* جمال أنعم
26 سبتمبر - صحيفة وطنية محترمة، لها من اسمها ومن ثقل الجهة التي تعبر عنها ما يجعلها موضع اهتمامٍ عام وما يفرض عليها منتهى الالتزام والمسئولية على مستوى الخطاب و المهنية وفيها صحفيون متمرسون نعتز بهم أساتذة وزملاء، رفاق همٍ.
"26سبتمبر" لا تصلح لتعلم الرماية وممارسة "النّصَعْ"ولا مساحة لتصفية الحسابات أو حلبة ملاكمة، لا تصلح لتعليق مشانق جماعية ولا "بسطات" لباعة ملق مبتذلين.
الكلمة النزقة فيها قد تكون قذيفة مدفع، والرأي الأخرق قد يصير كتيبة إعدام، ومن حقنا جميعاً الفزع والهلع وإبداء الأسف وغير ذلك من المشاعر المقبضة حين يباغتنا من على عمود فيها رشاش مهووس يطلب بعيون قاتل عشوائي ثأراً -ربما- له أو لغيره، ولو بقتل وطن.
من حقنا جميعاً أن نُفْجع، حين تتقافز من معطفها السواطير، والسكاكين المتلامعة، والفؤوس الحادة، موغلة بتراً وتمزيقاً في جسد الوطن ووحدته وبرعاية ومباركة رسمية، متشفية، وبثمنٍ مدفوعٍ أيضاً من دم الوطن الضحية.
الحفاظ على الوحدة الوطنية يستوجب الحفاظ على وحدة الأحزاب ومنظومة العمل السياسي ككل، ومن العمى السياسي اللعب بأوراق مصيرية، تؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، وخسران الملعب واللاعبين والجمهور المتفرج على السواء.
الدس والوقيعة والخسة والتحريش لا تفضي إلى غايات نبيلة، ولا يمكن أن تؤدي إلا إلى مستنقع يبتلع الجميع، ولا يبقي شرف ادعاء تحقيق أي مكسب.
هذا التخريب والاضعاف المنظم للبنى الداخلية يفتح المجال لكل الشرور والتدخلات الهابة من هنا أو هناك.
تفريخ الأحزاب، والمنظمات، استنساخ الصحف، احتلال المقرات، إثارة النعرات الطائفية والعصبيات المذهبية، والحساسيات المناطقية، الجهوية، شراء الولاءات، والخيانات، فتح المقابر، إحياء المواجع، إذكاء الخصومات، إيقاظ الثارات، والفتن النائمة، بعث تواريخ الصراعات، ضرب هذا بذاك، كل ذلك يجعل الوطن ساحة احتراب جهنمية، يقهقه في مداها الشيطان على إيقاع الحرائق المتراقصة.
"الوفاء على الطريقة الاشتراكية"...مقالٌ ما كان له أن يعبر بوابة "26سبتمبر" دون تفتيش، حتى وإن لبس لامة القتال وأعلن الحرب على الاشتراكي، فلا أسوأ من متطوعٍ أعمى محميّ الظهر، لا يعرف أين يرمي ولا من يقتل.
المقال في العدد الفائت من "26سبتمبر" جاء رداً على إنكار "الثوري" لنسويته مؤكداً أنثوية القلم، وملخصاً إثارةً سابقة له في "الوسط" بعنوان "الحصاد المر" تفتش عن المواطنة الناقصة في أجندة الحزب الاشتراكي المشمول بقمع متساوٍ من السلطة القابضة.
مقالة انفصالية بامتياز، غير أن فحيحها الانفصالي مبرر هنا كونه موجه إلى قلب الاشتراكي أحد خصوم "الأقوى سلطة في البلد" والذي تنتمي إليه صاحبة المقالة-بحسب تعبيرها- .
الاشتراكي في جراب هذه التناولة المتحمسة في بحثها عن المواطنة المتساوية، يبدو غريباً كمن دخل البلاد "تهريباً" بلا جمارك في غفلة عن حراس الوحدة، الساهرين على حدودها الممتدة، لم يحصل بعد على إقامة شرعية في "أرض الوحدة"، ولم ينل بعد الدمغة الوحدوية المائزة.
المقال يبحث عن تمثيل سياسي متساوي داخل الاشتراكي لكن بحسبه جمعية خيرية، أو على أكثر تقدير وزارة تأمينات وشئون اجتماعية.. أولى مهماتها كفالة عوائل السابقين في النضال.
يتحدث بجرأة عن اشتراكي الشمال وسيطرتهم على الحزب في مقابل اشتراكي الجنوب، .."مكتوفي الأيدي..." مثل هذا الكلام عده الحزب الحاكم جنوناً، خيانة للوطن، والوحدة حين وجههه إليه الحسني- سفيرنا السابق في سوريا- لكن يبدو أن دوافعه هنا وحدوية خالصة، ومن له أن يقرأ النوايا وما في الصدور والسطور مثل الحزب الحاكم؟.
هكذا يشرع الحاكم ضرب الوحدة، حين يجعل من شريكٍ أصيل في الساحة هاجس رعبٍ يفتح شهية المتبطلين إلى أكل الوطن لَحْمَةً ولُحمةً على مائدة السلطة بعد ذبحه قرباناً لذلك الهاجس المرعب المخيف.
في خطاب الاستئثار الرسمي يتقلص مفهوم الوطن، وتغيم مفاهيم المواطنة وتبدو الوحدة غنيمة لا تقبل الزحام، ولا الاقتسام,خلاءً قابلاً للحيازة، ووضع اليد، بقاءٌ في قلب الغنيمة، يستوجب تفريق الكل وعدم الجمع إلا على واحد.
أوصياء الثوابت المُدّعُون والذين لا يتورعون عن نفي الجميع وتخوينهم، ورميهم بعيداً عن الشرعية، لم يقبلوا بالأمس "ملتقى أبناء الجنوب" وهو تجمعٌ احتجاجيٌ ضد انتقاص المواطنة، شكلته احتقانات زمن من التمييز المسكوت عنه بتواطؤ يتدثر بثوب المصلحة والحرص على عدم ملامسة جراحات طرية، نظمته نخبة من أبناء المناطق الجنوبية غالبيتهم مؤتمريون.
بالأمس أوسع هؤلاء شتماً وتخويناً وإرهاباً واعتبروا جبهة معادية للوطن، والوحدة، وتهديداً للسيادة وعلى إثر ذلك طارت مناصب وحقائب سفر رغم أن مطالبهم عادلة، حقوقية محضة تتلمس جوهر المواطنة.
غير أن الحديث عن حقوق "الجنوبي الاشتراكي" من الشمالي الاشتراكي المسيطر لا تهدد وحدة وطن الحزب الحاكم ولا تثير لديه تلك الحساسية المفرطة!!.
قد تعتبرها فضيلة وتعبيراً عن نزعة وحدوية شاملة لا تخلوا من حرصٍ أبويٍ يتوخى تعميم الخير، وإتمام النعمة، ولو بأكثر الوسائل قتلاً وتهديماً.
إن اللعب على هذا العصب دليل فشل، وثمة محارق مبرهنة على ذلك، وإن استمراء هذا النهج لن يقود إلا إلى خراب شامل لا يستثني أحداً.. وما أظن التراب وحده كافياً للشهادة على مجدٍ وحدوي محقق.
تصفية الخصم بصناعة غولٍ أو فتح مقبرة سيناريو مأساوي وعادة ما ينتهي بالتهام البطل وابتهاج الديدان.. والقوة عادة ماتستدعي خصوماً أشداء يمنحونها مزيداً من القوة والصلابة..
"من خوفه يخاف الجبان" بتعبير مجيب الحميدي ومن خوفه يخاف الحاكم، فيستنجد بالخوف، ليصبح الخوف-المنجد- عدواً له وحزناً، طاحونة احتراب، تطحن الجميع، لا منتصر فيها على الإطلاق-سوى الشيطان.
في الأحد 26 مارس - آذار 2006 09:35:23 ص