الأممية. هذه المرة الوضع اليمني هو مسرحها. كل ذلك يجري بينما كان المتمردون الحوثيون، وحليفهم الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، محاصرين عسكريًا وسياسيا ودبلوماسيا، غير أن المنظمة الأممية تطل فجأة لترسل طوق نجاة لمن ضرب بكل القوانين الدولية والأعراف الدبلوماسية عرض الحائط، وأصر على مخالفتها والتعنت تجاهها، وكأن «جنيف» اليمني ليس إلا وسيلة أخرى للأمم المتحدة لإطالة أمد الأزمة لا حلها.
وعندما يكون الانطباع عن أعلى هيئة أممية في العالم أنها حريصة على توقيع اتفاقيات ورقية فقط، فإن ذلك لم يأت من فراغ، بقدر ما هي سياسات المنظمة التي رعت وساهمت وفرحت باتفاق السلم والشراكة الموقع في سبتمبر (أيلول) الماضي، ليكتشف اليمنيون والعالم أنه الفانوس السحري الذي من خلاله انقلب الحوثيون على كافة شركائهم، واحتلوا العاصمة صنعاء واستولوا على الوزارات والمؤسسات الحكومية بقوة السلاح، قبل أن يختطفوا الرئيس عبد ربه منصور هادي وأركان الحكومة، وطوال تلك الفترة كانت الأمم المتحدة صامتة ولم تنطق ببنت شفة على الانقلاب، وهو ما يؤكد أن المنظمة فشلت، ليس فقط في تنفيذ الاتفاق، بل في توقيع اتفاق غير قابل للتنفيذ أصلاً، بقدر ما كان كرتًا أخضر سمح للحوثيين بالسيطرة والاستيلاء على مقدرات الدولة اليمنية. من يصدق.. الانقلاب الحوثي في اليمن جرى عبر اتفاق رعته الأمم المتحدة!
المنظمة الأممية لا تجيب عن السؤال المعتاد: لماذا مؤتمر تشاوري جديد وهناك القرار رقم 2216 الصادر من مجلس الأمن والمستند إلى مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية؟ إلى الآن لا تعلن الأمم المتحدة حتى عن أجندة هذا الحوار، وما هي الأسس التي سيبنى عليها، صحيح أن دبلوماسيا خليجيا شرح لي كيف أن مسؤولي المنظمة يؤكدون في (الخفاء) لجميع الأطراف أن الأجندة ستكون قائمة تحت مظلة القرار 2216، إلا أن عدم إعلانهم ذلك علنًا يثير الريبة، وهو ما سمح لميليشيا الحوثيين بأن تبدأ في التلويح بفرض شروط تضعها على طاولة الحوار، بالطبع لا يتوقع من الحكومة الشرعية أن تذعن لأي ضغوط أممية في جنيف، خاصة أن الشرعية اليمنية لديها قرار صادر من مجلس الأمن يمثل خريطة طريق لأي حلول مستقبلية، وتنفيذه مطلب دولي وليس خيارًا، كما يتفاوض عليه المندوب الأممي في اليمن إسماعيل ولد الشيخ.
لا أحد يرفض السعي لمخرج سياسي يفضي لحل الأزمة اليمنية، كما لا يريد أي أحد كان أن تستمر الحرب، التي تسبب بها الحوثيون باعتراف المجتمع الدولي، لفترة طويلة، لكن أيضًا لا يمكن للحوار السياسي أن يكون انقلابًا على اتفاقيات سياسية دولية ملزمة لجميع الأطراف، هكذا يبدو مؤتمر جنيف القادم غامضًا ويحمل من الأسئلة أكثر مما يحمل من الأجوبة، فهل يمكن أن يكون مؤتمرًا يساهم في استكمال الانقلاب الحوثي الذي بدأه اتفاق السلم والشراكة؟ بل هل يكون غطاءً لنزع الشرعية وتحويل كفتها باتجاه آخر؟!
«جنيف» اليمني قادم والقلة القليلة من مصداقية الأمم المتحدة على المحك.