تعز.. إسفنجة
بقلم/ عبد الرحمن تقيان
نشر منذ: 12 سنة و 5 أشهر و 17 يوماً
الجمعة 06 يوليو-تموز 2012 05:09 م

Ataqi2003@yahoo.com

في الماضي القريب كنا نرى أبناء تعز المدنية والسلام متحدين حول العَلـَم والقلـم، يحمون أمهم من أي فكر أو مشروع دخيل إلا في ما ندر بفضل مثقفيها وأقلامها، من صاغوا من الحبر الدرر. واليوم، تُباع مدنية وحضارية تعز الثورة لسادة الرجعية على يد بعض أبناءٍ لها طالما وصموا أنفسهم بالعلمانية والتحضر. فقد حدث قريباً أن ثمة صحفيين لامعين وشاعرَين اشتراهم شيخ تعزي كثيراً ما طعّن تعز بسيل عنف منهمر، بل أصر شذوذه عن سمات بني بلده المطبوعين سلماً وعلماً. وشرع هذا الفريق يعمل ليلاً تحت ضوء بريق المال الفارسي على تفتيت كلمة أبناء تعز وغرس مذهب الخلاف الجدلي العتيق، لتوطين ثقافة ممسوخة وشُرُخ ممجوجة تحرق حلم مشروع تعز المدني الرقيق ويهدم سقف بيتها الأنيق.

منذ أمد ليس ببعيد، كنت وعشرات الآلاف من أشد المعجبين بأعلام صحفية حرة تعزية يسارية، كان أول ما وسم كتاباتهم الشجاعة ثم الوضوح وصدق أهداف قضاياهم التي يبتغون بها مرضاة الله وملايين من اخوانهم، الذين طالما شعروا بالحماية والثقة تحت ظلال أقلامهم التي تشربت حبرها من شرعية قضايا ملايين الفقراء، فكان كلامهم ملهماً وتنويرياً ككلام الأنبياء ورسالتهم مخلصة لله... واليوم، وصَمَ كتابتهم لوث الحبر المسموم وخبث الكلم المأزوم. لن أذكر أسماء فستظهرها مقالاتهم السابقة واللاحقة. وسيشي بهم بفخر للعلن قلم ذلك الشويخ. ولن ألمح إلى ما اكتسبوا لتحسين معيشتهم، ومن أين جاءهم المعلوم! فالناس في تعز اليوم يعرفون أهداف خطر الرفض الداهم وربيبها الإمامي الموعود، فما فتئ يقدم ماله بحثاً في بلد الحرف عن موطئ قدمٍ بدمٍ، وبفكره الموصوم من خلال شراء مبادئ أناس وصلوا يومئذ من الكمال "المبدأي" درجةً لم نكن نتخيل أن نصدق أن يصلوا إلى مآلاتهم الجديدة، فتركوا رسالة النبوة ليدخلهم المال جحر العبودية.

قبل أيام عرضت قناة السعيدة برنامجاً حوارياً أداره الإعلامي المحنك محمد العامري من تعز وناقش التأثيرات التبادلية بين الإعلام والسياسة وتعمد استضافة سياسي وأحد الإعلاميين موضع المقال. عرفت من اختيار العامري للمكان ونوعية أسئلته الذكية أنه لم يرد من خلال ذلك اللقاء إلا مناقشة تحول خطاب واتجاه أمثال أولئك الإعلاميين أثناء مرحلة سياسية حساسة لقيادة توحيد الصف الشعبي ضد النظام المستبد، ليصبحوا بعدئذ من موقدي شعلة الفتنة وعباد نارها.

كانت مشاركات وحجج ذلك الإعلامي في منتهى السذاجة والتراجع والتناقض. فقد برر تراجع المبادئ التي كان يدعو الناس إليها إلى ان الصحفي هو بشر من لحم ودم يؤثر ويتأثر بالبيئة الملوثة التي تحيطه، وكأن الصحفي رجل عادي وما خلق ليكون مُبصّراً لأخطاء الناس ومنوراً لطريق التصحيح وراسماً لهم المبادئ التي ينبغي على الجميع احتذاءها.

زعم صاحبنا خلال الحوار أنه طوال عمره لم يزدرِ فرداً من الناس بسبب شكله أو لبسه وأنه فعلها مرة مع أحدهم وظل يندم لذلك طويلاً لأنه مثقف، ونسي أنه طالما جرحني وعشرات الآلاف مثلي في مقالاته خاصة الأخيرة منها لا سيما كتابه الجديد التهكمي على أبناء الزيود، حيث أظهر ازدراءه مبكراً في عنوان الكتاب حتى آخر صفحة منه. لقد كانت كلماته تحتقر المفردات والثقافة الشعبية والزي الشعبي للقبائل.

وأضاف أن معظم مقالاته تتناول علماء الدين لكرهه أن يستأثر أحدٌ بالدين لخدمة أغراض شخصية أو سياسية أياً كانت، وأنا معه في ذلك. لكننا لا ندري ونحن نتمعن في كتاباته هل معنى كرهه ذاك أن يكتفي بنقد كلام أو "فتوى" ذلك العالم أو المتدين، أو ضرورة أن يتناول الدين نفسه بالاستهتار وبعض كلمات رفضٍ مخيفة! وإن اعتبرها حرية رأي، فهل من حرية الرأي أن تستهين بمبادئ دينية يعتبرها الآخرون ثوابت لا يجوز تجاوزها وتحقيرها! أم أن الأسلم أن يكون رأيك لنفسك ولنقاشك أصدقائك ضمن دائرتك الضيقة وليست الشعبية الواسعة التي ظلَّت دائماً تطلب احترامكم لهم ومنعكم تجاوزكم مقدساتهم!

لن أطيل، إلا أني أريد تأكيد مفاجأتي لاكتشافي حقيقة أنه "كيفما كانت إجادة لسان مثل ذلك الاعلامي في المناورة والتفلسف واستغلال الأحداث لدعم حجته، فقبول نفسه السوداء للمال سحتاً أجراً للسانه لن يقبله عقله أولاً الذي يتحكم بكل تحركات ذلك اللسان الذي سيبدو مجرد عجينة مرتبكة زائغة الاتجاه تحتاج دوماً أن ترتشف كميات من سيل لعاب لترطيبها مرة من سيلان إغراء السحت، وأخرى من إحراجات الفكر والعقل وسابق مبادئ.

سأقول لك ولزمرتك.. يا من كنتم تُغنون عقولنا بالتفكير والتحليل وقلوبنا بحلم التمدن، ويا من تمتلئ أسماؤكم بمرادفات العقل والعدل والدين والفرح والاحسان والشجاعة، ستظل عقولكم الحرة تربك ألسنتكم المستعبدة، وستمنعكم من إجابة من يناديكم بأسمائكم الجميلة. ولن تسمح ثقافة ومدنية تعز الحالمة لأي منكم أن ترجعوا دواليب تقدمها إلى مواقف العبودية البائدة. وستظل تعز على انفتاحها المعتاد. وستبقى أيضاً "كالإسفنجة الناعمة" التي تشفط الماء النجس بتلوثاته، لكنها ستُبقي الكتلة الواحدة الواضحة المعالم خارج أحشائها، الحملى بالعطش ونيران الحمم وسواد أفعال عبيد.. ستبقى تعز عزاً بفضل أيادي أبنائها البيضاء ..عزيزة على ذوي القلوب الرطبة.. تعزُّ على اليمن بشرّ رجالها.. وتعتز بخيرها.