تفرز الحروب الأهلية طبقات مجتمعية جديدة نتيجة الاستقطابات التي تحدث وتكون الغلبة المؤقتة لأصحاب الأصوات المرتفعة والمتطرفة التي تحمل السلاح للإعلان عن مواقفها السياسية والمذهبية، ولكن كل هؤلاء ليسوا تعبيرا حقيقيا عن ضحايا خلافات حملة السلاح وروايات التاريخ، تعلمنا أن الحرب الأهلية تجيء تعبيرا عن انسداد أفق وسوء تعامل مع الموقف وتشدد القابضين على مفاصل الحكم سواء كانوا يمثلون طبقة أو منطقة أو مذهبا.
الحرب الأهلية الدائرة في اليمن مرت بمرحلتين فارقتين؛ في الأولى تمكنت جماعة أنصار الله (الحوثيين) من التمدد خارج نطاق نفوذها المذهبي في صعدة فوصلت إلى العاصمة في ٢١ سبتمبر ٢٠١٥، وتمكنت من فرض حالة بدت في الظاهر سياسية لأصحاب النوايا الطيبة (يقولون إن النوايا الحسنة هي أقصر الطرق إلى جهنم) وفي ذلك اليوم وقعت الأحزاب على (اتفاق السلم والشراكة الوطنية) وخرج الفريق (اللواء) علي محسن الأحمر من اليمن بعد أن أيقن أن مصيره لن يختلف عن زميله العميد القشيبي الذي قتله الحوثيون في عمران قبل اقتحام صنعاء، واليوم يقول خصوم الحوثيين إن تلك الاتفاقية فرضت عليهم بقوة السلاح، وهذا صحيح في جزئية كبيرة منه، ولكنه أيضا يفضح هشاشة الأحزاب وجشعها للمشاركة في الحكم بأي ثمن، وهي لم تكن مجبرة على قبول الأمر، رغم كل المبررات التي يروّج لها قادتهم كما عهدنا بعد هزيمة ١٩٦٧ بأنها مجرد نكسة.
المرحلة الثانية بدأت في ٢٠ يناير بخطوة تدل على قصر نظر وقفز فوق كل نواميس العمل السياسي، حين قامت ميليشيات الحوثي بمحاصرة منزل رئيس الدولة ورئيس الحكومة وعدد من وزرائهما واستولوا على كل مؤسسات الدولة، وحينها أيضا استمرت الأحزاب في التفاوض معهم حول المخارج، ولعل الجميع من غير أصحاب الذاكرة الضعيفة أو الحزبيين المتعصبين يتذكرون أن مجمل النقاش كان يدور حول ترتيبات الحكم وكيفية تقاسم السلطة، ومن المفيد أيضا إنعاش ذاكرة هؤلاء بأنهم تفاهموا بأن يحتفظ الرئيس هادي بموقعه رمزيا حتى تنتهي الترتيبات النهائية.
خلال فترة احتجاز الرئيس هادي وخروجه من صنعاء تجاوز الحوثيون كل قواعد العمل السياسي وعبروا عن ضيق بالآخر ورغبة للانفراد بالحكم وتحويل البلاد إلى ملكية خاصة لفئة بعينها، وتوسعت عمليات الاعتقال وتفجير المنازل، وهرب الكثيرون من بطش ممثلي الحوثيين وأنصارهم، وتحول اليمن بين ليلة وضحاها إلى ساحة حرب ممتدة من جنوب صنعاء الى أقصى محافظات الجنوب مرورا بتعز المنكوبة، ولم يتوقف طيشهم عند هذا الحد بل تصوروا قدرتهم على تهديد جيرانهم في السعودية، وأعلنوا بسذاجة سياسية عن علاقات كبيرة مع إيران.. فعل الحوثيون كل هذا وتوهموا أن خضوع الداخل سيقابله قبول الإقليم بما ارتكبوه من انتهاكات وتعريض استقرار المنطقة إلى اضطرابات لم يدرك (السيد) عبدالملك الحوثي مخاطرها ونتائجها لأنه بعيد عن أحداث العالم ويفهمها من منطلق قناعات دينية وتفسيرات لا ترتبط بالواقع.
بعد عامين من الحرب، صار من الحيوي توقف اليمنيين أمام كوارث حاضرهم، أما مستقبلهم فقضية لا أتصور أنها تثير قلقا عند من يبحث عن قوت يومه، ويتفاقم المأزق الوطني بغياب تأثير القوى التي لم تحمل السلاح ولا تقبل ما أحدثه الحوثيون في نسيج البلاد الاجتماعي والمناطقي ولكنها أيضا غير مقتنعة بأداء الشرعية، كما أن اتهام كل من انتقد الشرعية بأنه مساند للانقلاب فيه اعتساف للحقيقة، ويجب التشبث بكل المساعي لإيجاد مسالك غير طرق الحرب والدمار ففي نهاية المسار يدفع اليمنيون الحائرون بين المتقاتلين الثمن وحدهم.